تامر أبو عرب : رسالة من خائف
أنظر إلى ابنتي التي لم يتجاوز عمرها عدة أسابيع، أتذكر كلام والدي: "يا ابني اهدى علشان تربي ولادك"، أسترجع ذكرياتي مع أصدقاء غيّبتهم السجون، يقفز إلى ذهني تعليق قارئ على أحد مقالاتي: "أوعدك إنك قريب هتحصلهم ومش هتشوف الشمس وهتندم على اليوم اللي اتولدت فيه"، أقرأ بيان رؤساء تحرير الصحف بعد حادث سيناء الذي يتعهد بمنع تسلل "العناصر الداعمة للإرهاب" إلى الصحافة، أشاهد انتفاض عميد سابق لحقوق القاهرة قائلا: "حرية الرأي والتعبير يجب أن تتنحى جانبًا لحين وقوف الدولة على قدمين ثابتتين".
نعم إني خائف، والخوف لا ينتقص من رجولة وشجاعة الكاتب بل ينتقص من شرف وشرعية الحاكم.
نعم إني خائف، رغم أن الفريق أول عبد الفتاح السيسي قال في ندوة تثقيفية نظمتها القوات المسلحة عقب عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي: "لما نشعر إن الشعب المصري كله مروع وخايف احنا نروح نموت أحسن"، اعتقدنا وقتها أن الرجل لا يريدنا أن نخاف، ومع الوقت اتضح أنه لم يكن يريدنا أن نخاف من الإخوان، بل أن نخاف منه هو.
نعم إني خائف، لم أرتكب جُرمًا أو حتى مخالفة للقانون، لكن من قال إن هذا يهم؟ ومنذ متى كان ارتكاب جريمة شرطًا لتدخل السجن في مصر؟ السجن أقرب إليّ من حبل الوريد، إن لم يكن ببلاغ مواطن شريف يتهمني بتكدير السلم العام فبإحالة إلى النيابة العسكرية بتهمة معاداة الجيش أو بوقوف أمام خصم وحكم بدعوى إهانة السلطة القضائية، أو بتحريات فاسدة تدّعي أنني من خرمت الأوزون.
نعم إني خائف، فأن تكون كاتبا معارضا في مصر هو سبب كاف لتخاف، هنا لا أحد يعترف بالاختلاف ولا أحد يقبل المختلف، هنا من العيب أن تكون مسيحيا أو امرأة أو نوبيًا أو زملكاويًا فما بالك بأن تكون معارضا لسلطة أنقذتنا من الإخوان وتحارب الإرهاب، يتحول الأمر إلى ما يشبه وقوف قطعة خشبية في وجه تسونامي عملاق، إما أن تسير مع التيار وإما أن يكسرها.
نعم إني خائف، فهناك أقساط تلازمني منذ أن تزوجت يجب أن أدفعها، وهناك زوجة من حقها أن أبقى إلى جانبها، وهناك طفلان ينتظران عودتي بالحلوى كل مساء، وهناك والدان يحتاجان رفقتي عندما يذهبان إلى الطبيب، وهناك شقيق يعوّل على وقوفي في مدخل القاعة ليلة زفافه، وهناك شقيقة تنتظر هديتي إذا اقترب مجموعها من الدرجة النهائية.
نعم إني خائف، فكل شيء يدعونا إلى الخوف، فالدولة تحتاج بين فترة وأخرى لقرابين تغطي بها فشلها في توفير احتياجات الناس من الخبز والأمن، وحالة السعار المجتمعي بلغت مداها فلم يعد الكثيرون ينزعجون من حبس شخص بقدر ما ينزعجون من بقائه حرًا، والإعلام اتفق على إغماض عينه عن أي شيء يخص الحريات، والمنظمات الحقوقية أصبحت تدافع عن حق الحاكم في انتهاك حقوق الإنسان.
نعم إني خائف، فلن أحصل على فرصة للدفاع عن نفسي في تحقيقات النيابة التي ستحيل القضية سريعا إلى المحكمة، ولن تستمع المحكمة طويلا لمرافعة الدفاع، فأنا في النهاية مجرد رقم في رول طويل يريد القاضي أن ينجزه في أسرع وقت، سيصدر الحكم غالبا بالإدانة حتى لو كانت أوراق القضية خالية من أي دليل، فالحكم كما تعرفون عنوان الحقيقة، والحقيقة عندنا كما تعرفون أيضا ليس لها عنوان.
نعم إني خائف، ولن يُبنى وطن يحكمه الخوف، أخاف أنا وكثيرون من السجن أو القتل، ويخاف الناس من السرقة والشرطة والإخوان، ويخاف الإخوان من المستقبل، وتخاف الشرطة من الإرهاب، ويخاف رجال الأعمال من السلطة، ويخاف الإعلام من رجال الأعمال، ويخاف الشباب من ضياع الثورة، ويخاف الرئيس من الثورة نفسها.
نعم إني خائف، لأن السلطة الحالية لا تتعلم من تجارب سابقيها ولا من تجاربها هي، تكرر نفس الأخطاء في كل مرة، تعتقد أن القهر يمكن أن يطيل عمرها، وأن السجون ستخلصها من خصومها، وأن الصوت الواحد هو الطريقة المناسبة للحكم، ومن لا تعلمه التجارب لن يتعلم، والحاكم غير المتعلم أخطر على وطنه من ألف قنبلة نووية.
نعم إني خائف، لكن الخوف لن يغير قراراتي وقناعاتي، لأنك تعيش مرة واحدة فإما أن تحيا كما تريد أو كما يريدون لك أن تحيا، ولأن خوفي على مستقبل أبنائي يستدعي أن أعمل على تأسيس وطن لا أخاف عليهم فيه من بعدي، ولأن بلدي يستحق وضعا أفضل وأهله يستحقون حياة أكرم، ولأن الله عاتبني قائلا: "وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا".
أنظر إلى ابنتي التي لم يتجاوز عمرها عدة أسابيع، أتذكر كلام والدي: "يا ابني اهدى علشان تربي ولادك"، أسترجع ذكرياتي مع أصدقاء غيّبتهم السجون، يقفز إلى ذهني تعليق قارئ على أحد مقالاتي: "أوعدك إنك قريب هتحصلهم ومش هتشوف الشمس وهتندم على اليوم اللي اتولدت فيه"، أقرأ بيان رؤساء تحرير الصحف بعد حادث سيناء الذي يتعهد بمنع تسلل "العناصر الداعمة للإرهاب" إلى الصحافة، أشاهد انتفاض عميد سابق لحقوق القاهرة قائلا: "حرية الرأي والتعبير يجب أن تتنحى جانبًا لحين وقوف الدولة على قدمين ثابتتين".
نعم إني خائف، والخوف لا ينتقص من رجولة وشجاعة الكاتب بل ينتقص من شرف وشرعية الحاكم.
نعم إني خائف، رغم أن الفريق أول عبد الفتاح السيسي قال في ندوة تثقيفية نظمتها القوات المسلحة عقب عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي: "لما نشعر إن الشعب المصري كله مروع وخايف احنا نروح نموت أحسن"، اعتقدنا وقتها أن الرجل لا يريدنا أن نخاف، ومع الوقت اتضح أنه لم يكن يريدنا أن نخاف من الإخوان، بل أن نخاف منه هو.
نعم إني خائف، لم أرتكب جُرمًا أو حتى مخالفة للقانون، لكن من قال إن هذا يهم؟ ومنذ متى كان ارتكاب جريمة شرطًا لتدخل السجن في مصر؟ السجن أقرب إليّ من حبل الوريد، إن لم يكن ببلاغ مواطن شريف يتهمني بتكدير السلم العام فبإحالة إلى النيابة العسكرية بتهمة معاداة الجيش أو بوقوف أمام خصم وحكم بدعوى إهانة السلطة القضائية، أو بتحريات فاسدة تدّعي أنني من خرمت الأوزون.
نعم إني خائف، فأن تكون كاتبا معارضا في مصر هو سبب كاف لتخاف، هنا لا أحد يعترف بالاختلاف ولا أحد يقبل المختلف، هنا من العيب أن تكون مسيحيا أو امرأة أو نوبيًا أو زملكاويًا فما بالك بأن تكون معارضا لسلطة أنقذتنا من الإخوان وتحارب الإرهاب، يتحول الأمر إلى ما يشبه وقوف قطعة خشبية في وجه تسونامي عملاق، إما أن تسير مع التيار وإما أن يكسرها.
نعم إني خائف، فهناك أقساط تلازمني منذ أن تزوجت يجب أن أدفعها، وهناك زوجة من حقها أن أبقى إلى جانبها، وهناك طفلان ينتظران عودتي بالحلوى كل مساء، وهناك والدان يحتاجان رفقتي عندما يذهبان إلى الطبيب، وهناك شقيق يعوّل على وقوفي في مدخل القاعة ليلة زفافه، وهناك شقيقة تنتظر هديتي إذا اقترب مجموعها من الدرجة النهائية.
نعم إني خائف، فكل شيء يدعونا إلى الخوف، فالدولة تحتاج بين فترة وأخرى لقرابين تغطي بها فشلها في توفير احتياجات الناس من الخبز والأمن، وحالة السعار المجتمعي بلغت مداها فلم يعد الكثيرون ينزعجون من حبس شخص بقدر ما ينزعجون من بقائه حرًا، والإعلام اتفق على إغماض عينه عن أي شيء يخص الحريات، والمنظمات الحقوقية أصبحت تدافع عن حق الحاكم في انتهاك حقوق الإنسان.
نعم إني خائف، فلن أحصل على فرصة للدفاع عن نفسي في تحقيقات النيابة التي ستحيل القضية سريعا إلى المحكمة، ولن تستمع المحكمة طويلا لمرافعة الدفاع، فأنا في النهاية مجرد رقم في رول طويل يريد القاضي أن ينجزه في أسرع وقت، سيصدر الحكم غالبا بالإدانة حتى لو كانت أوراق القضية خالية من أي دليل، فالحكم كما تعرفون عنوان الحقيقة، والحقيقة عندنا كما تعرفون أيضا ليس لها عنوان.
نعم إني خائف، ولن يُبنى وطن يحكمه الخوف، أخاف أنا وكثيرون من السجن أو القتل، ويخاف الناس من السرقة والشرطة والإخوان، ويخاف الإخوان من المستقبل، وتخاف الشرطة من الإرهاب، ويخاف رجال الأعمال من السلطة، ويخاف الإعلام من رجال الأعمال، ويخاف الشباب من ضياع الثورة، ويخاف الرئيس من الثورة نفسها.
نعم إني خائف، لأن السلطة الحالية لا تتعلم من تجارب سابقيها ولا من تجاربها هي، تكرر نفس الأخطاء في كل مرة، تعتقد أن القهر يمكن أن يطيل عمرها، وأن السجون ستخلصها من خصومها، وأن الصوت الواحد هو الطريقة المناسبة للحكم، ومن لا تعلمه التجارب لن يتعلم، والحاكم غير المتعلم أخطر على وطنه من ألف قنبلة نووية.
نعم إني خائف، لكن الخوف لن يغير قراراتي وقناعاتي، لأنك تعيش مرة واحدة فإما أن تحيا كما تريد أو كما يريدون لك أن تحيا، ولأن خوفي على مستقبل أبنائي يستدعي أن أعمل على تأسيس وطن لا أخاف عليهم فيه من بعدي، ولأن بلدي يستحق وضعا أفضل وأهله يستحقون حياة أكرم، ولأن الله عاتبني قائلا: "وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق