مداولة بعد الحكم
بقلم: فهمي هويدي
في حين
أبرزت جريدة الأهرام أمس (/) خبر توقيع اتفاق المبادئ حول سد النهضة باللون
الأحمر ووصفته بأنه «خطوة تاريخية»، فإن العنوان الرئيسي لجريدة «التحرير»
كان كالتالي: الرئيس يوقع والشعب يسأل أين التفاصيل؟ ــ ولم يكن الأمر
مجرد سؤال عن التفاصيل، لأن الجريدة ذاتها ذكرت في عناوينها أن الغموض
يتواصل حول بنود الاتفاق، ثم أوردت ضمن عناوين الصفحة الأولي رأيا لخبير
مائي لخصه في عبارة واحدة أن الاتفاق: «مصيبة» تمنح شرعية للمشروع الإثيوبي
(!).
صحيح أن
الرأي الذي تبنته جريدة الأهرام هو ذاته الذي انحازت إليه بقية الصحف
المصرية، إلا أن الحذر الذي أبدته جريدة «التحرير» بدا متفردا ومثيرا
للانتباه. ذلك أنها نقلت على صفحة داخلية آراء اثنين من الخبراء حول
الموضوع، أحد الخبراء، الدكتور مساعد عبدالعاطي الخبير في القانون الدولي
للمياه، هو من وصف المبادئ العشرة التي وردت في وثيقة إعلان المبادئ بأنها
«مصيبة».
وقال إن
الوثيقة كان ينبغي أن تكون محكمة ومنضبطة من الناحية القانونية، فتنص مثلا
على عدة أمور أهمها تقليل السعة التخزينية للسد (المقدر لها أن تصل إلى
مليار متر مكعب)، كما تنص على مد فترة ملء الخزان بما لا يؤثر على حصة مصر
المائية أو الإضرار بها، أيضا كان ينبغي أن تنص على التزام الدول بالتقرير
الذي سيصدر عن المكتب الاستشاري، وهي البنود التي تكفل إلزام إثيوبيا بما
تم الاتفاق عليه، وتسهل مقاضاتها دوليا إذا أخلت بالتزاماتها.
الخبير
الثاني الذي تحدث في الموضوع هو الدكتور نادر نور الدين أستاذ الموارد
المائية والري بجامعة القاهرة، وقد أبدي عدة ملاحظات مهمة منها ما يلي:
• إن هذه أول وثيقة في التاريخ الحديث تتحدث في إنشاء سد، لأن الاتفاقيات الدولية تتحدث عن تقسيم المياه.
• إن
الوثيقة لا تعترف بحصة مصر المائية ولا تقر بها، ورفضت الإشارة إلى تلك
الحصة التي تقدر بـ مليار متر مكعب، وهو ما يؤكد سوء نية الطرف الإثيوبي.
•
إثيوبيا فرضت الأمر الواقع على مصر حينما دعت إلى إجراء الدراسات
الاستشارية التي سيقوم بها المكتب المختص خلال شهرا وليس خمسة أشهر كما
أرادت مصر.
وهذا
الأجل الذي فرضته إثيوبيا يتوافق مع فترة انتهائها من بناء سد النهضة، وهو
ما يعني أن أديس أبابا وضعت مصر أمام الأمر الواقع. خصوصا أنها خططت لبناء
السد التالي في عام .
• توقيع
مصر على الوثيقة أكسب سد النهضة شرعية، وسيترتب عليه عودة التمويل الدولي
للمشروع، وهو التمويل الذي كان قد توقف بسبب التحفظات المصرية.
• لأن
الوثيقة تهم المصريين جميعا في حاضرهم ومستقبلهم، فإنه كان ينبغي عرض
مضمونها على الرأي العام، لكي يكون على بينة من الخطوة التي ستتخذها السلطة
والنتائج المترتبة عليها.
هذا
الذي عبر عنه الخبيران يمثل الرأي الآخر في وثيقة إعلان المبادئ، الذي لم
يسمع من قبل، وغاية ما يمكن أن أقوله إنه يستحق المناقشة، حتى إذا جرت تلك
المناقشة بعد التوقيع عليها لمحاولة علاج الثغرات التي أشار إليه الخبيران،
وإذا شئنا الدقة فالمناقشة مطلوبة على مستويين، مستوي الخبراء الذين هم
أدري بالجوانب الفنية المتعلقة بمضمون الوثيقة أو بصياغتها، ومستوى الرأي
العام الذي من حقه أن يحاط علما بمسار قضية مصيرية من ذلك القبيل.
وقد
لاحظت أن زميلنا إبراهيم منصور -رئيس تحرير الجريدة- انتقد في عدد الجريدة
ذاته غياب الشفافية في موضوع الوثيقة، معتبرا أن هذا الأسلوب يعيدنا إلى
أساليب العهود السابقة التي يفترض أن مصر تجاوزتها بعد ثورة يناير.
الملاحظة
الأخيرة لها أهمية خاصة، ليس فقط بسبب موضوعها، ولكن أيضا لأنها تكررت في
تعليقات بعض الكتاب المحترمين على نتائج أعمال مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي،
خصوصا مشروع العاصمة الإدارية الجديدة، الذي أعلن عنه وتم توقيع الاتفاق
الخاص بتنفيذه، دون أن يسبقه أي حوار مجتمعي، وهو ما يعيد إلى أذهاننا تلك
الصيغة العبثية التي تتحدث عن المداولة بعد صدور الحكم!
لا
يستطيع -ولا ينبغي- لأحد أن يقلل من أهمية التفاهم مع إثيوبيا ودول حوض
النيل، بقدر ما أن أحدا لا يستطيع أن يقلل من إيجابيات مؤتمر شرم الشيخ،
لكن تقديرنا لمثل هذه الخطوات الإيجابية لا يحول دون التحفظ على ما تخللتها
من قرارات كبيرة وخطيرة فاجأت الرأي العام، الذي أصبح «آخر من يعلم»، ومن
المفارقات أنه في حين يستمر ذلك التجاهل بين الحين والآخر، فإن وسائل
الإعلام عندنا تصر في عناوينها على أن «مصر تستيقظ»!
*نقلاً عن "الشروق"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق