انحطاط 64 عاماً في 24 ساعة :
بقلم- أحمد القاعود:
وصلنا
إلى مركز الشرطة في حوالي الثانية والنصف صباحاً، دخلنا نحن الأربعة
الأبرياء إلى غرفة في الطابق الثاني، بها مكتبين إداريين، جلسنا على أريكة
خشبية، كان أول ما وقعت عليه عيناي نتيجة ورقية تصدّرتها الآية الكريمة "قل
لن يصينا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون" كانت
كلمة هو مولانا في مركز الصورة، وبالتالي أراحت البال وسكّنت الخاطر. بعد
فترة طلبت دخول دورة المياه، وسمح لنا بسماحة أمين شرطة، فيما أعتقد. ذهبنا
واحداً تلو الآخر، عندما عدنا قيّدنا بالكلابشات، واعتذر لمفتش الأوقاف
وهو يغلقها على يده "أنا أسف يا عم الشيخ"، تبادلنا أطراف الحديث مع الأمين
ولحق به بعد فترة زميل آخر له، كان الجميع يتناقش سوياً في أمور الحياة،
إلى أن جاء الشبيحة، بعد فترة، برجلين آخرين، منهم واحد انضم إلينا وأصبحنا
خمسة، وآخر ضبط بمسدس صوت. ظللنا على حالنا حتى الساعة السابعة والنصف
تقريباً، أنزلونا بعدها إلى الحجز في الطابق الأرضي، باب حديدي ضخم يكشف عن
طرقة طويلة كئيبة المنظر، على جانبيها عدد من الأبواب الحديدية، أول ما
ورد إلى ذهني، الأقفاص الخلفية في حديقة الحيوان التي تبيت بها الوحوش بعد
نهار من العرض المهين أمام البشر.
في
الزنزانة أو القبو الكئيب سيئ الرائحة، كان هناك ثلاثة أشخاص ينام اثنان
منهم في ركنين من الغرفة، وثالث مستيقظ ينتظر إخلاء سبيله بعد 13 شهراً
سجناً عقوبة، في قضية حشيش، عرفت من خلال نقاشه مع الشخص المحتجز بمسدس
صوت، أنه واع لما يحدث في مصر ويعرف كمية النصب والتزييف التي يمارسها
الإعلام، ومدرك لفشل قائد الانقلاب ونظامه في النهوض بالبلد.
بعد
نحو ساعة خرجنا من الزنزانة غير الآدمية، لسيارة الترحيلات التي لا تقل
عداء للبشر عن القبو الذي كنا نحتجز فيه، أخرجنا من الحجز ضابط برتبة نقيب
سيئ الخلق ووجّه للبعض شتائم.
أول
ما خرجت من باب المركز رأيت أمي وأختي، لوّحت إليهم ولوحوا إليّ، لمست
حقيقة المعاناة التي تعانيها أسر المعتقلين، ومدى الضرر الذي يلحق بهم،
وتحوّل الإحساس المعنوي بآلام هؤلاء إلى إحساس على أرض الواقع.
في
سيارة الترحيلات المنفرة انتابني شعور 37 شهيداً قضوا خنقاً بالغاز نتيجة
وحشية المليشيا التي كانت تقلهم، عندما بدأ البعض في التدخين لم أتصور كيف
لإنسان ينتمي لبني البشر، أن يطلق قنابل الغاز في علبة صفيح، بها 37
إنساناً لا يستطيعون التنفس في الظروف الطبيعية من عدة فتحات في جوانبها
لإدخال الهواء.
حادث
سيارة الترحيلات الرهيب، الذي تلا مذبحة رابعة المروعة بحق الإنسان، كان
علامة فارقة على وحشية وإجرام سلطة 30 يونيو، في هذا اليوم فقدت مصر ما بقي
من إنسانية، وانتزع منها الضمير.
في
المحكمة صعدنا إلى النيابة في الطابق الثالث، أوقفونا مكبلين بجوار
الحائط، جاءت الأسر بالطعام والعصائر والماء، افترشنا الأرض من التعب في
انتظار صنف آخر من صنوف أنصاف الآلهة الذين ابتليت بهم مصر المحروسة، التي
أصبحت خرابة في عهد انقلاب العسكر المشؤوم.
انتظرنا
من حوالي التاسعة أو قبلها إلى ما قبل العصر، ونحن نفترش الأرض، كان
العديد من المواطنين في المحكمة والموظفين يأتون لإلقاء السلام، فهناك محام
مقيّد يعرفه الجميع، وإمام أيضاً له شهرة معقولة ومكانة تسمح للناس بإعلان
التعاطف وإلقاء كلمات الدعم والثبيت. كان الجميع يدرك المهزلة ويقرّون
بها.
عندما
أدخلونا لوكيل النيابة، تجادلت معه كثيراً بعد معرفة التهم الموجهة إلينا
وهي تهم أحيكت بواسطة شيطان، كان أبرزها التظاهر الساعة العاشرة والنصف
ليلا، أمام مسجد القرية وحمل السلاح والملوتوف ورفع لافتات تحرّض على نظام
الحكم، والمطالبة بإعلان الخلافة الإسلامية بقيادة الرئيس محمد مرسي،
أجبرته في النهاية على الإقرار أمام الجميع بأن ما يحدث لا علاقة له
بقانون، فهي بالنسبة إليه قضية سياسية، لا يمكنه فيها اتخاذ إجراء، وأمام
الإصرار على عدم منطقية الحدث، تحدّث بصفاقة وقال لي إذا تحدّثت أكثر من
ذلك "سأقل أدبي عليك".
بعد
ساعات من الإدلاء بالأقوال عدنا إلى مركز الشرطة مع أذان المغرب، لا نوم
من يومين ولا راحة، ولا طعام رغم كثرة ما أحضر لنا، بعد ساعات وبعد تدخل
نقابة الصحفيين وصدور بيانات عن مراكز حقوقية، وانتشار خبر الاعتقال في
وسائل الإعلام وتضامن العديد من الزملاء والأصدقاء معي، تقرّر إخلاء السبيل
مع الأربعة الأبرياء، الذين لم يكن يعلم مصيرهم إلا الله، عندما هممنا
بالخروج من القبو، نظرت إلى نافذة حديدية في قبو آخر بجاورنا وجدت من يلوّح
لي، كان أحد شباب القرية المحترمين معتقلاً منذ أربعة شهور، ويعمل صيدلياً
في وزارة الصحة، عندما رأيته أثار الموقف حزني، على مصيره، فكيف لإنسان أن
يحيا في هذا المكان أربعة أشهر، وينتظر الحكم عليه في نفس التهم الموجهة
إلينا، ووضع تاريخ حدث الاتهام له بعد أربعة أيام من الاعتقال، صافحته
ودعوت له وبشّرته بقرب الانتصار.
24
ساعة كانت مختصراً لنحو 64 عاماً من الحكم الإجرامي، ذلك الحكم العسكري
البغيض الذي لم يجلب لمصر سوى الخراب وإهانة الإنسان، بدءاً من عهد السفّاح
عبدالناصر وانتهاء بعهد السفاح السيسي، تمثل فيها الغياب المطلق للعدالة
والكرامة والأمن، وكانت نموذجاً لاحتقار المصريين، ظهرت فيها الطبقية
والخسة والظلم وشهادة الزور، وكيف يسيطر أسوأ من في مصر على أفضل من فيها،
وكيف يعلم الجميع براءتك وكيف يقومون بإدانتك.
هذه
الصورة ليوم كامل من العذاب لا تعتبر شيئاً يذكر، ويكون من الوقاحة
مقارنتها، بتضحيات عشرات الألاف من المصريين من أجل حريّة هذا البلد،
عمليات القتل والتعذيب والانتهاك والاعتقال والإهانة اليومية، مستمرة بحق
هؤلاء، إذ يعتبرهم من في السلطة كائنات بلا حقوق، ومع كل هذه المآسي هناك
من يقف مع سلطة النصب والدجل والشعوذة، ويردّد في بلاهة "تسلم الأيادي".
استمرار الحكم العسكري لن يدوم، والتضحيات مستمرة والثبات أسطوري، يوماً ما سيحاكم كل هؤلاء القتلة المجرمين ويقتص الشعب منهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق