24 نوفمبر,2015
منذ
نهاية القرن التاسع عشر؛ لعب الدين دورًا رئيسيًا في تبرير الاستغلال
الرأسمالي والتوجه التوسعي للولايات المتحدة الأمريكية. في وقت متأخر من
القرن التاسع عشر بدأت الصحافة الأمريكية في الترويج بكثافة لفكرة “القدَر
البين” “”Manifest Destiny، وهذه الفكرة تعني أن الولايات المتحدة مكلفة من
الإله بمهمة، وأن هذه المهمة المسيحية التي أوكلها الإله للولايات المتحدة
قد أجازت ممارسة السلطة الأمريكية والطموح الإمبريالي في الكرة الأرضية،
وتقويم أي اعوجاج في العالم وفق المعايير البروتستانتية الحداثية، وقد صار
هناك اعتقادٌ راسخ في أذهان مواطني الولايات المتحدة – باستثناء تلك
الأذهان التي تأثرت بالنظريات النقدية الغربية كالماركسية أو بمعتقدات
مختلفة عن المعتقدات البروتستانتية – أن أمريكا بصدد تأدية تكليف ديني، وقد
تداخل منذ ذلك الحين كل من الدين والقومية والرأسمالية؛ ليشكلوا ما صار
يعرف بالأسلوب الأمريكي في الحياة، وبشكل أكثر تنسيقًا ووضوحًا؛ بدأ
الرئيسان أيزنهاور وترومان في ترسيخ خطاب أيديولوجي يربط حب الوطن الأمريكي
بالمعتقدات اليهودية المسيحية. ومع اشتعال الحرب الباردة بدأت الصورة
الذهنية التي تصدرها الإدارة الأمريكية ترتسم على النحو التالي: فريق تمثله
الولايات المتحدة وحلفاؤها، وهو الفريق الذي يستمد قيم الحرية
والديمقراطية من المسيح؛ في مواجهة فريق “ملحد” يكفر بالمسيح وبالتالي يكفر
بنمط الحياة الأمريكي.يحاول هذا التقرير أن يتبين حدود التناقض بين الصورة التي صدرتها أجهزة الدولة الأيديولوجية بالولايات المتحدة عن دورها الإمبريالي؛ بوصفه تكليفًا من الإله ودفاعًا عن المسيح ومبادئ البروتستانتية الممهدة لحق الشعوب في نعمة الحرية وعبادة الله بدون عوائق، وبين التطبيقات العملية لهذا التكليف الإلهي المزعوم والذي تخلله تدعيم لجماعات وسلطات متطرفة دينيًا وأصولية، على العكس من الشعار الرئيسي المرفوع بأن التدخل يهدف إلى تعزيز الحريات بما فيها الحرية الدينية. وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تستبطن دائمًا خطابًا يرى في العقائد غير البروتستانتية، وبالأخص الإسلام في الفترة الأخيرة، ولفترة طويلة مضت، أيضًا “المسيحية الكاثوليكية”؛ أنها عقائد جامدة غير ممهدة لطريق الحداثة والرأسمالية، وأنها سيف بتّار يقطع طريق الازدهار والسلام والديمقراطية، فترى هل ساندت الولايات المتحدة هذا السيف المزعوم المتمثل في أقصى الأصوليين المنتمين لتلك العقائد لتحقق سيطرتها على العالم؟ تلك السيطرة التي يتخذ وجهها شكل المسيح بينما يستقر في قلبها نمط الحياة الأمريكي بركيزته المتشربة لقيم الرأسمالية.
1- اليونان: سنجبركم على الذهاب إلى الكنيسة
حين قام الانقلاب العسكري عام 1967 باليونان، كان قد مر وقتٌ قصيرٌ جدًّا على تهديد الإدارة الأمريكية الذي أبلغته للسفير اليوناني، حيث ذكرته بأنها تدفع أموالًا كثيرة في بلاده من أجل محاربة المد الأحمر الشيوعي، وأنها لن تحتمل الاستماع أكثر من هذا لحديث رئيس الوزراء اليوناني “جورجيوس باباندريو” عن الديمقراطية والدستور والبرلمان والحريات، كما صرحت بالوعيد أن اليونان مثلها مثل البرغوث وأمريكا هي الفيل، وإذا غضب الفيل فسيسحق البرغوث.بالفعل استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية أن تنفذ تهديدها عبر المؤسسة العسكرية، وفي 21 أبريل/ نيسان 1967 قام المجلس العسكري بقيادة “جورجيوس بابادولوس” بانقلاب ناجح أعلنوا فيه صراحة أن غرضهم هو إبعاد الخطر الشيوعي عن البلاد، وكان ذلك قبل شهر واحد من موعد الانتخابات البرلمانية؛ التي كانت نتائجها المتوقعة غير مقبولة بالنسبة للملك أو المؤسسة العسكرية اليونانية أو السفارة الأمريكية.
عُرف الحكم الديكتاتوري في اليونان (1967ــ 1974) باسم “خوندا” وهي كلمة إيطالية تعني حكم العسكر، أو “ديكتاتورية العقداء” حيث إن الذين قاموا بالانقلاب كانوا برتبة عقداء في الجيش اليوناني، وكان “بابادولوس” بتوليه السلطة يعد أول عميل تابع لوكالة الاستخبارات المركزية يتولى مقاليد الحكم في إحدى الدول الأوروبية.
قام المجلس العسكري بمهمته على أكمل وجه عبر سلسلة كبيرة من الانتهاكات تضمنت القتل والتعذيب الوحشي والجنسي للمعارضين، لكنه بالإضافة إلى ذلك كان متشددًا ومحافظًا للغاية فيما يتعلق بالشئون الدينية، فقد أصدر حكام اليونان الجدد قرارًا بمنع الفتيات من «ارتداء التنانير القصيرة» وقرارًا آخر بمنع الذكور من ترك شعرهم طويلًا، وجعلوا الحضور إلى الكنيسة إلزاميًا.
ورغم تصريحات مسئوليها من حين إلى آخر آنذاك حول أهمية استعادة الحياة الدستورية اليوناية في وقت قريب، إلا أن الولايات المتحدة استمرت في دعمها للفيختا (المجلس العسكري الحاكم) القمعي والمتطرف دينيًا، حفاظًا على مصالح حلف الناتو في البحر الأبيض المتوسط، وحفاظًا على حلفائها العسكريين القادرين على قمع الحركة اليسارية في البلاد. وقد وصل الدعم إلى حد أن “سبيرو أغنيو” نائب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك “ريتشارد نيكسون”، وهو من أصل يوناني؛ قد زار اليونان في عام 1971 ووصف “الخوندا” بأنهم أفضل حكام لليونان منذ عهد بريكليس الذي حكم اليونان القديمة قبل الميلاد.
وقد اعترف الرئيس بيل كلينتون عام 1999 صراحة بأن الولايات المتحدة قد دعمت الحكم الدكتاتوري الأصولي في اليونان، وأنها انحازت حينذاك إلى مصالحها في الحرب الباردة على حساب ما أسماه “واجبها” في إعلاء قيم الديمقراطية.
2- أندونسيا: المتطرفون الإسلاميون هم جنودنا طالما يقتلون أعداءنا «أعداء المسيح»
كان الرئيس أحمد سوكارنو – أول رئيس لإندونيسيا بعد الاستقلال – واحدًا من أعلام حركة التحرر والتنمية بالعالم الثالث، وقد مثل سوكارنو استفزازًا وتهديدًا حقيقيًا لمصالح الولايات المتحدة المتشكلة في إطار الحرب الباردة، فقد عمل على تحقيق الاستقلال الاقتصادي والتصنيع والتنمية، وفي إطار ذلك عمل بجدية على إعادة توزيع ثروات البلاد بما يحقق العدالة الاجتماعية، كما أنه طرد كلًا من صندوق النقد والبنك الدوليين من بلاده؛ لأنه رأى فيهما تهديدًا لاقتصاد إندونيسيا، وأنهما لا يخدمان في الأخير سوى دول الأغنياء والشركات الغربية متعددة الجنسيات، كما لعب دورًا كبيرًا في تأسيس حركة عدم الانحياز.حاولت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية أن تتخلص من الرئيس سوكارنو عبر التصفية الجسدية، لكن تلك المحاولات باءت بالفشل وباءت بعضها بالسخرية أيضًا؛ خصوصًا تلك التي تم استعمال فتيات مثيرات وشقراوات فيها. نجحت الولايات المتحدة أخيرًا في مهمتها عام 1965 عبر الجنرال سوهارتو المدعوم من وكالة الاستخبارات الأمريكية، والذي نجح في الاستيلاء على الحكم وسحق أعداء الولايات المتحدة الأمريكية في إندونيسيا “اليساريين”.
دعمت الولايات المتحدة الأصوليين الإسلاميين وكانوا خيرَ حليف لها في حربها المقدسة ضد الشيوعيين “أعداء المسيح من وجهة نظرها”، فقد أعطت الولايات المتحدة لسوهارتو قائمة قد أعدتها وكالة الاستخبارات الأمريكية بأسماء النشطاء اليساريين الذين يجب اغتيالهم، وكانت تلك المجازر ضد اليسار توكل مهمتها في الأغلب إلى الطلاب المتدينين الأصوليين، حيث كانوا يدربون من قبل الجيش، ويتم إرسالهم على الفور لتنفيذ التعليمات المتعلقة بتطهير الريف من الشيوعيين، وقد راح ضحية تلك المجازر – التي اعتمدت على استغلال العواطف الدينية المتشددة – في غضون شهر؛ حوالي نصف مليون شخص وفقًا لـ”التايم”، إلى حد أن النقل النهري في بعض الأماكن قد أعيق تمامًا بسبب انسداد الينابيع بالجثث المقتولة.
3- فيتنام: ما دام الأمر يتعلق بالمصالح الأمريكية فلتذهب الحريات الدينية إلى الجحيم
كانت الثورة الفيتنامية بقيادة الزعيم اليساري “هو تشي منه” قد أحرزت لتوها انتصارًا كبيرًا واستطاعت الصمود والانتصار على قوات الاحتلال الفرنسي رغم المساعدات الأمريكية لقوات الاحتلال، ورغم أنه كان مسيطرًا على معظم أنحاء البلاد، رضخ هو تشي منه لرغبة الاتحاد السوفيتي بقبول اتفاقية جنيف التي نصت على تقسيم فيتنام مؤقتًا إلى قطر شمالي وآخر جنوبي، على طول خط العرض 17، بحيث يكون الجزء الشمالي تحت إدارة “هو تشي منه”، والجزء الجنوبي تحت قيادة حلفاء فرنسا السابقين، شريطة أن تقام انتخابات ديمقراطية عامة في شطري البلاد عام 1965؛ لتوحيدها تحت قيادة من يختاره الشعب، ورغم إعلان الولايات المتحدة الأمريكية أنها لن تتدخل، إلا أنه لم يكن من خيار آخر بالنسبة لمصالحها غير أن تدخل ضد الكفاح الفيتنامي الذي يمثل لها تهديدًا شيوعيًا كبيرًا.تدخلت الولايات المتحدة في الحقيقة، وعلى عكس وعدها؛ ودعمت تعيين كاثوليكي متشدد في الجنوب رئيسًا لأغلبية بوذية، وكانت مهمة هذا الرئيس “أنغودين دييم”، صاحب العلاقات القوية بوزارة الخارجية الأمريكية وأعضاء الكونجرس النافذين، والذي تلقى تعليمه أيضًا بالولايات المتحدة؛ واضحة. وهي إبقاء تقسيم البلاد، ورفض إجراء الانتخابات الديمقراطية في موعدها، وسحق المعارضة المطالبة بالوحدة والديمقراطية، بمساعدة المعونات الأمريكية العسكرية المكثفة للغاية.
منح دييم نفسَه سلطات مطلقة، ورفض توحيد البلاد تحت الانتخابات الديمقراطية المتفق عليها في المعاهدة، وشارك العسكرية الأمريكية في قمع وقتل أبناء جلدته، كما أنه قمع الحريات الدينية للأغلبية البوذية التي يحكمها، فألغى الاحتفالات بعيد ميلاد بوذا واعتقل رجال الدين البوذيين، ومنع نظامه المحافظ الرقص في الأماكن العامة، وصارت الكنيسة الكاثوليكية واحدة من أكبر ملاك الأراضي في البلاد، كما استأثرت الأقلية الكاثوليكية بالنفوذ، حيث لقت تلك الأقلية معاملة تفضيلية من النظام على العكس من باقي الفيتناميين، وكانت المساعدات الأمريكية الإنسانية توزع بشكل غير عادل لصالح القرى ذات الأغلبية الكاثوليكية، وواجه البوذيين المعترضين على ذلك بالاعتقالات والقتل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق