السيسي يفوّض الشعب
بقلم : وائل قنديل
وائل قنديل
سوف أفترض جدلاً أن عبد الفتاح السيسي حصل على ما وصف بأنه تفويضٌ شعبيٌّ في ذلك اليوم العبوس العابث من يوليو/ تموز 2013، لمواجهة ما أسماه "العنف والإرهاب والمحتمل"..
وسوف أتغاضى عن أن ذلك الذي جرى مجرد لغو سياسي، لا قيمة له في الممارسة السياسية المحترمة، ولا وجود له إلا في خيال المستبدّين الفقير. ومع ذلك، دعونا نسلم بأن السيسي عرض على الشعب أن يحميه ويطعمه ويسقيه، ويوفر له الأمن والأمان والرخاء، وأن الشعب وافق واستجاب وفرح وغنى، وقال له انطلق.
الآن، ماذا حدث بعد أربع سنوات من التفويض المشؤوم؟
صار الإرهاب حاضراً وحالاً في تفاصيل حياة المصريين، والدم يسيل بلا حسابٍ أو عتاب، والعنف بات لغةً وحيدةً وعملةً للتداول في العموم، ليخرج نظام السيسي، بعد كل هذا الخراب، ليطلب من الشعب حماية الشرطة والجيش من الإرهاب، الذي كان محتملاً، فصار متحققاً مع صعود السيسي.
والحاصل أنه لا معنى لمطالبة السلطة الشعب بأن يتولى حماية آلتها القمعية الباطشة من الإرهاب، سوى أن هذه السلطة قرّرت أن تتنازل عن التفويض الذي حصلت عليه، لكي تحمي المواطنين بموجبه، وتعلن بكل وضوح أنها ليست قادرةً على توفير ما طرحت نفسها لتحقيقه، لتبلغ مرحلةً أكثر عبثيةً فتتطوع بتفويض الشعب لإسباغ الحماية عليها، وعلى بطشها وتوحشّها، بمواجهة الإرهاب. حين تطلق على كل أبواقها الإعلامية تتهم الشعب بالتراخي والتقصير في الدفاع عن الاستبداد وحمايته "من العنف والإرهاب"، بل وتصل، في حمقها، إلى الطعن في انتماء الشعب ووطنيته.
كان من الممكن أن يجري التعامل مع هذه الهستيريا بشيءٍ من التعاطف، لولا أن الجماهير تلاقي من السلطة أسوأ وأبشع بكثير مما تلاقيه من الإرهاب، بل أنها تجد نفسها في مواقف كثيرة بمواجهة حصار مزدوج من تحالف الاستبداد والإرهاب ضدها.
وفي ذلك، هل يمكن تصنيف الحملة الوحشية على سكان جزيرة الورّاق في القاهرة الكبرى، والتي أدت إلى استشهاد مواطن دفاعاً عن أرضه وداره، هل يمكن تصنيفها شيئاً آخر غير الإرهاب؟!
انقضّت القوات الأمنية العسكرية على الجزيرة الفقيرة، لانتزاعها، والبدء في سيناريو تهجير السكان منها، تنفيذا لمخططٍ معد سلفاً لتفريغ المنطقة وتسليمها، بالبيع لمستثمرين عرب ينتوون استثمارها، على نحو يذكّر بالوحشية التي تعاملت بها القوات المسلحة مع سكان جزيرة القرصاية، ذات الموقع المتميز في قلب النيل، في معركةٍ امتدت خمس سنوات 2007 - 2012 أريقت فيها دماء، وشرّدت عائلات، لكي تشبع السلطة العسكرية شبقها الدائم لابتلاع وبيع كل المساحات التي تصلح فرصاً استثمارية واعدة.
الآن، تتكرّر مشاهد جريمة القرصاية في الوراق، مع فارق جوهري، هو أنه في أيام القرصاية كانت هناك مظلة تتشكل من مجتمع مدني وحالة حقوقية ومناخ إعلامي، لا تترك سكان الجزر الفقراء في العراء وحدهم، يواجهون إرهاب السلطة وقمعها، فكانت حملاتٌ شعبية للتضامن، وندوات ومؤتمرات وجبهات دفاع وشخصيات عامة تذهب إلى الاعتصام في الجزيرة ضد التهجير والتشريد.
تراجع ذلك كله، حد التلاشي، أمام النظام الحالي المتعطّش للأرباح والهيمنة الذي يتعاطى مع المواطنين، باعتبارهم أعداء، فلا عجب أن تطالع مشاهد لا تختلف عن عمليات الترانسفير في الأراضي المحتلة، فتجد البواسل الذين فرّطوا وباعوا وتنازلوا للسعودية عن جزيرتي تيران وصنافير وكأنهم يبيعون فتاة قاصراً، يخوضون معركة جزيرة الورّاق، من أجل انتزاعها من قاطنيها، حتى آخر مواطنٍ يدافع عن أرضه.
ومع كل هذا التوحش الإجرامي، لا يتورّع النظام عن مواصلة ابتزاز المواطن الذي يقهره هذا النظام، ويهدّد وجوده، بفزّاعة الإرهاب، مع تطور درامي مثير، بات فيه المواطن مطلوباً منه أن يدافع عن السلطة التي تظلمه وتهينه وتسحقه وتبيع أرضه، ضد شبح الإرهاب الذي صنعته هذه السلطة، واستدعته، ليشاركها وليمة افتراس مواطنٍ وابتلاع وطن.
الإرهاب لا يبني معسكراته في كهوف الجبال، وإنما في نفوسٍ فقدت الأمل في العدل.
بقلم : وائل قنديل
وائل قنديل
سوف أفترض جدلاً أن عبد الفتاح السيسي حصل على ما وصف بأنه تفويضٌ شعبيٌّ في ذلك اليوم العبوس العابث من يوليو/ تموز 2013، لمواجهة ما أسماه "العنف والإرهاب والمحتمل"..
وسوف أتغاضى عن أن ذلك الذي جرى مجرد لغو سياسي، لا قيمة له في الممارسة السياسية المحترمة، ولا وجود له إلا في خيال المستبدّين الفقير. ومع ذلك، دعونا نسلم بأن السيسي عرض على الشعب أن يحميه ويطعمه ويسقيه، ويوفر له الأمن والأمان والرخاء، وأن الشعب وافق واستجاب وفرح وغنى، وقال له انطلق.
الآن، ماذا حدث بعد أربع سنوات من التفويض المشؤوم؟
صار الإرهاب حاضراً وحالاً في تفاصيل حياة المصريين، والدم يسيل بلا حسابٍ أو عتاب، والعنف بات لغةً وحيدةً وعملةً للتداول في العموم، ليخرج نظام السيسي، بعد كل هذا الخراب، ليطلب من الشعب حماية الشرطة والجيش من الإرهاب، الذي كان محتملاً، فصار متحققاً مع صعود السيسي.
والحاصل أنه لا معنى لمطالبة السلطة الشعب بأن يتولى حماية آلتها القمعية الباطشة من الإرهاب، سوى أن هذه السلطة قرّرت أن تتنازل عن التفويض الذي حصلت عليه، لكي تحمي المواطنين بموجبه، وتعلن بكل وضوح أنها ليست قادرةً على توفير ما طرحت نفسها لتحقيقه، لتبلغ مرحلةً أكثر عبثيةً فتتطوع بتفويض الشعب لإسباغ الحماية عليها، وعلى بطشها وتوحشّها، بمواجهة الإرهاب. حين تطلق على كل أبواقها الإعلامية تتهم الشعب بالتراخي والتقصير في الدفاع عن الاستبداد وحمايته "من العنف والإرهاب"، بل وتصل، في حمقها، إلى الطعن في انتماء الشعب ووطنيته.
كان من الممكن أن يجري التعامل مع هذه الهستيريا بشيءٍ من التعاطف، لولا أن الجماهير تلاقي من السلطة أسوأ وأبشع بكثير مما تلاقيه من الإرهاب، بل أنها تجد نفسها في مواقف كثيرة بمواجهة حصار مزدوج من تحالف الاستبداد والإرهاب ضدها.
وفي ذلك، هل يمكن تصنيف الحملة الوحشية على سكان جزيرة الورّاق في القاهرة الكبرى، والتي أدت إلى استشهاد مواطن دفاعاً عن أرضه وداره، هل يمكن تصنيفها شيئاً آخر غير الإرهاب؟!
انقضّت القوات الأمنية العسكرية على الجزيرة الفقيرة، لانتزاعها، والبدء في سيناريو تهجير السكان منها، تنفيذا لمخططٍ معد سلفاً لتفريغ المنطقة وتسليمها، بالبيع لمستثمرين عرب ينتوون استثمارها، على نحو يذكّر بالوحشية التي تعاملت بها القوات المسلحة مع سكان جزيرة القرصاية، ذات الموقع المتميز في قلب النيل، في معركةٍ امتدت خمس سنوات 2007 - 2012 أريقت فيها دماء، وشرّدت عائلات، لكي تشبع السلطة العسكرية شبقها الدائم لابتلاع وبيع كل المساحات التي تصلح فرصاً استثمارية واعدة.
الآن، تتكرّر مشاهد جريمة القرصاية في الوراق، مع فارق جوهري، هو أنه في أيام القرصاية كانت هناك مظلة تتشكل من مجتمع مدني وحالة حقوقية ومناخ إعلامي، لا تترك سكان الجزر الفقراء في العراء وحدهم، يواجهون إرهاب السلطة وقمعها، فكانت حملاتٌ شعبية للتضامن، وندوات ومؤتمرات وجبهات دفاع وشخصيات عامة تذهب إلى الاعتصام في الجزيرة ضد التهجير والتشريد.
تراجع ذلك كله، حد التلاشي، أمام النظام الحالي المتعطّش للأرباح والهيمنة الذي يتعاطى مع المواطنين، باعتبارهم أعداء، فلا عجب أن تطالع مشاهد لا تختلف عن عمليات الترانسفير في الأراضي المحتلة، فتجد البواسل الذين فرّطوا وباعوا وتنازلوا للسعودية عن جزيرتي تيران وصنافير وكأنهم يبيعون فتاة قاصراً، يخوضون معركة جزيرة الورّاق، من أجل انتزاعها من قاطنيها، حتى آخر مواطنٍ يدافع عن أرضه.
ومع كل هذا التوحش الإجرامي، لا يتورّع النظام عن مواصلة ابتزاز المواطن الذي يقهره هذا النظام، ويهدّد وجوده، بفزّاعة الإرهاب، مع تطور درامي مثير، بات فيه المواطن مطلوباً منه أن يدافع عن السلطة التي تظلمه وتهينه وتسحقه وتبيع أرضه، ضد شبح الإرهاب الذي صنعته هذه السلطة، واستدعته، ليشاركها وليمة افتراس مواطنٍ وابتلاع وطن.
الإرهاب لا يبني معسكراته في كهوف الجبال، وإنما في نفوسٍ فقدت الأمل في العدل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق