الثلاثاء، 31 مارس 2015

سيكلوجية التعذيب بقلم: محمد يوسف عدس

سيكلوجية التعذيب

بقلم: محمد يوسف عدس

سيكلوجية التعذيب
كثر الحديث عن وقائع التعذيب الوحشي في معتقلات وسجون النظام الانقلابي الحاكم.. التعذيب حتى الموت لدرجة أن توصف السجون المصرية بأنها مجازر، بينما تصفها صحف أجنبية بأنها مقابر جماعية للأبرياء.. ويتساءل كثير من القراء في عجب ودهشة: هل من يقومون بالتعذيب بشر أمثالنا..؟!
تنشأ المشكلة في الذهن عندما يصعب على الإنسان السَّوِيّ تَصَوُّر إمكانية أن تتم  عملية  تعذيب - وجهًا لوجه -  بين المجرم الممارس للتعذيب وبين الضحية المُعَذّبة. حيث يرتفع السؤال: هل الشخص القائم بالتعذيب إنسان سويّ مثلنا..؟؟ أم به خلل في عقله بحيث لا يدرك أثر سلوكه الإجرامي المتوحّش على ضحيته..؟ كيف يبرّر إنسانٌ مَا لنفسه تعذيب شخص لم يسئ إليه قطّ، ولا حتى عرفه أو الْتقَى به مرةً من قبل في حياته ..!
فهل هناك دراسة علمية تفسر لنا هذه الظاهرة الَّلاإنسانية الَّلا أخلاقية الًلامعقولة..؟  - أقول: نعم توجد  دراسات نفسية واجتماعية عديدة أُجريت في هذا المجال وفى أماكن مختلفة من العالم.. والعجيب أنها جميعًا وبلا استثناء تؤكد أن الذين قاموا بعمليات التعذيب كانوا من بين الأشخاص العاديين الذين لم يُعرف عنهم - قبل الانخراط في التعذيب- أي اضطرابات نفسية أو خلل عقلي.. ولكن لاحظ بعض العلماء الباحثين سمات نفسية غالبة على العيّناتِ التي خضعت للدراسة، من بينها: تدنّي مستوى الذكاء العام، والقابلية للاستهواء، والخلط بين المعقول واللامعقول فيما يطرحه رؤساؤهم عليهم لتصديقه دون مناقشة.
ولكن هذا لم يمنع أن السلطات التي قامت بعمليات تعذيب على نطاق واسع قد لجأت بالفعل إلى شخصيات بالغة الشذوذ لتنفيذ عمليات نوعية ذات خصائص مروَّعة.. أُرِيد بها استئصال فئة معينة من الناس .. كما  فعل الصرب في مسلمي البوسنة [بين سنة  1992وسنة 1994م] ...
لقد كتبتُ عن عمليات ما سُمّيَ بـ"التطهير العرقيّ" بإسهاب في كتاب خصصته لحرب البوسنة تحت عنوان "البوسنة في قلب إعصار".. ولكني تجنَّبْتُ - لأسباب إنسانية- التطرّق إلى وقائع تعذيب بالغة الوحشية، تتعلق بوقائع اغتصاب لنساء مسلمات وبنات في سن الطفولة أقْدَمْنَ على الانتحار لهول الصدمة والبشاعة التي انتُهكت بها أعراضهن أمام ذويهم المقيّدين في الأغلال..
ولكني سوف أتعرض لحالة واحدة من وقائع التعذيب اختير للقيام بها شخصية شاذة غريبة الشذوذ ..
كتب عن هذه الواقعة الصحفى البريطانى "جون مولين" في "الجارديان" خلال شهر أغسطس 1992 تحت عنوان "أبشع أنواع التعذيب تمارسها فتاة وهي تضحك" يقول: إنها فتاة صربية جميلة الوجه في سن الثامنة عشرة، تُدْعَى مونِكا، من ينظر إليها لا يصدق أنها يمكن أن تقتل فأرا.. ولكنها فعلت بالبشر أسوأ من القتل.. كانت تستخدم زجاجات مكسورة تفقأ بها عيون أبناء البوسنة الأبرياء المحتجزين في معسكرات الإبادة بمدينة (بِرْتشْكو).. وقد ذكر أحد البوسنويين الذين تمكّنوا من الهرب من هذا المعسكر بعد أن ألقى بنفسه من فوق السجن في نهر "سافا".. ثم سَبَحَ حتى وصل إلى كرواتيا.. قال: "إن مونِكا لا تفقأ العيون فقط ولكنها تقطع الأنوف والآذان وتسلخ جلد الوجه قطعة قطعة.. وقد مارست هوايتها البشعة هذه على خمسمائة شاب بسنويّ مكتّفين في المعسكر.. [ومونِكا هذه هي ابنة مومس صربية تدير - فى المدينة - بيتا مشهورًا للدعارة] ..
ورغم أن "مونكا" كانت أكثر المجرمين قسوة وشراسة في ممارسة التعذيب.. فقد كانت تفعل ما تفعل وهي تقهقه، والسعادة تتلألأ في عينيها..!
تعلم مونكا حقيقة ما تفعل وتستعذبه، لا لأنها مضطربة العقل.. فالعلماء يصنّفون هذا النوع تحت اسم "السلوك السيكوباتيّ" وهو نوع من الاضطرابات العميقة في الشخصية.. يشخّصونها ولكنهم لا يعرفون لها سببًا ولاعلاجا ..
ربما لو تأمّلنا في نموذج صربي آخر نقترب من فهم كيفية تحويل أناس عاديين أسوياء إلى مجرمين وقتلة؛ بالتدريب، وتحت ظروف معينة.. وأقتبس هذه الواقعة من كتابي سابق الذكر:  في القرى والبلدات التي كان يعيش فيها الصرب الأرثوذكس والبشناق المسلمون جنبا إلى جنب  فى وُدّ وسلام جيرانا  متعارفين، كان الصرب يستنكرون ما تقوم به المليشيات الصربية المسلحة من أعمال عنف وإرهاب ضد المسلمين.. فلما دخلت المليشيات بلدتهم انقلبت الأمور رأسا على عقب.. فما الذى حدث..؟!
 لما رفض السكان الصرب الانضمام إلى المليشيات؛ كان بعض قادتها يقتحمون بيوتهم عُنوة فيخرجون رجلا من الأسرة ويقدّمون إليه بندقية أو مسدّسًا أو مجرد سكّين حادّ .. ثم يأمرونه بالذهاب فورا إلى منزل جاره المسلم  ليقتله، فإذا امتنع قتلوه بالرصاص أمام أسرته، وقد اعترف جنود المليشيات الصربية  للصحفيين الأجانب باستهانة واستخفاف شديدين بأن قتل اثنين أو ثلاثة  من الصرب الرافضين كفيل بجعل الرابع والخامس يُذعن للأوامر بلا مناقشة.. بل يأتي الواحد منهم إلينا بعد أن قتل جاره ليسألنا: من تريدونني قتله من المسلمين..؟؟ .. وهكذا بمجرد أن يمارس الشخص العادي عملية القتل مرة أو مرتين حتى يدخل في دائرة العنف التي لا فكاك منها... [انتهى الاقتباس].  
يؤكّد الباحثون - تفسيرًا لهذه الظاهرة الصادمة- أن الإنسان العادي يمكن - تحت ظروف معينة - أن يتحول إلى كائن مفترس حتى لجيرانه المعروفين له سلفًا؛ حيث يتمّ في هذه الظروف انهيار الضبط الاجتماعى؛ كما يحدث عادة في الثورات والانقلابات.. ولشرح هذه الظاهرة يقول العلماء:
 عندما يرى الإنسان العاديّ السلطةَ التي يُفْتَرَضُ فيها أنها تنفذ القانون وتحمى أفراد المجتمع من العدوان عليهم، هي التي تشجع، بل تأمر بارتكاب الجرائم ضد فئة معينة من فئات المجتمع.. بعد أن هيَّجت الرأي العام ضدّ أفرادها ونسبت إليهم جرائم مختلقة لم يرتكبوها، ولكنهم لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم لأن أجهزة الإعلام كلها خاضعة للسلطة الحاكمة، كما كان الحال في النظام الصربي الفاشي المهيمن على يوغسلافيا أثناء حرب البوسنة ..
كان أهم عامل في تعزيز ومواصلة التطهير العرقي آنذاك هو شعور من يمارس عمليات التعذيب والقتل أن جريمته لن يترتب عليها عقاب أو مساءلة؛ بل تجلب له الاستحسان والمكافآت.. هنا تكون كل القيم الأخلاقية والاجتماعية  التي نشأ عليها قد انهارت تماما.. وحل مكانها أوامر السلطة الجديدة التي تدعّم سلوكه ..
شيء مثل هذا حدث في مصر؛ فقد تحوّلت السلطة الرسمية الحاكمة، إلى سلطة للإرهاب والتعذيب والقتل..! ولم يحدث هذا بالصدفة العشوائية ولا نتيجة ردود أفعال طبيعية؛ وإنما وفق خطة محكمة التدبير؛ لا أزعم أن قائد الانقلاب هو صاحبها ولا أنسب إليه عبقرية لا يمتلكها.. وإنما هو أحد منفّذيها وأداة من أدواتها،  وقد بدأت الخطة قبل ثورة يناير ٢٠١١م..  وهذه مسألة يطول شرحها..!
ولكن لنتأمل قليلًا هذا السِّيناريو، الذي بدأت وقائعه المثيرة تترى بعد مظاهرات ٣٠ يونية ٢٠١٣م ؛ ففكرة تقسيم الشعب المصري إلى شعبين متصادمين: شعب رافض للانقلاب، وشعب مرحب به يفوّض قائده التعامل مع  الشعب الرافض بما يراه من وسائل القمع، لردع [الإرهاب المحتمل].
 ولما كان القتل أحد أبرز العناصر في خطة الردع، فقد سارع قائد الانقلاب بإصدار تصريحه الشهير بأنه لا عقاب ولا مساءلة للجنود والشرطة على أي قتل [خطأ] ينتج من استخدام العنف والرصاص في مواجهة المتظاهرين.. طبعا حكاية الخطأ هذه ليست أكثر من تسويق هزيل وضيع للسماح بالقتل دون عقوبة ولا تحقيق.. وقد عزز هذا الاتجاه، بدعوة صريحة لقوات الشرطة والجيش للانتقام المباشر مما سمّاهم الإرهابيين الذين اتهمهم بقتل الجنود في كمائن متفرقة بسيناء والصحراء الغربية.. وتآذرت الحملات الإعلامية في تهييج البلطجية لممارسة أعمال التدمير والحرق لبيوت الإخوان المسلمين ومحلاتهم التجارية في عدد من المحافظات.. ومضت الحملة سادرة في غيّها، أيضا بدون تحقيقات ولا محاكمات ..
 ثم جاءت أحكام القضاء المذهلة بأحكام عشوائية على آلاف المواطنين الأبرياء بدون تحقيقات ولا التزام بأحكام القانون، وقد اختُرعت لهم قوانين وقرارات لا سند لها من الدستور أو الشرعية البرلمانية، إلا الرغبة العارمة في التخلص من الرافضين للانقلاب المعارضين له من الإسلاميين وغير الإسلاميين.. بل صدرت قوانين لمعاقبة المتظاهرين المعارضين السلميين، من رئيس جمهورية مزيف عينه المشير لفترة من الوقت لتمرير أسوء وأحطّ القوانين التي حدثت في تاريخ مصر..
ثم يتوّج رأسُ الانقلاب مهازلَه التي فاقت العد والحصر بقرارات زيادة مرتبات ومكافآت جنوده وشرطته - ثلاث مرات في فترة زمنية قصيرة؛ رشوة مفضوحة لضمان استمرار ولائهم لسلطة الانقلاب، وتنفيذ مخططاته لقمع الشعب وقهره على الاستسلام.. يحدث هذا نفس الوقت الذي يعاني فيه الشعب من غلاء فاحش في الأسعار، ومن ندرة سلع المعيشة الأساسية في الأسواق، وتدهور متواصل في الخدمات.. وقد بلغت الاستهانة بالشعب، واحتقاره، والرغبة في إذلاله وقهره مبلغًا فاق تصور أكثر الناس تشاؤمًا.. وكان شعار السلطة العسكرية المرفوع في وجه احتياجات الشعب ومطالبه البسيطة العادلة - شعارًا صكّه قائد الانقلاب: "مفيش .. معنديش"..!  فهل يستطيع أحد أن يصف مصر الآن بأنها دولة تحكمها عصابة..؟! أم أنها سجن كبير لشعب من الأشباح تحكمه العصابة نفسها..؟!  - سؤال صعب، أعترف أنني لا أملك الإجابة عليه..!!
myades34@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق