فيصل
القاسم: أذا اردت ان تقضي على ثورة اصنع لها متطرفين:
فيصل القاسم: هل لاحظتم في بداية الثورة السورية أن أكثر شيء أزعج نظام بشار الأسد هو مطالبة الشعب بالحرية؟ وقد لاحظنا كيف كانت أجهزة الأمن تنكّل بالمتظاهرين الثائرين، وتتلذذ بتعذيبهم بطرق وحشية، وهي تقول لهم: "بدكن حرية، أي خذوا حرية" (وهي تسحقهم طبعاً).
هرش النظام وحلفاؤه وكل من يريد إفشال الثورة رؤوسهم وهم يفكرون بالانتقام من الثوار، ثم صاحوا: وجدناها، وجدناها: نحن نعرف كيف نجعل الشعب الثائر يحن إلى أيام الطغيان الخوالي، ويلعن الساعة التي طالب فيها بالحرية.
أحضروا له جماعات متطرفة تجعل النظام يبدو "ديمقراطياً" للغاية بالمقارنة معها. سنجعل تلك الجماعات تتدخل حتى في لباسكم وشرابكم وأكلكم وسجائركم.
عندئذ ستقولون: "ما أحلى أيام المخابرات، على الأقل لم تمنعنا من التدخين، وتركتنا نلبس، ونأكل، ونشرب، ونسمع ما نشاء".
إياكم أن تستهينوا بهذه الحريات البسيطة. تخيل أنك تمشي في الشارع، وجاء شخص، وضربك، وطالبك بالدعس على السيجارة فوراً، أو منعك من الاستماع إلى موسيقى معينة. كيف سيكون شعورك، إذا لم يكن بإمكانك أن تنظر في وجهه، فما بالك أن تصرخ؟
ومما يجعل الطواغيت أكثر شعبية من بعض الإسلاميين المتطرفين، أن بعض المجتمعات التي ثارت فيها الشعوب هي عبارة عن موزاييك ديني وطائفي وعرقي، وبعضها فيه نسبة كبيرة من العلمانيين. أي إن ذلك الموزاييك ليس مستعداً للعيش في مجتمع محكوم دينياً، وبالتالي فهو سيفضل الطاغية العسكري، على علاته الكثيرة، على "الخليفة المُعمم".
وحتى المسلمون العاديون الذين تعودوا على حياة اجتماعية غير متزمتة، لن يقبلوا بنظام حكم ديني صارم. وقد سمعت من كثيرين من المسلمين السوريين أنهم بعد الثورة سيحملون السلاح فوراً لتحرير البلاد من أي جماعة دينية متطرفة؛ أي إنهم لم يثوروا ضد النظام العسكري المخابراتي ليستبدلوه بنظام ديني متطرف.
ألا يحق للبسطاء الآن أن يتساءلوا بعد أن وجدوا أن الجماعات المتطرفة اختطفت الثورات؟ من أين أتت تلك الجماعات؟ لماذا لم نرها قبل الثورات؟ من أين أتت بالسلاح؟ كيف تغولت، وسيطرت على الساحات بسرعة وبقوة؟ لماذا لا تسقط مواقع النظام في سوريا إلا أمام جماعات إسلامية معينة؟ لماذا اختفت الجماعات الثورية الأصلية التي كانت تريد بناء أنظمة ديمقراطية حديثة تصون الحقوق والحريات الأساسية؟
أسئلة مشروعة جداً بعيداً عن الفلسفات. أليس من عادة الثورات أن تنقل الشعوب إلى الأمام لا إلى الوراء؟ ألم تثر الشعوب لتنتقل من الواقع البائس إلى مستقبل مشرق؟ هل أرسلوا لها جماعات متطرفة لتنتقم منها، وتعيدها مئات السنين إلى الوراء؟ ألا تحاول الجماعات المتطرفة التي تتزعم الساحات الآن إعادة الشعوب إلى الخلف فعلاً؟ ألا تهدد بالتدخل في أبسط حرياتها؟ فمن المستفيد إذاً من تصرفات تلك الجماعات وطغيانها؟ أليس الطواغيت الذين ثارت على ظلمهم وطغيانهم الشعوب؟ ألا يفرك بشار الأسد وأمثاله وحلفاؤه أيديهم فرحاً عندما يرون تلك الجماعات تنافسهم في القمع والطغيان؟ النظام السوري وأتباعه يشتمون الدواعش نهاراً، ويشكرونهم ليلاً، لأنهم وفروا لهم متنفساً عظيماً.
سؤال للجماعات التي تريد أن تعود بالشعوب الثائرة إلى ما قبل القرون الوسطى: ألا تعتقدين أنك بذلك تقدمين خدمة جليلة جداً لأعداء الثورات والطواغيت الذين يواجهون ثورات شعبية؟ الشعوب ثارت للتخلص من الظالمين، وليس للوقوع في حضن الظلاميين الذين يريدون أن يعودوا بالشعوب إلى غياهب الماضي. إما أنك لا تفقهين ألف باء الثورات كونها قفزة إلى الأمام وليس نكوصاً إلى الخلف أيتها الجماعات، أو أنك من صنع الطواغيت وأعوانهم كي يجعلوا الشعوب تقول: "خليك على قردك كي لا يأتيك الأقرد منه".
أليس من حق الشعوب أن تظن أن الديكتاتوريات المحاصرة بالثورات تعمل مع حلفائها على خلق جماعات تدعو للعودة إلى الوراء، فتتوقف الشعوب عن مطالبها الثورية، وتقول: فلنبق على ما نحن عليه، أفضل من أن نعود إلى الماضي السحيق.
لا شك أن البعض سيقول لنا: وما العيب في أن نعود مئات السنين إلى الوراء؟ ألم نكن أفضل في تلك الأيام الخوالي؟ نعم بالتأكيد كنا أفضل وأقوى. لكنه بصراحة سؤال ساذج؟ ومن قال لك إن تلك الجماعات المتطرفة ستعيدك إلى العصر الإسلامي الذهبي؟ ولو افترضنا جدلاً أن تلك الجماعات تريد ذلك فعلاً، هل تسمح لها القوى الكبرى بذلك؟ صحيح أن كثيرين صفقوا لبعض الجماعات المتطرفة في سوريا وغيرها، لكن ليس لأنهم يريدونها بديلاً عن النظام، بل فقط نكاية بالنظام وانتقاماً منه، دون أن يعلموا أن بعض الجماعات تقوم بتلميع صورة النظام بطريقة غير مباشرة داخلياً وخارجياً.
ثم أين انتصرت تلك الجماعات المتطرفة، ثم بنت دولة أفضل من الموجود؟ في أفغانستان؟ في الصومال؟ في الجزائر؟ في ليبيا؟ أم إنها انشغلت بمقاتلة بعضها البعض بعد أن نفذت مشاريع الآخرين هناك؟ انظر كيف تصفّي بعضها البعض في سوريا وغيرها؟ أليست الجماعات الإسلامية أكثر من يردد القول الكريم: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم"، لكنها أكثر الجماعات تنازعاً فيما بينها، وخاصة في أثناء الثورات وبعدها؟ قد يقول البعض إن الثورة المصرية لم يقتلها المتطرفون الإسلاميون.
وهذا صحيح، لكن الثورة المضادة نجحت نجاحاً باهراً في استغلال البعبع الإسلامي لإعادة الشعب إلى بيت الطاعة.
لقد حققت الجماعات المتطرفة هدفين لأعداء الثورات في الداخل والخارج؛ أعادت بعض الأنظمة الساقطة للسلطة، وأطالت بعمر النظام السوري وغيره بعد أن انشغل بها الداخل والخارج، واستغلها الخارج وعملاؤه في الداخل لحرف الثورات عن مسارها، واستخدموها سكيناً لإعادة رسم خرائط المنطقة.
تدخل داعش إلى منطقة، فترسل لها أمريكا وإيران طائراتها وجماعات لتقاتلها على الأرض، فتخرج داعش من تلك المنطقة لتحل محلها جماعة أخرى، كما يفعل الأكراد الآن في الشمال والجماعات الإيرانية في العراق.
وبحجة ذلك يتم تهجير شعوب وإعادة تقسيم المناطق بتنسيق أمريكي إيراني لا تخطئه عين. وحتى لو صدقنا أن تلك الجماعات مستقلة تماماً، ولا تخدم أحداً، وانتصرت، وحلت محل الأنظمة الساقطة، ألا يحق للشعوب أن تسأل: هل ثرنا كي نستبدل الفالج بالسرطان، أو الظلم بالظلام؟
(عن صحيفة القدس العربي 27 حزيران/ يونيو 2015)
فيصل القاسم: هل لاحظتم في بداية الثورة السورية أن أكثر شيء أزعج نظام بشار الأسد هو مطالبة الشعب بالحرية؟ وقد لاحظنا كيف كانت أجهزة الأمن تنكّل بالمتظاهرين الثائرين، وتتلذذ بتعذيبهم بطرق وحشية، وهي تقول لهم: "بدكن حرية، أي خذوا حرية" (وهي تسحقهم طبعاً).
هرش النظام وحلفاؤه وكل من يريد إفشال الثورة رؤوسهم وهم يفكرون بالانتقام من الثوار، ثم صاحوا: وجدناها، وجدناها: نحن نعرف كيف نجعل الشعب الثائر يحن إلى أيام الطغيان الخوالي، ويلعن الساعة التي طالب فيها بالحرية.
أحضروا له جماعات متطرفة تجعل النظام يبدو "ديمقراطياً" للغاية بالمقارنة معها. سنجعل تلك الجماعات تتدخل حتى في لباسكم وشرابكم وأكلكم وسجائركم.
عندئذ ستقولون: "ما أحلى أيام المخابرات، على الأقل لم تمنعنا من التدخين، وتركتنا نلبس، ونأكل، ونشرب، ونسمع ما نشاء".
إياكم أن تستهينوا بهذه الحريات البسيطة. تخيل أنك تمشي في الشارع، وجاء شخص، وضربك، وطالبك بالدعس على السيجارة فوراً، أو منعك من الاستماع إلى موسيقى معينة. كيف سيكون شعورك، إذا لم يكن بإمكانك أن تنظر في وجهه، فما بالك أن تصرخ؟
ومما يجعل الطواغيت أكثر شعبية من بعض الإسلاميين المتطرفين، أن بعض المجتمعات التي ثارت فيها الشعوب هي عبارة عن موزاييك ديني وطائفي وعرقي، وبعضها فيه نسبة كبيرة من العلمانيين. أي إن ذلك الموزاييك ليس مستعداً للعيش في مجتمع محكوم دينياً، وبالتالي فهو سيفضل الطاغية العسكري، على علاته الكثيرة، على "الخليفة المُعمم".
وحتى المسلمون العاديون الذين تعودوا على حياة اجتماعية غير متزمتة، لن يقبلوا بنظام حكم ديني صارم. وقد سمعت من كثيرين من المسلمين السوريين أنهم بعد الثورة سيحملون السلاح فوراً لتحرير البلاد من أي جماعة دينية متطرفة؛ أي إنهم لم يثوروا ضد النظام العسكري المخابراتي ليستبدلوه بنظام ديني متطرف.
ألا يحق للبسطاء الآن أن يتساءلوا بعد أن وجدوا أن الجماعات المتطرفة اختطفت الثورات؟ من أين أتت تلك الجماعات؟ لماذا لم نرها قبل الثورات؟ من أين أتت بالسلاح؟ كيف تغولت، وسيطرت على الساحات بسرعة وبقوة؟ لماذا لا تسقط مواقع النظام في سوريا إلا أمام جماعات إسلامية معينة؟ لماذا اختفت الجماعات الثورية الأصلية التي كانت تريد بناء أنظمة ديمقراطية حديثة تصون الحقوق والحريات الأساسية؟
أسئلة مشروعة جداً بعيداً عن الفلسفات. أليس من عادة الثورات أن تنقل الشعوب إلى الأمام لا إلى الوراء؟ ألم تثر الشعوب لتنتقل من الواقع البائس إلى مستقبل مشرق؟ هل أرسلوا لها جماعات متطرفة لتنتقم منها، وتعيدها مئات السنين إلى الوراء؟ ألا تحاول الجماعات المتطرفة التي تتزعم الساحات الآن إعادة الشعوب إلى الخلف فعلاً؟ ألا تهدد بالتدخل في أبسط حرياتها؟ فمن المستفيد إذاً من تصرفات تلك الجماعات وطغيانها؟ أليس الطواغيت الذين ثارت على ظلمهم وطغيانهم الشعوب؟ ألا يفرك بشار الأسد وأمثاله وحلفاؤه أيديهم فرحاً عندما يرون تلك الجماعات تنافسهم في القمع والطغيان؟ النظام السوري وأتباعه يشتمون الدواعش نهاراً، ويشكرونهم ليلاً، لأنهم وفروا لهم متنفساً عظيماً.
سؤال للجماعات التي تريد أن تعود بالشعوب الثائرة إلى ما قبل القرون الوسطى: ألا تعتقدين أنك بذلك تقدمين خدمة جليلة جداً لأعداء الثورات والطواغيت الذين يواجهون ثورات شعبية؟ الشعوب ثارت للتخلص من الظالمين، وليس للوقوع في حضن الظلاميين الذين يريدون أن يعودوا بالشعوب إلى غياهب الماضي. إما أنك لا تفقهين ألف باء الثورات كونها قفزة إلى الأمام وليس نكوصاً إلى الخلف أيتها الجماعات، أو أنك من صنع الطواغيت وأعوانهم كي يجعلوا الشعوب تقول: "خليك على قردك كي لا يأتيك الأقرد منه".
أليس من حق الشعوب أن تظن أن الديكتاتوريات المحاصرة بالثورات تعمل مع حلفائها على خلق جماعات تدعو للعودة إلى الوراء، فتتوقف الشعوب عن مطالبها الثورية، وتقول: فلنبق على ما نحن عليه، أفضل من أن نعود إلى الماضي السحيق.
لا شك أن البعض سيقول لنا: وما العيب في أن نعود مئات السنين إلى الوراء؟ ألم نكن أفضل في تلك الأيام الخوالي؟ نعم بالتأكيد كنا أفضل وأقوى. لكنه بصراحة سؤال ساذج؟ ومن قال لك إن تلك الجماعات المتطرفة ستعيدك إلى العصر الإسلامي الذهبي؟ ولو افترضنا جدلاً أن تلك الجماعات تريد ذلك فعلاً، هل تسمح لها القوى الكبرى بذلك؟ صحيح أن كثيرين صفقوا لبعض الجماعات المتطرفة في سوريا وغيرها، لكن ليس لأنهم يريدونها بديلاً عن النظام، بل فقط نكاية بالنظام وانتقاماً منه، دون أن يعلموا أن بعض الجماعات تقوم بتلميع صورة النظام بطريقة غير مباشرة داخلياً وخارجياً.
ثم أين انتصرت تلك الجماعات المتطرفة، ثم بنت دولة أفضل من الموجود؟ في أفغانستان؟ في الصومال؟ في الجزائر؟ في ليبيا؟ أم إنها انشغلت بمقاتلة بعضها البعض بعد أن نفذت مشاريع الآخرين هناك؟ انظر كيف تصفّي بعضها البعض في سوريا وغيرها؟ أليست الجماعات الإسلامية أكثر من يردد القول الكريم: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم"، لكنها أكثر الجماعات تنازعاً فيما بينها، وخاصة في أثناء الثورات وبعدها؟ قد يقول البعض إن الثورة المصرية لم يقتلها المتطرفون الإسلاميون.
وهذا صحيح، لكن الثورة المضادة نجحت نجاحاً باهراً في استغلال البعبع الإسلامي لإعادة الشعب إلى بيت الطاعة.
لقد حققت الجماعات المتطرفة هدفين لأعداء الثورات في الداخل والخارج؛ أعادت بعض الأنظمة الساقطة للسلطة، وأطالت بعمر النظام السوري وغيره بعد أن انشغل بها الداخل والخارج، واستغلها الخارج وعملاؤه في الداخل لحرف الثورات عن مسارها، واستخدموها سكيناً لإعادة رسم خرائط المنطقة.
تدخل داعش إلى منطقة، فترسل لها أمريكا وإيران طائراتها وجماعات لتقاتلها على الأرض، فتخرج داعش من تلك المنطقة لتحل محلها جماعة أخرى، كما يفعل الأكراد الآن في الشمال والجماعات الإيرانية في العراق.
وبحجة ذلك يتم تهجير شعوب وإعادة تقسيم المناطق بتنسيق أمريكي إيراني لا تخطئه عين. وحتى لو صدقنا أن تلك الجماعات مستقلة تماماً، ولا تخدم أحداً، وانتصرت، وحلت محل الأنظمة الساقطة، ألا يحق للشعوب أن تسأل: هل ثرنا كي نستبدل الفالج بالسرطان، أو الظلم بالظلام؟
(عن صحيفة القدس العربي 27 حزيران/ يونيو 2015)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق