«التهجير في عصور العسكر».. إفلاس نظام واستعباد شعب
30/10/2014
«يحظر التهجير القسري للمواطنين بجميع صوره وأشكاله، ويعد جريمة إنسانية لا تسقط بالتقادم»
تلك العبارة التي تغنى بها العسكر في
الدستور الانقلابي الذي مرره نظام السيسي مطلع العام الجاري، إلا أن هذه
المادة المعسولة التي تحمل الرقم (63) دهسها الانقلاب بأقدامه في أول محك
حقيقي واختبار واقعي لمدى مصداقية الوثيقة الذي استفتوا عليها شعبهم
المختار، ليقرر مجلس الدفاع الوطني الانقلابي التهجير القسري لشعب سيناء
بدم بارد تحت ذريعة الحرب على الإرهاب.
قرار التهجير ليس بدعة سيساوية في بر مصر،
إذ سبقها هجرتين كلتهما تم على مراحل، سواء تلك التي بدأت في بلاد النوبة
مطلع القرن العشرين، أو التي أجبرت أهالي مدن القناة على ترك بيوتهم على
خلفية الحرب المريرة مع الكيان الصهوني، التي امتدت بين عامي 56، 73، إلا
أن في كل مرة كانت الدوافع مختلفة والمبررات حاضرة والخسائر فادحة،
والمحصلة أن المواطن المصري البسيط يدفع وحده ضريبة باهظة لسقطات الساسة أو
مشروعاتهم العملاقة أو نكساتهم المتلاحقة.
اللافت في تهجير بسطاء الشعب المصري في
أشكاله الثلاث «النوبة - القناة - سيناء» أنه يرتبط مباشرة بحكم عسكري
للبلاد، ويكشف بجلاء عن حال البلاد والعقلية التي كانت تدار بها منذ
خمسينيات القرن الماضي وحتى الآن، ومدى التغيرات التي طرأت على مدار تلك
الأعوام على عقلية الحاكم العسكري للبلاد.
هجرات النوبة الأربع
تبدو من الوهلة الأولى أن أكثر المواطنين
دفعا لضرائب التهجير هم سكان المناطق الحدودية شمالا وجنوبا، وكانت البداية
مع شعب النوبة في عام 1902 في أثناء الاحتلال العسكري البريطاني، عندما
صدر القرار الملكي بإنشاء خزان أسوان، هذا الخزان الذي أغرق منذ تم وضع حجر
الأساس لبنائه أو مراحل تعليته الأولى 1912 والثانية 1933، عشرات القرى
النوبية، وشرد الآلاف من الأهالي، تكفلت الحكومة بدفع فتات التعويضات لكي
يتمكنوا بأنفسهم من توفير سكن جديد يفتقد بطبيعة الحال لأبسط مقومات الحياة
الآدمية.
خزان أسوان نتج عنه إغراق 28 قرية نوبية
وأضيرت 11 أخرى، ودون الدخول في تفصيلات كثيرة قتلها المؤرخون بحثا، صدرت
القرارات السامية من القابعين في القصور الملكية بتهجير أهالي النوبة إلى
سفوح الجبال المتاخمة لقراهم المنكوبة، ليبنوا مساكنهم الجديدة بتلك
التعويضات الهزيلة.
إلا أن التهجير الرابع لأصحاب البشرة
السمراء الباسمة، كان في عهد الحكم العسكري لـ جمال عبد الناصر مع اتخاذ
النظام المصري آنذاك قراره ببناء السد العالي جنوبي أسوان، وهو القرار الذي
حمل بين سطوره تهجير قرابة 150 ألف نوبي ينتمون إلى قبائل الكنوز
والفاديجة والعرب، ليحطوا رحالهم في الهضبة القاحلة بمركز نصر النوبة في
منازل غير مكتملة الإنشاء، دون توافر بنية تحتية فلا كهرباء ولا مياه ولا
صرف صحي، فضلا عن تسكين كل أربع أسر في منزل واحد، مع خسارة أراضيهم
ومشاريعهم ومحاصيلهم الزراعية والأهم تراثهم الذي يضرب في جذور التاريخ.
وفي الوقت الذي تغنى فيه الشعب المصري
بقائده الملهم مهيب الركن والـ«الضربة اللي كانت من معلم» كانت هناك من هم
يعانون في الجنوب من النوم بالعراء بلا مأوي بعد أن كانوا أعزاء في قراهم.
إلا أن الكارثة الأكبر هو افتقاء العسكر لأي
نوع من البحث والدراسة قبل البدء في تنفيذ المشروعات القومية العملاقية
-التي يعلنون أنها على "الناشف" ثم تتفجر المياه مع أول فأس- فكان الكارثة
الثقافية والإنسانية والأثرية والتراثية جراء بناء السد هو غرق آثار النوبة
من معابد ومقابر ومسلات وتماثيل، بكاها العالم إلى الآن وفشل النظام عن
إنقاذها اللهم إلا القليل منها لتضاف إلى خسائر مصر.
تهجير القناة
إذا كان قرار تهجير أهالي النوبة ارتبط
بمشروعات قومية، فإن الوضع يبدو مختلفا في مدن القناة، حيث دفع أهالي
محافظات السويس والإسماعيلية وبورسعيد الثمن باهظا جراء الحرب المستعرة في
تلك البقعة من البلاد مع العدو الصهيوني –قبل أن يتحول إلى حليف
إستراتيجي-، إلا أن ثمة ما يربط بين تهجير النوبة والقناة في عام 56 وهو
"السد العالي".
قرار بناء السد سبقه قرار آخر بتأميم قناة
السويس البحرية شركة مساهمة مصرية، لتشتعل الحرب في محيط القناة ووضعت مصر
في مواجهة لم تكن على أتم استعداد لها أمام عدوان ثلاثي
إنجليزي-فرنسي-صهيوني "جاب سلاحه ودباباتهم وغواصته واعتدى علشان نسلم"،
وللحق أن الجيش أختفي من تلك المعركة الدائرة في مدن القناة وترك الأمر
للمقاومة الشعبية الباسلة للدفاع عن شرف الوطن، مع تهجير الشيوخ والنساء
والأطفال طوعا أو كرها إلى مناطق الدلتا والقاهرة.
ولأن العسكر لم يحسب جيدا تبعات قراراته
"العنترية" جاء التهجير مفاجئا وبلا ترتيب وبعشوائية تماثل عشوائية من
يحكمون البلاد، فحمل أهالي القناة ما خف وزنه وغلا ثمنه وتركوا ديارهم
تنهشها صواريخ العدوان، حتى لعبت موازين القوي العالمية دورها، وانتشلت مصر
من مستنقع نكبة في الأفق وتدخل الرئيس الأمريكي أيزنهاور –الذي غضب من عدم
أخذ رأيه في شن الحرب- والروسي بيرجينيف –بحذائه- لوقف الحرب الدائرة، وهو
ما كان ولكن بعد أن سيطر شبح الخراب والدمار على القناة وعاد أهلها يبكوا
أطلال منازل ومدارس ومبان باتت أثرا بعد عين.
ولم تكد تمضي 10 أعوام حتى عانى شعب القناة
من التهجير مجددا، في نكسة 67، عندما عرب القادة في العاصمة وتركوا سيناء
يغتصبها العدو الصهيوني في ستة أيام في معركة من جانب واحد لم يدخلها الجيش
المصري بسبب ليالي حمراء لقاداته وخسر فيها طائراته على الأرض ومعداته قبل
أن تطلق طلقة واحدة.
وحمل أهالي القناة رحالهم مجددا إلى
المجهول، ليدفعوا من جديد ضريبة عشوائية الانقلاب العسكري في إدارة البلاد
وتسويد الأمر لغير أهله.
تهجير سيناء وتجويع غزة.
ليس المقام هنا للحديث عن تبعات قرار مجلس
دفاع السيسي على أهل الجوار في غزة المحاصرة، ولكن المحك الحقيقي هنا هو
هذا الاختبار الصعب الذي يواجهه شعب شمال سيناء ومناطق الشريط الحدودي مع
قطاع غزة، في الوطنية والانتماء بعدما وجدوا أنفسهم تحت وطأة ضربة عسكرية
موجعة وحملة تنكيل واسعة ليس من جيش العدو هذه المرة ولكن من عسكر السيسي،
تحت ذريعة الحرب على الإرهاب والقضاء على البؤر التكفيرية.
قرارات
الدفاع الوطني -التي أعقبت مجزرة كرم القواديس والتي راح ضحيتها 64 جنديا
ما بين شهيد ومصاب- بإقامة منطقة عازلة وتهجير الأهالي وإعلان الطوارئ وحظر
التجوال وحفر قناة بعمق 50 مترا بطول الشريط الحدودي لتغريق الأنفاق، جاءت
متسقة تماما مع خطة أمريكية إسرائيلية في المنطقة الحدودية في سيناء
والمعروفة في اتفاقية السلام باسم المنطقة «ج» تهدف لتعميق الأمن
الإستراتيجي الإسرائيلى، من مدينة رفح شمالًا وصولًا إلى مدينة طابا
جنوبًا، على الشريط الحدودي الموازي مع الأراضي الفلسطينية المحتلة، ورسموا
خرائط للمنطقة مدونًا عليها خطة عزل بطول 200 كيلومتر، وبعمق يتراوح بين
10 إلى 20 كيلو مترا، وإخلاء المنطقة من السكان.
ولم يترك النظام المصري الفرصة للشد والجذب
أو تعالي أصوات معارضة لمشروعه الأمني، وقرر تنفيذ مخططاته، ليتوالي دوي
تفجير منازل أهالي الشريط الحدودي في المنطقة المتاخمة لقطاع غزة، وسط
تعزيزات أمنية مكثفة من الجيشين الثاني والثالث وقوات العمليات الخاصة،
وتحليق دوري لطائرات الأباتشي للقضاء على أي فرصة من الأهالي للمقاومة أو
الدفاع عن حقهم في البقاء بأراضيهم.
قرارات الدفاع الوطني لاقت كرهًا موافقة ثلث
سكان المنطقة الممتدة قرابة 13 كيلو متر على الشريط الحدودي وعمق من 500
متر إلى كيلو ونصف، فيما رفض باقي الأهالي التخلي عن منازلهم وممتلكاتهم
وأراضيهم، ودفع ضريبة الصراع الدائر والدرامي بين النظام العسكري والجماعات
التكفيرية من جانب، والتنسيق الأمني المصري الصهيوني من جانب آخر،
والعداوة المتجذرة بين الانقلاب والمقاومة الفلسطينية.
على الفور قامت لجنة حكومية بتقديم تقرير عن
الوضع في المنطقة المقرر عزلها، وحصرت نحو 900 منزل يقطنها قرابة 10 آلاف
سيناوي، وخيرت الأهالي بين ثلاثة بدائل لإخلاء المنطقة؛ هي الحصول على
تعويض مادي أو قطعة أرض بديلة بمدينة العريش أو وحدات سكنية بديلة، متوعدة
من قرر الامتناع أو المقاومة أو الرفض بأن القرار نافذ ولا نقاش فيه، ومخطط
إقامة منطقة عازلة نهائي ولا رجعة عنه.. وعلى الجميع أن يرضخ ويحصل على
900 جنيه -نعم 900 جنيه- إعانة شهرية تفضل بها الانقلاب على الشعب المكلوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق