أرانب قاتلة تحت قبعة السيسي
وائل قنديل
مصر لا تستقيل من التاريخ فقط هذه الأيام، بل تتجرد من العقل والمنطق والحس الإنساني، في اندفاعها المحموم نحو فرض نمط جديد من "الوطنية الفاسدة" على قطاع -أو قطيع- واسع من الجماهير المخطوفة.
كانوا قديماً يعلموننا أن الكيان الصهيوني يتمنى أن تبقى مصر دائماً ضعيفة غارقة في الفوضى، حتى خرج علينا الدكتور مصطفى الفقي، سكرتير مبارك السابق للمعلومات، بنظرية تتناسب مع قيم عصر السيسي، تقول نصاً "من مصلحة إسرائيل أن تبقى مصر قوية ومستقرة". ولو مددت الخط على استقامته، فإن باقي الجملة المسكوت عنه سيكون هكذا "لكي تدافع عن إسرائيل ضد العدو الفلسطيني، وتنظف لها سيناء من الأوغاد وترحّلهم من المنطقة".
لقد بلغت هيستيريا العسكرة حداً صارت النخبة معه تتعامل مع حاكم مصر العسكري بالطريقة ذاتها التي تتعامل بها النخبة مع زعيم كوريا الشمالية، وربما تتفوق عليها.
الجميع اكتشفوا فجأة أن الديمقراطية شر مستطير، وأن الحريات خطر داهم، وأن رغبات القائد فوق الدستور والقانون، فيذهب عميد سابق لكلية الحقوق (الحقووووووق) بجامعة القاهرة إلى القول "حرية الرأي والتعبير يجب أن تتنحى جانبًا في تلك اللحظات العصيبة، لحين وقوف الدولة على قدمين ثابتتين، والانتصار على الإرهاب".
ولو عدت إلى ثلاثينيات القرن الماضي، ستكتشف أن مؤسس الفاشية، الزعيم موسوليني، ليس أكثر من عازف بيانو، مقارنة برموز فاشية السيسي، إذ كان تعبير القائد الإيطالي عن فاشيته أكثر تهذيباً حين قال "الكل في الدولة، ولا قيمة لشيء إنساني أو روحي خارج الدولة، فالفاشية شمولية، والدولة الفاشية تشمل جميع القيم وتوحدها، وهي التي تؤوّل هذه القيم وتفسرها، إنها تعيد صياغة حياة الشعب كلها".
أعود إلى كِتاب "الطاغية" للدكتور إمام عبد الفتاح إمام، وأبحث عن منابع هؤلاء الفاشيين الجدد، فأجد ما يلي: الترجمة الحقيقية للديمقراطية في المذهب الشمولي هي أن إرادة القائد أو الزعيم هي إرادة الشعب، أو كما ذهب بعض المنظّرين في العهد الناصري: هي ديمقراطية "التحسس"، بمعنى أن القائد الزعيم الملهم يتحسس "مطالب الجماهير"، ويصدر بها قرارات وقوانين. ولما كان الشعب دائماً على حق، فإن الزعيم المعبر عن إرادة الشعب هو أيضا دائما على حق.
ولكي يثبت القادة الشموليون أن إرادتهم هي إرادة الشعب، فإنهم يلجأون إلى الاستفتاء العام والتصويت "التهليلي". وبهذه الطريقة، يستخرج الزعيم الملهم والقائد الساحر من قبعة الديكتاتورية أرنباً اسمه الديمقراطية.
انتهى الاقتباس، وبقي السؤال:
كم طناً من الكلام استهلك جنرال مصر وإعلامه
في حشو أدمغة الناس بحديثٍ أجوف عن "الإرادة الشعبية"، في سياق سعيهم
المحموم لاختطاف الجماهير، تارة باسم الحرب على الإرهاب، وأخرى باسم الدين،
وإقامة جدار من الخوف والفزع، لعزلها عن مطالب ثورتها الحقيقية والوحيدة؟
وعملية ارتهان الشعب في حضّانات الخوف هذه
لا تتم إلا بمداعبة غرائز الوطنية الزائفة، واستثارة مناطق الرعب، عبر
"الاستفادة من وسائل الإعلام والاتصال والإثارة، والترغيب والترهيب،
للتأثير على جماهير الناس، وتحقيق التطابق المنشود بين إرادة الشعب وإرادة
القائد".
كل المطلوب منك أن تغمض عينيك، وتسترجع شريط
الصور منذ الثلاثين من يونيو 2013 وحتى الآن، ستسمع نصاً ركيكاً واحداً،
لا يخرج عن مجموعة كليشيهات مثل "إرادة شعبية" و"33 مليون مواطن" و"مصر
مستهدفة" و"تحيا مصر" و"لا تسمحوا لأحد بالتدخل بين الجيش والشعب والقائد".
راجع، أيضاً، لقطات اختراع جهاز الكفتة الكاذب، وحفر قناة سويس جديدة على الناشف، وطفل السرطان الذي تحسنت حالته بلمسة واحدة من القائد.. ستكتشف أنك أمام عملية قرصنة على أسوأ ما في أرشيف الطغاة.
- نقلا عن موقع "العربي الجديد"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق