يوليو والأقصى في ملاهي التاريخ
بقلم: وائل قنديل
لو كان المنطق حاضراً في حياتنا العربية،
فإن معركة الأقصى الدائرة الآن يجب أن تكون الشغل الشاغل، لكل من يعيش على
هذه الأرض. لكن، ولأننا نعيش الملهاة الكاملة، فإن الطاقة كلها مبدّدة في
اشتباكات عبثية، تختبئ في أدغال التاريخ، هرباً من استحقاقات اللحظة
الراهنة.
كم مرة قرأت وشاهدت قطعاناً من المستوطنين الصهاينة يقتحمون الأقصى، متقدّمين على الجنود المسلحين؟
كم مرة وجدتهم يهاجمون الفلسطينيين، أصحاب الأرض، ويقتلعونهم من بيوتهم اقتلاعاً، ويحرقون الطفل الرضيع وأشجار الزيتون؟
لقد جعلوا فلسطين كلها ساحة حرب، يتفوّق
فيها المستوطنون على الجنود في الكراهية والرغبة في الاجتثاث والإبادة،
بحيث صار المستوطن (المدني البريء بمقاييس الملهاة) أكثر شراسةً في القتال
والعدوان، ثم يصبح مطلوباً منك أن تدين فعل المقاومة وتجرّمه، لتحصل على
شهادة متحضر ومستنير.
يقول التاريخ إنه في البدء لم يكن ثمّة
جيش إسرائيلي، بل مجموعات من المدنيين المستعمرين هجموا على البلاد
وافترسوها وطردوا أهلها، واستولوا على البيوت والمزارع، بحيث صار كل شبرٍ
على أرض فلسطين مغتصباً ومسروقاً بقوة الإجرام، وقوة التواطؤ السياسي،
المتخفّي في شعارات الباحثين عن شهادات الاستنارة الممهورة بالختم
الصهيوني.
كل مستوطنة إسرائيلية هي قرية فلسطينية
منتزعة، وكل مسكنٍ لإسرائيلي هو بيت فلسطيني مسروق، وكل مدني هو محاربٌ
أكثر وحشيةً وشراسةً ضد الحق وضد العدل وضد المنطق، ومن ثم يبقى كل مترٍ من
الأرض الفلسطينية دار حرب، فرضها المحتلون، ووضعوا قوانينها وشروطها
الهمجية.
هو وحده الخلل المنطقي، أو المنطق المختل،
الشرير الذي يقفز على الحقائق الثابتة، ويجرّم رد الفعل، ويدين المقاومة،
ويطلب منك، بمنتهى الخفّة، أن ترى المستعمر المحتل الغاصب مدنياً لطيفاً،
حتى وهو يحرق طفلك، ويقضم أرضك لبناء مستوطنةٍ جديدة، ثم يطالبك بالبكاء
على المعتدي، حتى تنجو من اتهاماتهم بالعنصرية والكراهية الدينية، وهذا هو
الدجل بعينه، ذلك أن الفلسطيني لا يقاوم المعتدي لأنه يهودي، بل لأنه
محاربٌ ومستعمرٌ وسارق للأرض وحارق للبشر.
هو العبث بالتواريخ ذاته الذي يطلب من
المصريين الانصراف عن كارثية اللحظة الراهنة، والارتداد إلى اللعب بتاريخ
النضال الوطني، ليصبح مطلوباً منك أن تخوض معركة الاستقطاب الحاد بين محمد
نجيب وجمال عبد الناصر، وتلعن حركةً وطنية، تشارك فيها الضباط والإخوان
المسلمون للتخلص من احتلال أجنبي، وحكم فاسد وإقطاع وفقر ومذلة حضارية.
وبصرف النظر عن موقفك من عسكر هذه الأيام ،
فإن حركة يوليو/تموز 1952 كانت مشروعاً وطنياً جامعاً للتحرّر من
الاستعمار والحكم الملكي، غير المصري، شارك فيها الضباط و"الإخوان"، معاً،
ويمكنك الرجوع في ذلك إلى عشرات الشهادات والوثائق التاريخية التي تؤكد هذه
الحقيقة، منها، على سبيل المثال، شهادات قيادات من "الإخوان المسلمين"
والعسكريين.
منها شهادة الضابط الأخواني صلاح شادي
الذي قال نصاً في مذكراته إنه" واتفق على أن يتولى الإخوان مسؤولية
الانقلاب وحمايته، والدفاع عنه من الناحية الشعبية، أي أن الضباط الأحرار
يقومون بالجانب العسكري في الانقلاب، ويقوم الإخوان بالجانب الشعبي".
بل أن شهادة المؤرّخ العسكري وعضو مجلس
قيادة الثورة، جمال حمّاد، لا تمتفي بتأكيد شهادة صلاح شادي، وإنما تذهب
إلى أبعد من ذلك بتغيير موعد التحرك، بناء على طلب الإخوان، بعد اجتماعات
مكثفة للضباط وقيادات تنظيم الإخوان، أرجأت التنفيذ إلى حين وصول رأي
مرشدهم العام في ذلك الوقت، حسن الهضيبي.
ويجزم جمال حمّاد بأنه "ليست لدينا أية
أسباب تدعونا إلى الشك في صحة هذه الواقعة التي رواها صلاح شادي، فإن
الدلائل والبراهين كلها تؤيد صدقها.. لقد اعترف معظم أعضاء لجنة القيادة
للضباط الأحرار بحدوث هذا الاتصال بين التنظيم والإخوان المسلمين عقب
اجتماع اللجنة يوم 18 يوليو، والذي استقر فيه الرأي على ضرورة الإسراع
بالحركة".
صحيح أنه بعد خروج الاستعمار ورحيل الحكم
الملكي، بدأ الصراع بين الضباط والإخوان، وانتهى بالتخلص من الإخوان وتدشين
حكم العسكر، بكل ما فيه من كوارث، لكن الخلاصة أنها كانت حركة وطنية،
باركها وشارك فيها الإخوان، والتفّ حولها الشعب، بصرف النظر عن المآلات
الكارثية فيما بعد.
والشاهد أن الجميع يتشاركون في شهوة
الانتقام من التاريخ، مديرين ظهورهم لحاضرٍ بائس، يدير عملية حرق أي مستقبل
محترم بكل براعة، فتحارب الأمة نفسها، ببسالةٍ منقطعة النظير، لصالح
أعدائها وخصومها الحقيقيين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق