الجمعة، 4 سبتمبر 2015

إحسان الفقيه تكتب: عندما أبحرت السفن في الرمال

إحسان الفقيه تكتب: عندما أبحرت السفن في الرمال
 

4/09/2015


(ما رأينا ولا سمعنا من قبل بمثل هذا الشيء الخارق، محمد الفاتح يحول الأرض إلى بحار وتعبر سفنه فوق قمم الجبال بدلًا من الأمواج، لقد فاق محمد الثاني بهذا العمل الإسكندر الأكبر) المؤرِّخ البيزنطي "دوكاس".

لم يكن فتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح عام 1453م مجرد غزو وانتصار في معركة كبيرة في التاريخ الإسلامي، وإنما كان ملحمة عظيمة بين المسلمين والروم البيزنطيين، دارت منذ أن بشر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بفتحها، فهب قادة الإسلام من لدن الصحابة الكرام وحتى تاريخ فتحها، كلهم يحاول نيل هذا الشرف.

تحقق حلم المسلمين في فتح القسطنطينية بعد فترة طويلة من الإعداد، بدأت في تجهيز محمد بن مراد الثاني منذ نعومة أظافره لهذا الفتح، وأكمل هو بنفسه بعد توليه السلطنة هذا الإعداد، سواء كان على صعيد تعبئة وتهيئة الجماهير، أو تقوية ودعم قواته الحربية، بل وفي تحركاته في السياسة الخارجية.

هذا الفتح ليس بالذي يستوفي حقه بالحديث عنه في مقالة أو عشر، فكل يوم مضى في الطريق إلى القسطنطينية يمثل بذاته ملحمة ومعركة منفردة.

واستوقفني خلال قرائتي عن فترة حصار هذه المدينة العريقة العتيدة في تحصيناتها، والتي استمرت إلى ما يقرب من شهرين، مشهد نزول السفن إلى مياه القرن الذهبي لاجتياز عقبة السلسلة الضخمة التي تحول بين مرور سفن العثمانيين، وبالتالي تحول بينهم وبين اقتحام المدينة.

فبينما كان القتال قد بلغ ذروته برا، كانت السفن العثمانية تسعى لاقتحام القرن الذهبي عن طريق تحطيم السلسلة الضخمة، إلا أن السفن البيزنطية والأوروبية التي اشتركت معها بالإضافة إلى المراكز الدفاعية البيزنطية خلف السلسلة، تمكنت من صد الهجوم البحري العثماني، وتم تدمير بعض السفن العثمانية، فاضطرت البقية إلى الانسحاب.


قامت على إثرها معركة بحرية أخرى، حيث وُكل إلى الأسطول العثماني مهمة منع دخول سفن أوروبية إلى القرن الذهبي جاءت لدعم البيزنطيين، إلا أن القوات العثمانية فشلت في التصدي لها واستطاعت تلك السفن الدخول إلى القرن.

استشاط السلطان محمد غضبا لأنه يدرك معنى الفشل في السيطرة على مياه القرن الذهبي، وقام بعزل قائد الأسطول "بلطة أوغلي" والذي أصيبت عينه في القتال واستبسل مع رجاله، إلا أن السلطان رأى الدفع بقيادة جديدة.

يقول الدكتور علي محمد الصلابي في كتابه "محمد الفاتح":

"ذكرت كتب التاريخ أن السلطان محمد الفاتح كان يراقب هذه المعارك البحرية وهو على جواده وقد اندفع نحو البحر حتى غاص حصانه إلى صدره وكانت السفن المتقاتلة على مرمى حجر منه فأخذ يصيح لبطله أوغلي بأعلى صوته: يا قبطان! يا قبطان! ويلوح له بيده، وضاعف العثمانيون جهودهم في الهجوم دون أن يؤثروا في السفن تأثيرًا لينًا".

في خضم هذه الأحداث العصيبة، التمعت فكرة عسكرية عبقرية، لا مثيل لها في التاريخ العسكري، حيث عزم محمد الفاتح على إخراج السفن من المرسى في "بشكطاش" وتسييرها عبر طريق بري إلى ميناء القرن الذهبي.

لكن المشكلة في كيفية تطبيق الفكرة، فالمسافة بين المينائين تبلغ ثلاثة أميال، وهي أرض وعرة ذات تلال ومرتفعات.

كانت فكرة السلطان العبقرية تتمثل في تسوية وتمهيد الطريق البري في أسرع وقت بجنح الظلام حتى لا تتمكن استطلاعات العدو من رصد العملية، وقام الجند بدهن الألواح الخشبية بالزيت والشحم، وتم رصها على طول الطريق.

وفي مهمة شاقة عسيرة، جرى سحب السفن إلى المضيق وتم إنزالها في مياه القرن الذهبي، لتكون صدمة لكل البيزنطيين عندما طلع الصبح، حيث أفاقوا على صوت الأناشيد العثمانية الحماسية، ورأوا السفن تجري في المياه، في واقعة لم تحدث من قبل على مر العصور.

لقد اجتمع لتنفيذ هذه الفكرة العبقرية محمد الفاتح وعقليته العسكرية النادرة، إلى عزيمة الجند التي بلغت عنان السماء، فما كان هذا العمل الضخم المحفوف بالمخاطر ليقوم به غير جنود تشبعوا بعقيدة سامية، واستشعروا المسؤولية الملقاة على كاهلهم لتحقيق هدف المسلمين في كل عصر.

كما يكشف الحدث عن الانسجام بين هؤلاء الجنود وبين قائدهم، فهذه الاستجابة الفورية لأوامر القائد مبناها الطاعة الواعية لا الاستبداد والقهر الذي كان ينتهجه قادة الروم والفرس والحضارات الأخرى.

ولقد حرص السلطان محمد الفاتح منذ أن تولى شؤون البلاد والتجهيز للفتح، على بث روح الجهاد في جنوده، ووضع أمانة تحقيق حلم المسلمين في أعناقهم، وكثيرا ما خطب فيهم قبل القتال يفجر في نفوسهم الرغبة في نيل إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة، وبأهمية فتح المدينة العريقة للدولة المسلمة.

كان لهذا الحدث العظيم، أثره البالغ في فتح القسطنطينية، حيث كان الخطوة الأهم في تلك الملحمة، لم يلبث النصر أن لاح بعدها.

وحقا إن هذه الملحمة ملحمة فتح القسطنطينية ينبغي أن تكون محل اهتمام الدارسين والدعاة، والقائمين على المحاضنالتربوية، لأنها صفحة مشرقة من تاريخ الإسلام ينبغي الوقوف عندها تأملا ومدارسة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق