إذا أردت أن تعرف مقامك.. فاترك مكانك!
بقلم: د. فتحي أبو الورد
هناك
حكمة عطائية قديمة تقول: إذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيما أقامك، أى إذا
أردت أن تعرف مكانتك عند الله تعالى ؛ فانظر إلى ما وفقت إليه من الوقوف
على أبواب رضوانه من أعمال الخير ومجالسة الصالحين وموالاة الصادقين،
ومؤانسة السالكين، ومعاونة على البر، ومساعدة على نوائب الدهر..إلخ.
انظر إلى حالك هل تقف مع الحق وأهله، أم مع الباطل وحزبه، وحين تقف على ذلك ستعرف حتما مكانتك عند الله تعالى.
وكذلك
حال الناس مع بعضهم فى الدنيا، قد يقترب منك صاحب مصلحة لأن مكانك يجعلك
سببا لقضاء مصلحته، وقد يزوك البعيد ما دمت وجيها فى المجتمع، وقد يصلك
القاطع لأن صلتك غدت مغنما، وقد يأتيك الهاجر مبتسما راغبا فى الوصال لأن
الهجر لأمثالك يعيبه ويشينه، وقد تحط قريبا من دارك رحال متملق لأن مقامك
يرفع خسيسته، وقد يظهر لك متسلق معسول الكلام رغبة فى منال قدر لديك يصعد
من خلاله لحظوة من لعاعة الدنيا.
هذه
الرغائب فى الوصال والتودد مرذولة ومعيبة بين الناس ؛ ما دامت قد دارت فى
فلك الدنيا، وكان منتهاها المصلحة البحتة، وخلت من الحب فى الله، والتزاور
من أجل مرضاته، وقديما قال علماؤنا : العادات تحول إلى عبادات بالنية
الصالحة.
ولك أن
تعرف حقيقة المتوددين والمتقربين والنفعيين، حينما تنقطع عن منصبك ومكانتك
ووجاهتك، وتذهب منك المنافع، وتنسلخ عنك المغانم، وتترك مكانك، هنا فقط
تعرف مكانتك عند الناس.
سيظل
على العهد بك من أحبك لله، ورأى فيك أنك أهل للصداقة والأخوة، وكانت عزيمته
منعقدة على دوام الوصال فى مختلف الأحوال، وما كان لله دام واتصل، وما كان
لغيره انقطع وانفصل، وفى الحديث : "أوثق عرى الإيمان الحب فى الله، والبغض
فى الله ".
سينقطع
عنك من ارتبط اسمك ورسمك فى ذاكرته بالنفع والمصلحة، ومن كنت له لونا من
ألوان الوجاهة الاجتماعية المطلوبة فى حينها، ومن كنت بالنسبة له سلما
للوصول لعرض زائل، ومن رأى فيك مطية من مطايا الوصولية، وساذجا من سذج
العواطف ؛ فاستمال قلبك بنسج من الخيال الكاذب.
ستنقطع
عنك الهدايا والتهانى والتبريكات فى المناسبات، ولن تعرف بوكيهات الورود
طريق منزلك بعد ترك مكانك، ولن تجد عشرات الرسائل فى "الإنبوكس" فى بريدك،
ولن تنهال عليك طلبات الصداقة والمتابعة التى كانت تلاحقك فى الغدو والرواح
على الفيس بوك وسائر وسائل التواصل الاجتماعى، ولن يرن جرس تليفونك كثيرا
بعد يوم تركك لمكانك، حتى تظن أن صوت الهاتف أصابه خرس.
سيخفت
وهج الألقاب والأوصاف التى كان البعض يمطرها عليك حتى تنطفئ تماما، فما أنت
بصاحب الفضيلة السابق، ولا أنت بذى المكارم الغابر، ولا أنت صاحب الفضل
بعد الله فيما آل إليه حاله، ولا أنت بشمس الشموس، ولا بقمر الليالى، ولا
أنت بفاكهة المواسم ، ولا أنت بعطر المجالس.
اشتكى أحد الأعلام السامقة من قلة زائريه من تلاميذته وزملائه وهو على فراش الموت حتى فارق الحياة وهو على هذه الحال.
وحكى
أحد كبار الصحفيين عن بعض الوزراء فى التسعينيات أنه بعد أن ترك وزارته
فتح صندوق بريده فوجد فيه رسالة وحيدة، ولما فتحها وجد أنها وضعت فى
صندوقه بالخطأ، وطرق باب منزله عامل إحدى محلات الزهور، واستفسر منه عن
الاسم ليسلم له " بوكيها من الورد "، فقال له : إنه جارى فى الشقة
المجاورة، ولما طرق جرس الهاتف الأرضى رفع السماعة، وبعد عدة عبارات كانت
إجابته : عفوا النمرة غلط.
قد كنت
تتوهم أيها المسكين أن الدنيا ستعلن الحداد بعد تركك المنصب، وأن الحياة
ستتوقف بعدك، وأن الزمن سيتوقف عند حادث تقاعدك أو إقعادك، أو استقالتك أو
إقالتك، وحينها ستكتشف أنك أسأت الظن بالدنيا والحياة والزمن مما يستوجب
التوبة من هذا الظن السيئ.
لقد جرت
سنة الله تعالى أن المتحابين فى الله فى ظله يوم القيامة، وأنه سبحانه
ينادى عليهم يوم القيامة : " أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم
لا ظل إلا ظلى ".
و أخبر
النبى عن ربه تعالى فى الحديث القدسى أن محبته سبحانه تنال المتحابين فيه،
والمتجالسين فيه، والمتزاورين فيه، وهذا هو الأساس الذى ينبغى أن تقوم عليه
العلائق بين الناس، والوصال بين المتواصلين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق