الخميس، 5 نوفمبر 2015

بلال فضل : ملعون أبو دي أخلاق سيساوية

بلال فضل :
ملعون أبو دي أخلاق سيساوية


  5 نوفمبر 2015



بلال فضل

المخيف في الأمر أن عبد الفتاح السيسي يصدّق نفسه.

"إنتو بتسمعوا كلام مني بقى لكو سنتين، قولوا لي أنا أسأت لمين، حد يطلّع تعبير واحد كان فيه لفظ غير مناسب قلته لأي حد، حتى للناس اللي بتهاجمنا أو بتسيء لينا أو بتتآمر علينا... ما يصحّش كده، إحنا بنتجاوز كل حاجة، إيه ده، ما يصحش كده، إيه الشغل ده، والله الأمر ده لا يليق، ما يصحش نعمل كده في بعض".

يقول السيسي هذه الكلمات، فتشعر أنه، من فرط الأسى، يكاد يتصدّع فيخرج منه الماء، لكنك لن تشعر أنه يفتعل إحساسه بالأسى والصدمة، وهذا هو المخيف في الأمر: مصر يحكمها الآن جنرال حزين ممرور، يشعر بالصدمة، لأن كل الناس لا يدركون جسامة تضحياته، ولا تبهرهم إنجازاته، يشعر بالارتباك لأنه لم يعد يلقى حجم التفويض والتصفيق والتأييد نفسه الذي ظل على مدى عامين يناله، من ملايين المصريين، يستوي في ذلك كبار الكتّاب والإعلاميين والسياسيين، مع بسطاء الناس وعامتهم. ومع ذلك، تخرجه عن شعوره كلمات عابرة قالها إعلامي، لطالما تشقلب في محبته، وهو ما يدفعك لأن تسأل: كيف سيكون حال السيسي مستقبلاً حين تمتلئ الشوارع بمظاهرات حاشدة، تسبّه وتلعنه بأقذع الألفاظ، تماماً كما هي عادة المصريين الذين يبدأون عهدهم مع كل حاكم بالثناء على البطن التي أنجبته، ثم ينهونه بلعن أسفل البطن التي أنجبته، وإذا كان مجرد انتقاد لأداء السيسي في أثناء غرق الإسكندرية أغضبه إلى هذا الحد، فأخذ يهدد بإجراءات استثنائية تنكّل بمن سبق أن تفانوا في تبرير جرائمه، فإلى أي مدى في الغضب والاستثنائية سيذهب، حين يعلو في شوارع مصر هتاف "إرحل يعني امشي ياللي ما بتفهمشي".

"انتو بتعذبوني إني جيت وقفت هنا ولا إيه.. أنا باكلمكم بجد، أنا باحس إن الناس لا هي عارفة ولا فاهمة ولا حاجة في الدنيا؟".

صياغة جديدة لمعنى قديم، قاله السيسي من قبل، رداً على أول موجة انتقادات نالته، عقب سلسلة من الكوارث والأخطاء، مذكِّرا المصريين أنهم الذين فوّضوه، وطلبوا منه أن يتولى حكم البلاد في العلن، بعد أن كان يحكمها، هو ومؤسسته، من وراء واجهة مدنية. بالطبع في مواقف الأزمات، تتوارى أحلام الأوميجا وخيالات الجلوس على عرش مصر، التي كانت تنتاب الجنرال قديماً، ويتم إخفاء حقيقة أن الناس لم تبادر إلى طلب التفويض، بل طلبه السيسي غطاءً للقفز على الحكم، ليصبح المنطق الذي يرد به السيسي على أي انتقادات له "مش إنتو اللي جبتوني"، من دون حتى أن يكمله قائلا "طب أنا ماشي خلاص".

هل تستطيع أن تلوم السيسي على استدعائه لحظة التفويض؟ للأسف لا، فقد خرجت استجابة لطلبه بالتفويض أعداد تفوق أعداد الذين خرجوا في 30 يونيو، ليساعده ذلك على التضحية بمطلب الانتخابات الرئاسية المبكرة الذي كان أفضل حل متاح لحل الأزمة السياسية، والخلاص من كوابيس الدم والعنف، وهو ما رفضه الذين اختاروا وهم الزعيم المخلص الذي سيحل لهم كل مشاكلهم، من خلال حل سحري، هو البطش بكل من يختلفون معه في الرأي. "أفرم يا ريّس"، قالها ملايين المصريين عن قناعة في كثير من شوارع مصر، وترجمها كثير من مثقفيهم وإعلامييهم في مقالاتهم وبرامجهم، وفرح الجميع بها، حين بدأت تتحقق على أرض الواقع، عبر أيدي ضباط الجيش والشرطة وحلفائهم من المواطنين الشرفاء. وكان بديهيا أن تُسكر نشوة البطش عقول عشاق الفرم من أجل الحسم، لكن المؤسف أن نشوة البطش أسكرت أيضاً كثيرين ممّن تخلّوا عن إيمانهم بالحرية والعدالة، من أجل عيون الجنرال المخلص، ليكتشف هؤلاء، بعد فوات الأوان، أن من يفرم يسهل الفرم عليه، وأن الحاكم الذي أوصله الفرم إلى الحكم، حين يعجز عن الحلول التي تحتاج إلى الذكاء والمهارة والحنكة، لن يجد أمامه سوى الفرم من جديد، حتى لو اضطر لفرم من شجعوه سابقاً على الفرم، ضرورة لاستعادة هيبة الدولة وحمايتها من السقوط والانقسام.

"ما حدّش أبداً، بفضل الله سبحانه وتعالى، هيقدر ينال من مصر، لأجل خاطر مصر وشعبها، ولأجل خاطر القيم والمبادئ الشريفة والمحترمة اللي احنا بندير بيها علاقاتنا بكل الناس، بيقولوا الكلام ده ما ينفعش في السياسة، لا، القيم والمبادئ والشرف ينفع في السياسة، إن شاء الله يعني".

هذا مديح للقيم والمبادئ والأخلاق، يقوله جنرال يحكم نظاماً قتل في شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي فقط، 9 أشخاص في أماكن الاحتجاز، بسبب تعرضهم للتعذيب أو بسبب الإهمال الطبي في علاجهم، وقام بـ27 عملية تصفية جسدية لأشخاص لم يتعرضوا لأي تحقيق أو محاكمة، ولم يثبت حتى أنهم بادروا إلى عمل إرهابي، بل تمت تصفيتهم، لأن الضباط رأوا أنهم يستحقون القتل. نظام قام في شهر بتعذيب أكثر من 58 مواطناً مصرياً في أقسام مختلفة، فضلا عن 4 حالات تعذيب جماعي في سجون وادي النطرون وأسيوط والأبعدية ومنيا القمح، و10 حالات عنف شرطة ضد مواطنين خارج أماكن الاحتجاز، وأربع حالات تكدير جماعي للأهالي، بالإضافة إلى 92 حالة اختفاء قسري، ارتفع بسببها عدد حالات الاختفاء القسري إلى 215 حالة في شهرين، و22 حالة حرمان من الرعاية الطبية داخل السجون، يرتفع بسببها عدد المرشحين للوفاة داخل السجون بسبب الإهمال الطبي، والذين وصل عددهم إلى 97 حالة وفاة منذ يناير/ كانون الثاني الماضي. ويمكن أن ترجع إلى تقرير أصدره مركز النديم، أحد أكثر المراكز الحقوقية احتراما ومصداقية، لتشاهد بنفسك أسماء هؤلاء المواطنين الذين تحوّلهم التقارير عادة إلى أرقام، يتهمها كثيرون بالمبالغة، لكي يريحوا ضمائرهم، ويتمكنوا من النوم سعداء، في ظل وهم الدولة المحمية بالزعيم المخلص.

للأسف، تظل هذه الأرقام، على فداحتها، أقل من حصيلة أشهر سابقة، سقط فيها مئات القتلى، وتكدست السجون والأقسام بآلاف المعتقلين. ومع ذلك، لم تهتز قناعة السيسي بأنه يحمي القيم والمبادئ والأخلاق، لأن تصوّره عن الأخلاق والقيم والمبادئ يطابق تصور محبيه ومؤيديه، الذين ينتفضون غضباً ضد سطور في رواية، أو مشهد في فيلم، أو تغريدة تسمي الظلم والفساد والتعريص باسمه، في الوقت الذي لا يعتبرون فيه التعذيب أو الإخفاء القسري أو القتل العشوائي عملاً ينافي الأخلاق والقيم. وحين ينطق بالشتائم ثائر غاضب فاض به الكيل، ينتفض هؤلاء من أجل حماية المجتمع وقيمه وأخلاقه، لكنهم يختارون الطناش المبين، حين يطفح باكبورت الشتائم من فم صاحب نفوذ، بل على العكس ستسمع منهم حينها تنظيرات مدهشة، عن أهمية قلّة الأدب سلاحاً لحماية المجتمع من "قلالات الأدب"، وهو ذاته ما يفعله قائدهم الأعلى الذي يرعى نظامه البرامج التلفزيونية التي تنتهك خصوصيات معارضيه، وتستبيح ذممهم وتشكك في وطنيتهم وتخوض في أعراضهم، ولعلّك تتذكر كيف كشف الكاتب عبد الله السناوي عن تدخل أستاذه محمد حسنين هيكل شخصياً لدى السيسي، لوقف إذاعة مكالمات حمدين صباحي المسجلة، وحدث ذلك الوقف بالفعل. وعلى الرغم من ذلك، لم يتوقف كثيرون من مروجي وهم القائد الإصلاحي عن تصوير أن ما يحدث من جرائم في برامج تلفزيون كثيرة، أمر لا علاقة له بشخص السيسي المهذّب العفيف دمث اللسان.

طبقا لعقلية السيسي وأنصاره، ليست المشكلة أن تقتل حوالي ألف شخص في يوم، أو أن تعلّق المواطنين كالذبائح في أقبية مباني الأمن الوطني، أو أن تتسبب في تحويل آلاف البيوت إلى قبور، يتواصل فيها البكاء، أملا في العثور على ابن مختفٍ، أو الاطمئنان على ابنة معتقلة، المشكلة الأكبر أن تشتم أو تسيء لفظياً إلى شخص، وحينها سيكون مواطنوك الشرفاء فخورين بك، لأن العيبة لا تطلع من فمك، حتى لو كانت تطلع من أفواه كل من تحميهم من ضباط ومذيعين وقضاة وشراشيح. دعنا لا ننسى أن هؤلاء المواطنين الشرفاء أنفسهم الذين يعتبرون أن رمز التهذيب والأخلاق والقيم يتمثل في عدلي منصور، الرجل الذي وضعه السيسي فاترينة على قمة الحكم، والذي حدثت في ظل توليه الشكلي للرئاسة أبشع المذابح والانتهاكات، وتمت إطاحة أبسط مبادئ القانون والعدالة التي عاش الرجل عمره في خدمتها. ومع ذلك، لا زال عدلي منصور فخورا حتى الآن بنفسه وبدوره، ولا زال يصدّق أنه أدى خدمات جليلة لمصر في أثناء توليه الرئاسة، وهو خيال سيظل يلازمه، حتى لو وقف في قفص المحاكمة على ما قام برعايته من جرائم، كانت حجر الأساس لتحويل مصر إلى معتقل كبير، لا صوت يعلو فيه فوق صوت النفاق، وهو الخيال نفسه الذي سيظل يلازم السيسي أيضا، وسيظل يلازم دائماً كل من ظنوا أنهم يصنعون أمن أوطانهم واستقرارها، بسفك دماء المعارضين لهم واستباحة حرياتهم وأموالهم وأعراضهم.

ربما كان الأمر سيهون، لو لم يكن لدى السيسي وكثير من مؤيدي دولة الفرم من المواطنين، أخلاق ومبادئ وقيم بالفعل، لأن مقاومة من يعترفون بتفضيلهم المصالح على المبادئ، تكون أسهل وأهون. أما حين تكون بصدد مواطن يقيم فرائض دينه، ويتقرّب إلى الله بالنوافل والصدقات، ويحرص على عفّة لسانه وطهارة يده، في الوقت الذي يهلّل فيه للقتل والظلم وهتك الأعراض، فمهمتك أصعب بكثير، لأن ذلك المواطن لن يصدّق بسهولة أن هذا النوع "الفالصو" من القيم والمبادئ هو أبرز أسباب تخلّف مصر وتأخرها، ولن يدرك إلا بعد مزيد من التجارب المروّعة التي تطاله شخصيا، أنه إذا كان راغباً في أن يعيش حقاً في دولة متحضّرة متقدمة، يعمّها الأمن والاستقرار، فعليه أن يؤمن، أولاً، أن قيمة العدل أهم وأجدى من كل القيم والمبادئ، و أن تحقيق المساواة بين المواطنين، أياً كانت أخلاقهم، أهم بكثير من عفة لسان رئيس الدولة، وأن صيانة كرامة الإنسان وحريته، ألزم للبلاد من تكرار رئيسها الدائم لعبارة "ربنا سبحانه وتعالى"، في خطاباته الكارثية التي تختلط فيها المواعظ بالأرقام بالتهديدات بالهلاوس.

السيسي لم يعد يلقى التصفيق الذي يريد


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق