رعاية المهددين في الداخل
بقلم: فهمي هويديفي أي مجتمع لا يزال يحتفظ بإنسانيته، حين تعلن على الملأ قائمة بأسماء ١٩ مواطنا على شفا الموت في أحد السجون. فالحد الأدنى أن تتحرى الأمر منظمات حقوق الإنسان. بحيث يتوجه وفد يمثلها إلى السجن مصحوبا بآخرين يمثلون نقابة الأطباء للتثبت من صحة الادعاء، واتخاذ ما يلزم لإنقاذ حياتهم مع محاسبة الذين سمحوا بتدهور أوضاعهم أو الذين أوصلوهم إلى تلك الحالة البائسة.
أتحدث عن قائمة الأسماء التي جرى تداولها أمس (الأربعاء ٢٠/١) على مواقع التواصل الاجتماعي نقلا عن رابطة أسر معتقلي سجن العقرب. إذ أوردت نماذج لحالات مواطنين منهم من فقد بصره ومنهم من أصيب بالشلل النصفي أو الكلي، ومنهم من أصيب بكسور أو يعاني النزيف الحاد أو يتقيأ دما.. إلخ.
وهؤلاء جميعا ذكرت أسماؤهم ويحتاجون إلى علاج سريع ينقذهم من الموت الذي باتوا جميعا على بعد خطوات قليلة منه.
أتوقع أن يحدث النشر صدمة في أوساط الأهالي من آباء وأمهات وزوجات وأبناء. ولست أشك في أن بيوتا عدة علا فيها الصراخ والعويل وغرقت في بحار من الدموع حين بلغهم الخبر. لكن يبدو أنه لم يكن هناك مفر من المغامرة باحتمال تلك الصدمة، لكي تتحرك الضمائر التي استكانت والقلوب التي تحجرت والأعين التي أغمضت، عسى أن يفعل أحد شيئا لإنقاذ هؤلاء وأمثالهم. والرسالة هنا موجهة إلى الحقوقيين ونقابة الأطباء. وتمنيت أن تصل إلى مسامع أولي الأمر في الدولة بعامة وفي وزارة الداخلية بوجه أخص. ذلك أنهم مسؤولون أمام القانون والتاريخ وأمام الله عن مصائر هؤلاء وأمثالهم ممن يساقون إلى الموت تحت أعين الجميع وبعلمهم بعد إشهار البلاغ. ولست أحصر المسؤولية في هؤلاء وحدهم لكني أزعم أن كل أصحاب الضمائر التي لم تمت في المجتمع يصبحون شركاء في الجريمة إذا ما ظلوا شركاء في الصمت وإغماض الأعين.
لست بحاجة إلى إيراد حجج أو حيثيات لتأييد الدعوة إلى إنقاذ أمثال أولئك المسجونين أو تخفيف حسرة وأحزان أهاليهم المكلومين. لكنني أذكر فقط بأن أمثال تلك الممارسات التي تتردد في مختلف السجون تزرع بذور شرور كثيرة وجسيمة في ذات الوقت.
وأنبه إلى أن الذين تحدثوا عن تجنيب مصر المصير الذي آلت إليه الأوضاع في سوريا والعراق يفوتهم أن ما حدث في البلدين كان بعض ثمار ممارسات شبيهة بما يحدث الآن في سجن العقرب وغيره من السجون المصرية. وهو ما يعني أننا إذا كنا قد تجنبنا الوقوع في مستنقع المصير الفاجع الذي حل بالبلدين، فإن ما يجري الآن يضع أقدامنا على ذات الدرب الذي أوصلهم إلى ما وصلوا إليه.
إن معاناة المسجونين وعذاباتهم تشيع في أجوائهم مشاعر السخط والكراهية والنقمة، التي تتحول بمضي الوقت إلى براكين غضب مرشحة للانفجار في أي وقت. ثم إن لهؤلاء أهالي وامتدادات ومحيطا اجتماعيا لن يكون بعيدا عن تلك المشاعر. وليس مستغربا في هذه الحالة أن تترجم النقمة إلى أفعال وممارسات لا نقبلها تهدد أمن المجتمع واستقراره. وإذا وضعنا في الاعتبار أن التقدير المتواتر لحجم المعتقلين يعتبرهم في حدود ٤٠ ألف شخص (مدير الشبكة العربية لحقوق الإنسان جمال عيد يؤكد بأن مصادرهم في وزارة الداخلية ترتفع بالرقم إلى ٦٠ ألفا)، فلنا أن نتصور أصداء ممارسات التعذيب والتنكيل في أوساط ذلك المحيط الكبير من البشر. ولا ينبغي في كل الأحوال أن ننسى أننا لن نحصد في نهاية المطاف سوى ثمار ما زرعناه.
وأنا أكتب هذه الكلمات علمت أن شابا اسمه ضياء في الثانية والعشرين من العمر أقدم على الانتحار في سجن العقرب عن طريق قطع شريان في يده استخدم فيه زجاج لمبة الإضاءة التي كسرها. وقد نفت وزارة الداخلية النبأ، إلا أن المحامين أكدوه واستدلوا على ذلك بوقف زيارة النزلاء أمس ولأجل غير معلوم. لم يتسن لي أن أستوثق من الخبر، لكنني لن أستغرب إذا ثبتت صحته.. ذلك أن الشاب إذا كان قد فعلها فربما كان تصرفه مفهوما، فإذا كان قد شاهد من حوله يموتون ببطء، فربما دفعه باليأس والاكتئاب إلى استعجال الرحيل.
أمس أبرزت الصحف المصرية خبرا سارا عن تحرير المصريين المختطفين في ليبيا واستقبال عبدالفتاح السيسي لهم، ونقلت جريدة «الأهرام» في عناوين الصفحة الأولى قول الرئيس: لن نترك مواطنا مهددا بأي مكان في العالم. وفي استهلال الخبر المنشور وردت العبارة التالية: في تأكيد جديد بأن مصر لا تفرط في حياة أبنائها أو تتهاون في رعايتهم بالداخل والخارج، استقبل السيسي بمطار القاهرة ٣٠ شابا مصريا تم تحريرهم من أيدي الميليشيات الإرهابية في ليبيا.. إلخ.
وقد شاءت المقادير أن ينشر الخبر في نفس اليوم مع المناشدة التي وجهتها رابطة أسر معتقلي سجن العقرب لإنقاذ ١٩ مصريا مهددين بالموت في سجن العقرب، الأمر الذي جعلني أتساءل: هل يمكن أن تشملهم أيضا تلك الرعاية باعتبارهم ضمن المهددين في الداخل؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق