اللواء حمزة البسيوني.. العسكري الأسود!!
مقدمة
في 19 نوفمبر عام 1971 كانت سيارة تحمل رجلا وشقيقه في طريقهما الي القاهرة عائدين من الإسكندرية عندما واجهتهما فجأة سيارة نقل محملة بأسياخ الحديد واصطدمت بسيارتهما وماتا علي الفور . كان المفجع أن اسياخ الحديد اخترقت جثة سائق السيارة والذي لم يكن سوي الفريق حمزة البسيوني مدير السجون الحربية في عهد عبد الناصر .
وقتها رقص الناس طربا ومرحا كما ينقل مصطفي أمين لمصرع الرجل الذي عذّب وقتل العشرات في سجون الثورة المباركة.. ولاشك ان قصة الرجل تصلح كبحث مختصر حول آخرة الطغيان والظلم .
بدايات غامضة
لم يرد اسمه في مذكرات قادة ثورة يوليو كواحد ممن لعبوا دورا في تنظيم ثورة يوليو عام 1923 وانما نسب اليالضباط الأحرار كواحد ممن انضموا الي الحركة قبل ليلة 23 يوليو.
وعلي الرغم من أن القائمة التي أعلنها الرئيس الراحل أنور السادات للضباط الاحرار في القرار الجمهوري رقم 1386 لسنة 1972 لم تتضمن اسمه بين 168 ضابطا تم اقرار معاش لهم يعادل معاش الوزراء ، الا أنه ورد ضمن قوائمالضباط الأحرار المعلنة في مذكرات كل من عبد اللطيف بغدادي وصلاح نصر والتي تضمنت اكثر من 300 ضابط كانوا اعضاء بالتنظيم .
وطبقا لمنهجنا البحثي المستبعد للاحكام الرسمية والمعلومات الصادرة عن مؤسسات الدولة، فإننا سنأخذ بقوائم اعضاء تنظيم ثورة يوليو، وهم خارج السلطة ، لذا فإننا نؤكد معلومة عضوية حمزة البسيوني في تنظيم الضباط الأحرار .
وقد ورد اسم الرجل في قائمة الضباط الأحرار التي كتبها عبد اللطيف البغدادي في مذكراته ضمن ضباط القاهرة باسم"سيد حمزة حسين البسيوني ". وقد كانت رتبة حمزة البسيوني وقت قيام ثورة 23 يوليو صاغ أي رائد، وهو ما يشير الي أن الرجل كان عمره في حدود ثلاثين أو واحد وثلاثون عاما بمعني أنه من مواليد 1922 أو 1923 . والحقيقة أن أيا من الكتب التي تحدثت عن الرجل لم تشر من قريب أو بعيد عن تاريخ مولده ، حتي أن موسوعة العسكريين المصريين لم تقدم تاريخ ميلاده ضمن المعلومات المتاحة عنه .
ويبدو أن الصاغ سيد حمزة البسيوني لم يكن يهتم بلعب أي دور سياسي في سنوات عمله الاولي وهو ما جعله غائبا عن مذكرات وذكريات معظم قادة الضباط الأحرار أمثال اللواء محمد نجيب ، خالد محيي الدين ، وجيه أباظة ، عبد اللطيف البغدادي ، حسين الشافعي، كمال الدين حسين ،وحتي أنور السادات نفسه في كتابيه قصة الثورة كاملة ، والبحث عن الذات.
ولم يعرف اسم حمزة البسيوني الا في عام 1954 حيث أوكلت له مهمة الاشراف علي السجن الحربي بمدينة نصر والذي هدمه الرئيس انور السادات فيما بعد في اطار اطلاق الحريات .
في ذلك الوقت بدأ الناس يسمعون همسا باسم "حمزة البسيوني" أو الوحش ، وبدأ البعض يردد حكايات وقصصا مفزعة عن "الاوبرج" أو " الباستيل" كناية عن السجن الحربي الذي احتضن كثيرا من المدنيين من الساسة والكتاب والمفكرين في وقائع ربما لم تشهدها مصر من قبل ولم تتكرر من بعد .
عام الصراعات
ومن المهم ونحن نستعرض جوانب شخصية حمزة البسيوني أن نشير الي الظروف التي صاغت تلك الشخصية النادرة والرجال الذين احاطوا به وساهموا في تشكيل سلوكه وتصرفاته بشكل عام . لقد كان عام 1954 هو أعنف أعوام المواجهة بين ثورة يوليو وأعدائها كما يذكر المؤرخون .
هذا العام دخل عبد الناصر معركة شرسة مع رئيس مجلس قيادة الثورة محمد نجيب ونجح في اقصائه وتحديد اقامته ، وتخلص عبد الناصر من جميع الساسة القدامي في محاكمات شرسة أجرتها محكمة الثورة ، ثم تخلص من جماعة الإخوان المسلمين بإصدار قرار بحلها ثم بتدبير حادث المنشية أو بتشجيع بعض عناصر الإخوانبالقيام به ، ثم التخلص من معارضيه داخل مجلس قيادة الثورة نفسه مثل خالد محيي الدين ويوسف صديق .
في تلك الاثناء كانت كفة السياسة تميل بشكل واضح تجاه عبد الناصر ذلك الرجل الذي استطاع أن يبني لنفسه زعامة اقليمية وشعبية غريبة، وكان علي جميع الطامحين في الصعود السياسي أن يعلنوا ولاءهم الكامل والتام الي عبد الناصر شخصيا، وعرفت مصر وقتها ظاهرة كتابة التقارير واعلانات الولاء والنفاق الي أقصي درجة .
ومع اطلاق الرصاص علي عبد الناصر في ميدان المنشية بالإسكندرية وهتافه وقتها "أنا جمال عبد الناصر، الذي علمتكم العزة والحرية والكرامة" كان من الواضح ان ذلك الرجل اختار الطغيان وتحويل جميع الناس الي عبيد .
لقد تعجب الكاتب العظيم عباس محمود العقاد من تلك العبارة وقال لتلاميذه ستعيشون لترون هذا الرجل يحول الشعب الي عبيد . وبالفعل رحل العقاد عام 1964 ولم يشهد كافة جرائم العهد الناصري التي افتضحت بعد نكسة يونيو 1967 انكشفت تماما بعد وفاة عبد الناصر في سبتمبر عام 1970.
في عام 1954 بادر كثير من الساسة والكتاب الي تأييد الرئيس عبد الناصر تأييدا واسعا، وحتي زملائه في مجلس قيادة الثورة كان عليهم توضيح مساندتهم للرجل الذي اصبح زعيما كبيرا ، فاتجه كثير منهم الي مخاطبة عبد الناصر بكلمة " ريس " بدلا من "جمال " كما كانوا ينادونه قبل ذلك .
ومع استعانة عبد الناصر بزملاء السلاح في تدعيم اركان نظامه والتوسع في منح العسكريين سلطات داخل كافة المؤسسات المدنية سارع كثير من العسكريين باعلان ولائهم للرجل عن طريق محاربة والتنكيل بمن اعتبروهم أعداء له حتي تم الاعتداء علي القاضي الشهير عبد الرازق السنهوري في مجلس الدولة وعلي الزعيم الوطني أحمد حسين زعيم مصر الفتاة وقد برزت أسماء عديدة لعسكريين برعوا في ضرب الساسة والتنكيل بهم بل وتعذيبهم كان منهم أحمد أنور ، وحسن خليل بل وصلاح سالم نفسه ، الذي كان يضرب وكلاء وزارة الزراعة وكبار موظفيها بـ"الشالوت " كما يذكر الكاتب والمؤرخ احمد رائف .
في هذه الظروف نما وترعرع حمزة البسيوني وفي تلك الاثناء بدأ يكشر عن أنيابه وبدأ الناس يسمعون اسمه وحكاياته .
مولد جلاد
في كتابه " الإخوان المسلمين بين إرهاب فاروق وعبد الناصر " يحكي علي صديق بداية رؤيته لحمزة البسيوني في السجن الحربي بعد حادث المنشية في 26 أكتوبر عام 1954 .
يقول الرجل : " لقد اشتركت كافة اجهزة الدولة في تعقب الإخوان والقبض عليهم ونقلهم الي سجن مصر أو سجن القلعة . وكان مجلس قيادة الثورة يبعث في طلب من يريده ليجري عليه عمليات التعذيب الجسدي من نفخ من الخلف الي وضع الطوق الحديدي حول جمجمته الي الضرب بالسياط ثم اعادتهم الي السجن مرة اخري. "
ويحكي سيد عبد النبي احد اعضاء الإخوان الذين اعتقلوا بالسجن الحربي عام 1954 في حوار مع " اخوان اون لاين أغسطس 2010 ": " كانت مساحة السجن الحربي من 5 - 6 أفدنة وبه سجن 3 وسجن 4 والسجن الكبير وسجن "الشفخانة"، وأذكر أننا كنا نصعد إلي المكاتب بالأسماء للتحقيق، و"الميكرفونات" تنشد أغنية أم كلثوم التي تمدح عبد الناصر أثناء ضربنا، وتشدو بأغنية "يا جمال يا مثال الوطنية."
التعذيب بالكلاب
ويحكي مصطفي أمين في كتابه الشهير "سنة أولي سجن " نقلا عن أحد المعتلقين الذين التقاهم داخل السجن الحربي كيف استقبل عند دخوله "الاوبرج" عام 1954 بكلبين هما "ميمي" و"ليلي" ، حيث التفا حوله لينهشا لحمه .
ويقول إن حمزة البسيوني اصطحبه الي معتقل" 3 "وتركه فريسة للكلبين،ثم أحضر له ورقة وقلم وطلب منه كتابة كل شيء عن حياته . ثم يكشف الكاتب الكبير قصة الكلب الاكبر والاقوي " لاكي " الذي لا يمكن أن يصدق أحد أنه كلب نظرا لضخامته ووحشيته وقد كان الضباط يخشونه ويسرعون الخطي اذا تم جلبه لأحد.
ويقول صاحب كتاب " سنة أولي سجن " ايضا:
كان حمزة هو الملك، وكلاب السجن هم أصحاب السمو الامراء ، فقد كان في المعتقل رقم 3 محموعة من الكلاب اكبرها لاكي وكان هناك الكلب ركس الذي يعتز به حمزة البسيوني والكلبة عنايات زوجة ركس وكانت هناك كلبة تدعي جولدا .
:وكان أفخر انواع اللحم مخصصا للكلاب وأحقرها للمسجونين السياسيين ، وكانت الكلاب تأكل اولا ثم يأكل الحراس ، والويل للحارس الذي يأكل من اللحم قبل أن تنتهي الكلاب من طعامها . إن سعادة ملك التعذيب اشترط ان يكون خدم الكلاب من حملة الشهادات العليا ووقع الاختيار علي خريج من كلية الاداب ، وآخر من كلية الهندسة وثالث من كلية العلوم ورابع من كلية الطب .
وينقل مصطفي أمين في كتابه "سنة ثالثة سجن" عن المستشار حسن الهضيبي المرشد الثاني لجماعة الإخوان المسلمين أنهم اكتفوا في السجن الحربي بحبسه داخل زنزانة فيها 15 كلبا وكانت تلك الكلاب تتبول عليه وتتشاجر وتقذف عليه .
ويحكي فريد عبد الخالق في حواره مع أحمد منصور في برنامج "شاهد علي العصر " في قناة الجزيرة كيف تم وضعه خلال اعتقاله في زنزانة صغيرة مع كلب جائع ، وكيف لم يقترب منه الكلب وحاول الخروج بأي شكل !
أساليب تعذيب مبتكرة
وتفيض مذكرات المساجين السياسيين بدءا من زينب الغزالي وعلي جريشة وحتي مصطفي أمين وضحايا كمشيش سردا لأساليب التعذيب وفنونه المبتكرة التي سادت في السجن الحربي والتي نقلها بعض الضباط فيما بعد الي غيرها من السجون .
إن الطريقة التقليدية للتعذيب كانت التعليق في الشباك أو السقف أو في سارية والضرب بالسياط بعد دهن الجسد كله بالزيت حتي يكون اللسع أكثر ايلاما . وهناك آلة النفخ التي يحكي علي صديق السجين الاخواني كيف رآهم يستخدمونها مع المعتقل علي الفيومي ، وتتم عن طريق ادخال منفاخ صغير الي دبر المتهم ويتم النفخ فيه حتي تمتليء بطنه بالهواء وبعدها يقف أحد الحراس .
وهناك طريقة أخري اسمها "التعليقة" وهي عبارة عن خطاف يعلق في اطراف البنطلون وتمتد حتي سقف الغرفة ويبقي المتهم في وضع مقلوب عدة ساعات .
ومن الطرق الاخري اغراق المتهم في برميل مياة مليئة بالقاذورات حتي يضطر الي ابتلاع كميات كبيرة منها .وكان "التعطيش" من الاساليب المتبعة في الضغط علي المساجين السياسيين للاعتراف امام حمزة البسيوني .
ويذكر علي عشماوي في كتابه "التاريخ السري للإخوان المسلمين"
أنه كان معلقا ويتم ضربه بالكرباج وأمامه شمس بدران مدير مكتب المشير عبد الحكيم عامر يدعوه للاعتراف عندما دخل عليهم رجل طويل أبيض له شارب غليظ وقال له شمس بدران:تفضل يا باشا.
:وأمسك ذلك الرجل الذي علم علي عشماوي فيما بعد انه حمزة البسيوني برقبته وأخذ يضغط علي الحنجرة ضغطات معينة كان من الواضح انه مدرب عليها وكلما ضغط قارب الرجل المعلق علي الاغماء فيتركه قليلا وهكذا وكان العذاب لا يحتمل .
ويحكي " عشماوي " ايضا كيف كان حمزة البسيوني يضربه بالسوط بنفسه فيلسع به احدي خصيتيه فلا يخطئها في كل ضربة كأنه فنان .
ويقول احمد رائف في كتابه الموسوعي "البوابة السوداء" ساردا اهوال السجن الحربي الذي أمضي فيه سنوات طويلة "
إن العذاب يبدأ من الاهانة والصفع والضرب بالعصا، ثم يتنوع لنجد أن يتولي بعض المساجين صرب بعضهم بعضا، ثم هناك الزحف علي أربع، واطلاق اصوات الاغنام، والسير حفاة عراة علي ألواح بها مسامير، ثم كنس الارض من الزجاج بالايادي العارية .
:فاذا أصيب احد بجروح تركوه في العراء حتي يجف جرحه ومن انواع العذاب الاخري التي يسردها "رائف" أن يتم ايقافه علي هاوية معصوب العينين ويقال له اقفز لقد تقرر اعدامك . فيتمنع ثم يحاولون معه مرة اخري حتي يعترف بما يريدون .
لكن أقصي مشاهد التعذيب تلك التي كانت تحكيها زينب الغزالي في كتابها "صور من حياتي " والتي وصلت الي حد تعرية الاناث والتهديد ومحاولة الاغتصاب. ومهما كانت درجة صحة تلك المقولات فإنه كان من الواضح ان الجلادين في السجن الحربي وعلي رأسهم حمزة البسيوني لا يعرفون الرحمة أبدا .
ضحايا بالمئات
كثيرون كانوا ضحايا الجلاد حمزة البسيوني. قبض عليهم وعذبوا وحقق معهم واعترفوا بهتانا وظلما بما لم يفعلوا.كان معظم الضحايا من الإخوان المسلمين والذين تعرضوا لأكبر المحن خلال عهد عبد الناصر فقد اعتقلوا في 1954، ثم في 1965 تحت زعم مؤامرات التخلص من عبد الناصر .
ولاقي الإخوان تعذيبا وحشيا في السجن الحربي علي يد حمزة وأعوانه ومات كثيرون داخل أسوار السجن تحت وطأة التعذيب وتم تحرير محاضر بهروبهم . لقد تعددت الشهادات والروايات حول من قتلوا تعذيبا وأبلغ عن هروبهم ،بل وتمت محاكمتهم بعد ذلك والحكم عليهم غيابيا .
وتعد حادثة مصرع إسماعيل الفيومي تحت التعذيب في السجن الحربي واحدة من تلك الحوادث وكان الفيومي ضابطا في الحرس الجمهوري وتم اتهامه بالتآمر علي قتل عبد الناصر ضمن تنظيم الإخوان المسلمين عام 1965
وتحكي مذكرات الإخوان كيف قتل إسماعيل الفيومي في السجن الحربي . لقد عُلِّق في "الفلقة"، وأخذ الزبانية يضربون ويستريحون، واشترك في ضربه أربعة من جزاري السجن الحربي هم:سعيد بدوي، صفوت الروبي، محمد رجب محمد بكر، .نجم الدين مشهور.
اثنان يتبادلان الضرب واثنان يستريحان.. واستمر التعذيب من الصباح.. حتى هتف المؤذن "الله أكبر" لصلاة العصر.. عندها لفظ الشهيد إسماعيل الفيومي آخر أنفاسه، وصعدت روحه إلي بارئها وهو معلق علي "الفلقة".. وفي هذه الأثناء.. مرَّ اللواء حمزة البسيوني ، ونظر في رأس الضحية ورقبته مدلاة من الفلقة، فقال: الواد مات.. خلاص.. بلغوا عنه فرار.
وجاء عسكريان يحملان جردلين وقطعة من القماش ودخلا زنزانة إسماعيل الفيومي، وبعد فترة خرجا منها وأطفئت أنوار السجن وأنزلوا إسماعيلَ ملفوفًا في بطانية وحملوه في عربة.
وقتها نشرت الصحف خبرين عن إسماعيل الفيومي أحدهما من مكتب شمس بدران إلي مكتب الرقابة ومفاد الخبر الأول هو أن الشرطي إسماعيل الفيومي قد هرب من السجن الحربي، وكان متهمًا في قضايا الإخوان المسلمين.. والغريب أن خبر هروب الفيومي نُشر بالصحف ومعه الجملة التالية "مكافأة مالية لِمَن يُرشد عنه.
والثاني نشرته جريدة الأهرام أيضًا علي أنه وارد من جميع وكالات الأنباء مفاده "أن الشرطي إسماعيل الفيومي قد تمكَّن من الهرب إلي سويسرا"، ولم تكتفِ الصحيفة بهذا الشق من الخبر.. بل أوردت أن الشرطي المصري المسكين عقد مؤتمرًا صحفيًّا "بالفرنسية" في جنيف العاصمة السويسرية، وهاجم في المؤتمر المزعوم نظام الحكم في مصر في ذلك الحين.
وهناك قصص أخري عديدة نشر عن بعضها المستشار محمد عبد السلام في كتابه الشهير "سنوات عصيبة" وكان الرجل نائبا عاما في مصر وقد تلقي عرائض اتهام بالتعذيب لم يستطع تحقيقها بسبب اعفائه من منصبه .
كان من بين تلك القصص قضية المواطن محمد نظمي سلطان الذي اعتقل في السجن الحربي في فبراير 1967 وتعرض للتعذيب بالضرب بالسوط المجدول والوضع في الماء المثلج، ثم التعليق في خطاف بالوضع المقلوب وهو ما كان يتم بحضور اللواء حمزة البسيوني قائد السجن الحربي .
ومن بينها ايضا أن اربعة مواطنين هم محمود فهمي دياب ، احمد مجمد الروبي ، جرجس ابراهيم سعد ، ابراهيم حسنين بخيت اعتقلوا في 10 يناير 1956 وتم اقتيادهم الي السجن الحربي وضربوا للاعتراف باختلاس اموال الدولة .
ومنها كذلك أن رجال الشرطة العسكرية اعتقلوا المواطن عثمان العوضي واقتادوه الي السجن الحربي وعلقوه في فلكة وضربوه بالسوط . كذلك ففي 27 نوفمبر1966 تم اعتقال احمد عبد الفتاح نعيم واحمد حسن العزب وعذبا لنفس الغرض وتركا في غرفة مليئة بالكلاب ومغمورة بالماء .
كما جاء في التحقيق رقم 40 لسنة 1968 أن محمد احمد الشامي وحافظ داود قد عذبا في السجن الحربي يوم 19 يونيو 1966 وضربا بالسياط وتم اطلاق الكلاب عليهما لحملهما علي الاعتراف في قضية رشوة .
ولعل أبشع أنواع التعذيب قد ظهرت كما يقول النائب العام السابق محمد عبد السلام في التحقيقات رقم (3و4 و5 و7 و14 و20 و27 و28و34 و36 و39 و5و6و47 و48 و54 و58 و66 و67 و68 و86 و92 و96 و102 و106 لسنة1968) عريضة تعذيب فيما يخص التحقيق في الجناية رقم 22 لسنة 1967 المعروفة بقضية كمشيش جيث تم تعذيب المتهمين باقتلاع اظافرهم وضربهم بالسياط والباسهم ملابس نسائية في السجن الحربي .
ويؤكد محمد عبد السلام أن الخطير في معتقلي قضية كمشيش أن اربعة من المتهمين توفوا بعد خروجهم من السجن تأثرا باصابات نتجت عن التعذيب ، وهم عبد الحميد شبل ، عبد الحميد تعلب ، سالم الزرقاني ، عبد الغني أبو رواش .
السجان يتحول الي سجين
لقد ترقي حمزة البسيوني سريعا وصعد من رتبة رائد عام 1952 الي لواء بداية الستينيات من القرن الماضي قبل أن يحصل علي رتبة الفريق قبل حرب 1967 . ويحكي المساجين السياسيين انه خطب في السجن الحربي قبل النكسة بأيام وقال انه هو القانون والدستور ، وأنه هو الآمر الناهي ، وانه يحيي ويميت .
وبعد أيام من النكسة صدرت قرارات تصفية رجال عبد الحكيم عامر في مصر وصدر قرار باحالة البسيوني علي المعاش ثم القبض عليه والتحقيق معه فيما هو منسوب اليه من انحرافات .
وقد بقي "البسيوني " في السجن عامين ، الا أنه لم يحاكم لأنه طبقا لرواية مصطفي أمين كان يحدد اسم الشخص الذي أمر بتعذيب كل حالة من حالات التعذيب ، ووجدت وقتها سلطات التحقيق أن محاكمته ستفتح ملفات أناس كبار مازالوا في السلطة منهم شعرواي جمعة رجل المخابرات ووزير الداخلية ، وسامي شرف رئيس مكتب الرئيس عبد الناصر ، وزكريا محيي الدين ، وغيرهم .
ويقول الكاتب الصحفي صلاح عيسي والذي التقي حمزة البسيوني وهو مسجون في سجن القلعة :"كان حمزة البسيوني هو الشخصية الثانية البارزة التي رأيتها في سجن القلعة عندما عدت اليه للمرة الثانية في ربيع 1968 وكانت تهمتي هي المشاركة في مظاهرات طلاب الجامعة التي خرجت في ذلك الربيع تحتج علي هزيمة 1967 وتطالب ، بالكشف عن المسئولين عنها وتهتف (وديتو فين فلوسنا.. واليهود بتدوسنا).
" كنت أتلصص كالعادة من ثقب زنزانتي رقم 3 بمعتقل القلعة وكان الزمن يوما من بداية صيف 1968 حيث شاهدت رجلا وقورا شعره ابيض كالثلج يتهادي في الممر في طريقه الي مكاتب الادارة وخلفه احد المخبرين وكان الرجل يحاول ان يستشف ما وراء ابواب الزنازين المغلقة، وصاح المخبر فيه: بص قدامك يا سيد.. امتثل في رعب للأمر، وحث خطاه حين مر امام زنزانتي فلم يتح لي وبعد ساعتين من الانتظار مر الرجل امام باب زنزانت "
ويحكي الشاعر احمد فؤاد نجم في مذكراته التي نشرتها جريدة "اليوم السابع" عام 2010 أنه قابل حمزة البسيوني في السجن وكان كثير من المساجين يسبونه ويضربونه وهو يتعامل معهم كالفأر . ويدعّي "نجم " انه ضربه بنفسه وسبه في دورة مياه السجن!ويقول انه رآه يتوضأ للصلاة فقال له " أنت فاكر ربنا هيسيبك تدخل الجنة ؟"
ورغم كل ذلك فقد رآه نجيب محفوظ علي أحد مقاهي العباسية في نهاية الستينيات . يحكي جمال الغيطاني في كتابه عن نجيب محفوظ ما يلي:" ذات يوم رأينا شخصا ابيض البشرة، ابيض الشعر متوسط القامة، عيناه غريبتان، كأنهما مقلوبتان إلي الخارج، وأصابع يده نحيلة، مدببة المقدمة، كأنها مخالب الطيور، عندما دخل الي المقهي ساد صمت غريب...
وأسرع الجرسون بإحضار نرجيلة وضعها بجواره، وفرد أمامه الشطرنج، وبدأ احد الجالسين يلاعبه ، وسألني محفوظ:من هذا؟فسألت الجرسون بدوري ، فأجاب هوحمزة البسيوني مدير السجن الحربي السابق .فأتسعت عينا نجيب محفوظ وولدت وقتها رواية " الكرنك " ، والتي تم تمثيلها فيلما سينمائيا قام ببطولته نور الشريف وسعاد حسني وأدي دور حمزة البسيوني فيه الفنان كمال الشناوي .
نجم سينمائي
وفيما بعد شاعت قصص التعذيب ووجد كثير من الروائيين في شخصية حمزة البسيوني تمثيلا دقيقا لشخصية الجلاد السادي الذي لا يكترث بالآلام والصرخات والدماء ويدوس علي الاخلاق لخدمة سادته . في تلك الاثناء كتب الاديب نجيب الكيلاني روايته " رحلة الاخوين الي الله " وتحدث فيها عن السجن الحربي واختار قائده شخصا فظا بلا دين هو عطوة الملواني ، والذي يستمتع وهو يعذب ضحاياه .
وكتب فاروق صبري فيلما سينمائيا بعنوان " احنا بتوع الاتوبيس " عن واقعة حقيقية حكاها جلال الدين الحمامصي في كتابه " حوار خلف الاسوار " وقد قام ببطولته كل من عادل امام وعبد المنعم مدبولي، وظهرت شخصية حمزة البسيوني في السجن باسم "رمزي " ومثل دوره الفنان سعيد عبد الغني والذي مات في نهاية الفيلم نتيجة ثورة السجناء عليه بعد قتله لأحد المعتقلين خلال التعذيب .
كما كتب حسن محسب قصة فيلم " وراء الشمس " عام 1978 بطولة شكري سرحان ورشدي اباظة ونادية لطفي ويظهر مدير السجن الحربي في الفيلم بشخصية " الجعفري " التي يجسدها رشدي اباظة . وقد تم منع عرض ذلك الفيلم نظرا لاحتوائه علي مناظر تعذيب بشعة ولحساسية القضايا التي يناقشها .
وكتب وحيد حامد ايضا فيلمه الرائع " البريء" الذي قام ببطولته احمد زكي وممدوح عبد العليم واخرجه المخرج العظيم عاطف الطيب وقد ظهر حمزة في الفيلم بشخصية الضابط شركس التي قام بتمثيلها الفنان محمود عبد العزيز وظهر ساديا يحب تعذيب المتهمين ويطلق عليهم الافاعي والكلاب ويسمي جميع المعتقلين السياسيين بأعداء الوطن . بينما يظهر نفس الضابط مع أسرته كشخصية لطيفة تحب الاطفال وتلعب معهم وتضحك وتتعامل معاملة جيدة مع الاصدقاء والاقارب! .
نهاية درامية
ظل الفريق حمزة البسيوني غائبا عن الاعلام والاضواء بعد خروجه من السجن ، وتناسه الناس الا ضحاياه الذين أصيب بعضهم بعقد نفسية وأصيب البعض الآخر بعاهات جسدية وأصر البعض علي طلب القصاص منه .
وفي يوم 91 نوفمبر عام 1971 وكان موافقا لاول أيام عيد الفطر المبارك كان حمزة مسافرا من الإسكندرية الي القاهرة ومعه شقيقه راكبا الي جواره واصطدمت سيارته باحدي السيارات المحملة بحديد مبان ومات حمزة وشقيقه وتعرضت جثته لتشويه غريب نتيجة دخول عدد من الاسياخ الحديد فيها .
وينقل لنا الكاتب والمحامي ثروت الخرباوي عن المستشار خيري رئيس محكمة الاستئناف السابق ما حكاه بشأن معاينته لجثة حمزة البسيوني حيث يقول عن الحادثة :
" كانت حادثة مروعة وكنت وقتها رئيسا لإحدي النيابات في محكمة كلية وخرجنا أنا وزميل لي في مهمة قضائية لمعاينة الحادث ومناظرة الجثة ..
:دلت المعاينة وشهادة الشهود علي أن سائق السيارة القتيل كان يقود سيارته بسرعة غريبة وكانت أمامه سيارة نقل مُحملة بأسياخ الحديد التي تتدلي من مؤخرة السيارة ودون أن يتنبه استمر في سرعته حتي اصطدم بالسيارة النقل وحينها اخترقت أسياخ الحديد ناصية القتيل ومزقت رقبته وقسمت جانبه الأيمن حتي انفصل كتفه عن باقي جسده " ، وبتأثر واضح قال المستشار خيري:"لم أستطع مناظرة الجثة فقد وقعت في إغماءة من هول المنظر وقام زميلي باستكمال مناظرة الجثة " .
--------------------------
المصدر : إخوان ويكي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق