" رابعة " !
في ذكرى الف يوم عليها
بقلم سليم عزوز
قالوا
إنها ليست أكثر من "إشارة مرور"، فارتفعت بها الدماء الطاهرة لتكون شارة
عالمية كاشفة عن جريمة الانقلاب العسكري، ورمزا للتضحية من أناس كان معظمهم
من البسطاء، الذين احتشدوا ليدافعوا عما يعتقدون أنه الحق.
لم تكن "رابعة"، تجمعا للإخوان المسلمين، أو
للإسلاميين بشكل عام، فكثير من الذين شهدوا هذه الملحمة الإنسانية العظيمة
لم يكونوا منهم، وكثير منهم لم ينتخب الدكتور محمد مرسي، ولم يكونوا من
مؤيديه في فترة حكمه، لكنهم ذهبوا إلى هناك لأنهم وجدوا باطلا يستند على
القوة، ويطيح برمز الخير والسماحة، ولم يستطع الانقلاب أن يقنع هؤلاء
الناس، بترسانة إعلامه، بغير ما اقتنعوا به من أنه "عمل غير صالح".
إن "رابعة" كانت حالة، أكثر من كونها تجمعا
لثورة، أو مكانا لاعتصام، فمن الذي جاء بفلاح بسيط من القرى والنجوع
البعيدة، ليقضي شهر رمضان في "عز الحر"، في "تغريبة" اختيارية بالقاهرة،
ويفطر على قطعة جبن قديمة حملها معه من هناك، ولكي ينحاز لموقف سياسي، إن
لم تكن "رابعة" أكبر من تجمع ثوري، أو اعتصام تجاوز حدود السياسة، إلى
المعنى البسيط لنصرة المظلوم، والوقوف في مواجهة الظالم، بالجسد المنهك،
وبالقوة التي لا تستند إلا لنفس طاهرة وكأن كل واحد منهم هو "غاندي"، مع
أنهم ربما لا يعرفون من هو غاندي هذا، الذي لم يرفع سلاحا في وجه عدوه.
مهما حاولنا سبر أغوار نفوس هؤلاء الذين
احتشدوا في "رابعة" فظني أننا لا يمكن أن نصل إلى تفسير هذه "الحالة
الإنسانية" رغم مرور ألف يوم على ارتكاب العسكر للمجزرة غير المسبوقة في
تاريخ مصر، التي سيقف التاريخ أمامها طويلا، باعتبارها واحدة من الجرائم
التي ارتكبت ضد الإنسانية، وقد تحولت إلى لعنة أصابت كل من شارك فيها ولو
بشطر كلمة، وكل من لم يدنها بكلمات واضحة.
لم أذهب إلى اعتصام "رابعة" قط، فقد حدثتني
نفسي بالذهاب، فكنت أقدم وأدبر، وفي النهاية يكون التراجع هو القرار، كنت
قبل سفري للدوحة بدعوة من الجزيرة، انتقل من فضائية إلى أخرى ضد الانقلاب
العسكري، وعندما أسس أحد الزملاء "حركة صحفيون ضد الانقلاب"، وعرض علي
التوقيع لم أتردد، وقد علمت بعد ذلك أن اسمي أعلن من على منصة "رابعة" كأول
اسم، لكني ظللت مترددا في أمر شد الرحال إلي هذا الاعتصام، فلم تكن نفسي
صافية تجاه بعض قيادات الجماعة، بعد موقفين ضدي كان لهما وقع سيئ على نفسي،
وكان موقفي ضد الانقلاب العسكري ورفضي لمجرد النقاش في شرعية الرئيس مرسي
هو قسمتي في ما أملك، لكن ما لا أملكه هو أن تجمعني منصة واحدة وميدان واحد
لخصم، آذاني على المستوى الشخصي، حتى علمت بسبب ذلك معنى "قهر الرجال" وهو
شعور لم يتملكني لحظة ونظام مبارك يحاصرني ويمنعني بقوة السلاح من
الكتابة، بل ومن دخول جريدتي التي كنت أشغل فيها موقع نائب رئيس التحرير.
لقد تلقيت دعوة "الجزيرة" وسافرتُ للدوحة،
وقضيت أسبوعين في شهر رمضان نسهر مع هذا التجمع البشري الإنساني، نؤوب معا
بالساعات على "الجزيرة مباشر مصر"، ونعيش الحالة فننسى سحورنا، وقد نتذكره
فلا نجد ما نتسحر به إلا بعض لقيمات، يحملها لنا مدير القناة "أيمن جاب
الله" وفي بعض الأيام لم أنتبه والإعلامي "زين العابدين توفيق"، بأننا
قضينا وقتا طويلا إلا ونحن يلفح وجوهنا ضوء شمس الصباح!
كانت "مباشر مصر" تنقل هذا التجمع للعالم،
يخطب الخطباء فنستمع لهم وينتهون فيتكلم من في الاستوديو، وكنا في "حالة"،
وفي يوم عيد الفطر كنت في طريقي للمطار إلى القاهرة، وكان أحد الزملاء في
انتظاري، وسمعت منه ما أدهشني؛ لقد صار من "أوتاد رابعة"، ولم يكن قد انتخب
الدكتور محمد مرسي، وكان يحمل لتجربته في الحكم عداء شديدا، وقد زادني من
الشعر بيتا عندما قال لي إن شقيقته الموظفة الكبيرة في إحدى المصالح
الحكومية لها خيمة في "رابعة" في الصباح، تذهب لعملها وتعود منه لمنزلها
لتجهز طعام الإفطار وتذهب إلى "الخيمة"، حيث يرابط فيها أبناؤها في فترة
غيابها، لتبقي هناك حتى الفجر وهكذا كل يوم في شهر رمضان.
مبعث الدهشة أنني لم أعرف عنها اهتماما
بالسياسة أو انحيازا لتجربة "مرسي" في الحكم، لكن ما الذي دفعها للحماس له
الآن والانشغال بقضية سياسية، ولم تكن السياسة مطروحة على جدول أعمالها؟
حقيقة لا أعرف، لكن ما أعرفه جيدا أن آلافا كانوا مثلها، جمعتهم "رابعة"
وهي تشكل "حالة" إنسانية ووجدانية فريدة من نوعها.
كانت قناة "مصر 25"، المملوكة لجماعة الإخوان
المسلمين، قد انتقلت للبث من ميدان "رابعة"، بعد إغلاق الانقلاب العسكري
لها، وتلقيت دعوة للمشاركة في برامجها، واعتذرت للأسباب السابقة ذاتها، إلى
أن استيقظت في ذات صباح على خبر المذبحة، كان أحد الزملاء قد ذهب لتغطية
ما يجري في "ميدان النهضة" ومن هناك اتصل بي هاتفياً ليخبرني وهو في دهشة،
بأنه يشاهد جثثا محترقة وكانت الحرب قد ألقت أوزارها، لكن بعد ساعات لم يكن
في الأمر ما يدعو للغرابة أو الدهشة فقوات السيسي كانت تشعل النار في جثث
شهداء رابعة، وكان ما يجري فيها يتم نقله على الهواء مباشرة!
وعندما تلقيت خبر وفاة "أسماء البلتاجي" كتبت على "الفيس بوك" قول أمير الشعراء:
محا الموت أسباب العداوة بيننا/ فلا الثأئر ملحاح ولا الحقد ثائر
وكان السيسي قد طلب تفويضا لمواجهة ما أسماه
الإرهاب المحتمل، واستغله في القتل، وهناك من بين الذين ينتمون لثورة يناير
من لم يتوقفوا عند منح التفويض ولكنهم رقصوا يوم المذبحة، ولم تؤثر فيهم
الدماء المراقة، أو الجثث المتراصة، أو بكاء الثكالى، والأجسام المتفحمة!
كانت القلوب قد قست، حتى أصبحت كالحجارة بل
أشد قسوة، ولأن "رابعة" هي حالة إنسانية، فقد انتقلت للعالم كله، وصارت
شارتها يرفعها الأحرار في كل مكان، بل وتحولت إلى "لعنة" أصابت كل من قتل
وكل من شارك في القتل، فقد سلط الله الظالمين على الظالمين، وانقلب السحر
على الساحر، ليثبت أن ما جرى في 30 يونيو وما بعدها، ليس إلا قول ساحر، وأن
الله سيبطله.
لقد حلَّت اللعنة على القوم، وصار القاتل كعبد كلٍّ على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير، فقد رُفع عنه الستر الإلهي.
إنه الدم، وإن شئت فقل إنها "رابعة" أيها الغبي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق