وائل قنديل :
كيف تغطي فضيحة بفضيحة أخرى
وائل قنديل
أداء عبد الفتاح السيسي في كلمته "التثقيفية"، وسط الجنود والضباط، أول من أمس، يمكن اعتباره فضيحة من الوزن الثقيل في الخطاب السياسي.
بدا الرجل وكأنه يتعمد اقتراف أكبر قدر ممكن من السقطات والهفوات، وإطلاق النكات المثيرة للبكاء، حتى يغرق الجميع في الجدل والثرثرة حول كيف استطاع شخص بهذه المواصفات البائسة أن يبتلع نظاماً منتخباً، بمعارضته، داخل جوفه في الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013، حيث جاء الأداء هزلياً وهزيلاً، وكأن المتابع بصدد واحد من عروض الكوميديا التجارية.
من باب إهدار الوقت فيما لا ينفع، أن ينشغل أحد بتحليل مضمون كلمة السيسي، أو الرد على ما اشتملت عليه من أكاذيب وأوهام إضافية، عن إنجازاته ومعجزاته التي لا وجود لها إلا في ذلك الرأس المحشو ببعض المحفوظات المكررة حد الملل.
هنا، يجدر التوقف عند الشكل، حين يصبح المضمون غائباً، فيطرح السؤال نفسه: هل تعمد عبد الفتاح السيسي وطاقمه المعاون أن يظهر على هذه الصورة المثيرة للسخرية، حد الفضيحة، لصرف الأنظار عن فضائح أكبر؟
قبل الإجابة، يصح أن نضع سؤالاً آخر، قفز على السطح، بعد فضيحة الكلمة "التثقيفية" مخلفاً فضيحة إنسانية وحقوقية أخرى، تتعلق بالصور التي أغرقت الفضاء الإلكتروني أمس، للشابة/ الطفلة، إسراء الطويل، في ثوبها الأبيض الناصع، متكئة على جهاز يساعدها على المشي، ودموعها تنهمر بغزارة في مواجهة قضاة غلاظ، جددوا حبسها 45 يوماً أخرى، بتهمة إشاعة أخبار كاذبة.
السؤال هنا: إذا كان السيسي قد تقمّص شخصية الضعيف الجريح، المعذب، بفتح الذال، وادعى أنه لا يسيء لأحد، بالقول، ولا يرضى بظلم مواطن مصري، أو تهديد حياته وحريته، فلماذا لم يستغل الفرصة، ويوجه قضاءه أو يأمره باستغلال فرصة جلسة التحقيق مع إسراء الطويل، وإصدار قرار يمنحه الظهور في هيئة "الزعيم الذي يحنو" على شعبٍ لم يجد من يحنو عليه، بتعبيره الكاريكاتوري الشهير؟
لماذا تركوا مسلسل التجديد بالحبس يتخذ شكل الفضيحة الحقوقية التي تشعل تفاصيلها المنتديات ومواقع التواصل الاجتماعي؟
بالعودة إلى كلمة السيسي "الشهرية"، فإنها جاءت عقب فضيحة التصويت لصالح إسرائيل في الأمم المتحدة، مباشرة، وهي الفضيحة التي جعلت معسكر مؤيدي الجنرال عارياً من أي حجة أو رد محترم على هذا السقوط الهادر في هاوية التحالف، والالتصاق التوأمي، السافر، بين دبلوماسيتي السيسي والكيان الصهيوني.
هل اختبأ السيسي من هذا المأزق بالحديث عن كوارث الإعلام، والدخول في تفاصيل تظهره وكأنه لا يفعل شيئاً سوى الإمساك بالريموت كونترول، والركض خلف برامج "التوك شوز" أم أنه يعتبر ما جرى في الأمم المتحدة عادياً، لا يستحق التوقف عنده، وهو بصدد استعراض سياسة نظامه الخارجية؟
كانت جماهير انقلاب السيسي، وخصوصاً من الناصريين و"القومجية" المحترفين، تنتظر منه رداً مفحماً، أو توضيحاً مقنعاً، أو حتى كذبة أنيقة، لتبرير هذا الوضع المخل بالتاريخ، والمشين للجغرافيا، والخادش للقيم الأخلاقية، غير أن الرجل، ولأنه لا يملك أن ينطق بكلمة واحدة تثير غضب إسرائيل، أو حتى دهشتها، ولأنه لا يستشعر حرجاً، أو وخزاً، حين يكون القرار الدبلوماسي المصري مرهوناً بالإرادة الإسرائيلية، فقد قرر القفز على هذا العار التاريخي والحضاري، بتصنع هذه الحالة من إسفاف النص، وابتذال الأداء، لكي يهرب من الإجابة على السؤال الذي يصفع الضمير الوطني بعنف.
أسوأ ما في المسألة أن الناس انصرفت إلى التعليق والثرثرة والسخرية مما ورد في الخطاب من "إيفيهات" مختارة بعناية، ولم يتوقف أحد عن المسكوت عنه، بمهارة شديدة، ويخص كارثة سقوط دبلوماسية السيسي من ارتفاع شاهق.
ولعلك تذكر أنه في زمن آخر، ليس بعيداً، كان يوسف والي، الوزير والأمين العام لحزب حسني مبارك، في فوهة بركان الغضب والاتهامات بالانتماء للصهاينة، مع الكشف عن صفقات تطبيع زراعي مع إسرائيل. كان الشعراء ينتفضون، والكتاب يزأرون، ورواد الأكتاف من "الهتيفة المحترفين" يشعلون التظاهرات ناراً حامية، ضد تطبيع الموز والفراولة.
الآن، أنت بصدد احتلال إسرائيلي للقرار الدبلوماسي المصري، وليس تطبيعاً فقط، فتجدهم يأخذونك للكلام عن الكهرباء والانتخابات وبالوعات الأمطار. وقبل أن تتذكّر يغرقونك مجدداً في البكاء على التنكيل بالمعتقلين، والانتحاب على تلذذ نظام "الجنرال المُعَذّب" بتعذيب أطفال داخل الزنازين، بينهم إسراء الطويل، وخالد البلتاجي، وآلاف آخرون.
---------------
العربي الجديد
في 3 نوفمبر 2015
من يحنو على السيسي؟
كيف تغطي فضيحة بفضيحة أخرى
وائل قنديل
أداء عبد الفتاح السيسي في كلمته "التثقيفية"، وسط الجنود والضباط، أول من أمس، يمكن اعتباره فضيحة من الوزن الثقيل في الخطاب السياسي.
بدا الرجل وكأنه يتعمد اقتراف أكبر قدر ممكن من السقطات والهفوات، وإطلاق النكات المثيرة للبكاء، حتى يغرق الجميع في الجدل والثرثرة حول كيف استطاع شخص بهذه المواصفات البائسة أن يبتلع نظاماً منتخباً، بمعارضته، داخل جوفه في الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013، حيث جاء الأداء هزلياً وهزيلاً، وكأن المتابع بصدد واحد من عروض الكوميديا التجارية.
من باب إهدار الوقت فيما لا ينفع، أن ينشغل أحد بتحليل مضمون كلمة السيسي، أو الرد على ما اشتملت عليه من أكاذيب وأوهام إضافية، عن إنجازاته ومعجزاته التي لا وجود لها إلا في ذلك الرأس المحشو ببعض المحفوظات المكررة حد الملل.
هنا، يجدر التوقف عند الشكل، حين يصبح المضمون غائباً، فيطرح السؤال نفسه: هل تعمد عبد الفتاح السيسي وطاقمه المعاون أن يظهر على هذه الصورة المثيرة للسخرية، حد الفضيحة، لصرف الأنظار عن فضائح أكبر؟
قبل الإجابة، يصح أن نضع سؤالاً آخر، قفز على السطح، بعد فضيحة الكلمة "التثقيفية" مخلفاً فضيحة إنسانية وحقوقية أخرى، تتعلق بالصور التي أغرقت الفضاء الإلكتروني أمس، للشابة/ الطفلة، إسراء الطويل، في ثوبها الأبيض الناصع، متكئة على جهاز يساعدها على المشي، ودموعها تنهمر بغزارة في مواجهة قضاة غلاظ، جددوا حبسها 45 يوماً أخرى، بتهمة إشاعة أخبار كاذبة.
السؤال هنا: إذا كان السيسي قد تقمّص شخصية الضعيف الجريح، المعذب، بفتح الذال، وادعى أنه لا يسيء لأحد، بالقول، ولا يرضى بظلم مواطن مصري، أو تهديد حياته وحريته، فلماذا لم يستغل الفرصة، ويوجه قضاءه أو يأمره باستغلال فرصة جلسة التحقيق مع إسراء الطويل، وإصدار قرار يمنحه الظهور في هيئة "الزعيم الذي يحنو" على شعبٍ لم يجد من يحنو عليه، بتعبيره الكاريكاتوري الشهير؟
لماذا تركوا مسلسل التجديد بالحبس يتخذ شكل الفضيحة الحقوقية التي تشعل تفاصيلها المنتديات ومواقع التواصل الاجتماعي؟
بالعودة إلى كلمة السيسي "الشهرية"، فإنها جاءت عقب فضيحة التصويت لصالح إسرائيل في الأمم المتحدة، مباشرة، وهي الفضيحة التي جعلت معسكر مؤيدي الجنرال عارياً من أي حجة أو رد محترم على هذا السقوط الهادر في هاوية التحالف، والالتصاق التوأمي، السافر، بين دبلوماسيتي السيسي والكيان الصهيوني.
هل اختبأ السيسي من هذا المأزق بالحديث عن كوارث الإعلام، والدخول في تفاصيل تظهره وكأنه لا يفعل شيئاً سوى الإمساك بالريموت كونترول، والركض خلف برامج "التوك شوز" أم أنه يعتبر ما جرى في الأمم المتحدة عادياً، لا يستحق التوقف عنده، وهو بصدد استعراض سياسة نظامه الخارجية؟
كانت جماهير انقلاب السيسي، وخصوصاً من الناصريين و"القومجية" المحترفين، تنتظر منه رداً مفحماً، أو توضيحاً مقنعاً، أو حتى كذبة أنيقة، لتبرير هذا الوضع المخل بالتاريخ، والمشين للجغرافيا، والخادش للقيم الأخلاقية، غير أن الرجل، ولأنه لا يملك أن ينطق بكلمة واحدة تثير غضب إسرائيل، أو حتى دهشتها، ولأنه لا يستشعر حرجاً، أو وخزاً، حين يكون القرار الدبلوماسي المصري مرهوناً بالإرادة الإسرائيلية، فقد قرر القفز على هذا العار التاريخي والحضاري، بتصنع هذه الحالة من إسفاف النص، وابتذال الأداء، لكي يهرب من الإجابة على السؤال الذي يصفع الضمير الوطني بعنف.
أسوأ ما في المسألة أن الناس انصرفت إلى التعليق والثرثرة والسخرية مما ورد في الخطاب من "إيفيهات" مختارة بعناية، ولم يتوقف أحد عن المسكوت عنه، بمهارة شديدة، ويخص كارثة سقوط دبلوماسية السيسي من ارتفاع شاهق.
ولعلك تذكر أنه في زمن آخر، ليس بعيداً، كان يوسف والي، الوزير والأمين العام لحزب حسني مبارك، في فوهة بركان الغضب والاتهامات بالانتماء للصهاينة، مع الكشف عن صفقات تطبيع زراعي مع إسرائيل. كان الشعراء ينتفضون، والكتاب يزأرون، ورواد الأكتاف من "الهتيفة المحترفين" يشعلون التظاهرات ناراً حامية، ضد تطبيع الموز والفراولة.
الآن، أنت بصدد احتلال إسرائيلي للقرار الدبلوماسي المصري، وليس تطبيعاً فقط، فتجدهم يأخذونك للكلام عن الكهرباء والانتخابات وبالوعات الأمطار. وقبل أن تتذكّر يغرقونك مجدداً في البكاء على التنكيل بالمعتقلين، والانتحاب على تلذذ نظام "الجنرال المُعَذّب" بتعذيب أطفال داخل الزنازين، بينهم إسراء الطويل، وخالد البلتاجي، وآلاف آخرون.
---------------
العربي الجديد
في 3 نوفمبر 2015
من يحنو على السيسي؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق