مجدى حسين يكتب: عشرات القنوات المصرية صرعى تحت أقدام "الجزيرة"
الحلقة رقم 14 من دراسة (عبادة أمريكا.. الشرك الأكبر المعاصر) دراسة غير منشورة كُتبت فى مايو 2014
* عبد الناصر طلب سلاحًا من أمريكا فأرسلت له مجموعة مسدسات!
* أمريكا تولت أمن الرئاسة المصرية منذ مايو 1974!!
وصلنا فى الفصل السابق إلى محورية مسألة البحث العلمى؛ وضرورة اقتحام مجال العلم والتكنولوجيا بروح استقلالى، وليس بروح الطفل الذى يريد لأحد أن يصنع الأكل فى فمه، وربطنا ذلك بالتنمية الاقتصادية والتصنيع الحربى على السواء كعملية واحدة.
وقبل أن نترك مسألة التصنيع الحربى نؤكد ضرورته للأمن القومى فى بلد له موقع مصر وجيرانها (إسرائيل)، وأن التصنيع الحربى ليس مراعاة للخوف من تبديد الموارد، بل هو نفسه يتحول إلى مورد مهم بالتصدير (السلاح من أهم صادرات إسرائيل وإيران وروسيا والصين) والمعرفة التكنولوجية فى التصنيع الحربى تصب فى التصنيع المدنى الوطنى.. وأرى أهمية دراسة تجربتى باكستان وإيران فى التصنيع الحربى التقليدى باعتبار أنهما من البلاد المتماثلة لظروفنا (خاصة إيران)، فباكستان لم تكتف بالقنبلة النووية؛ بل دخلت فى مرحلة تصنيع مختلف أنواع الصواريخ، وكذلك أنواع محددة من الطائرات الحربية وغير ذلك، أما إيران فبعد المحنة التى مرت بها فى الحرب مع العراق، أقصد المحنة التسليحية؛ حيث كان الجيش بتسليح أمريكى ولكن بدون ذخيرة أو صيانة أو استعواض؛ بسبب انقطاع العلاقات مع أمريكا فاتخذت قرارًا استراتيجيًّا بتحقيق الاكتفاء الذاتى فى مختلف أنواع الأسلحة، ويبدو أنها حققت ذلك إلى حد كبير وبكفاءة تكنولوجية مشهودة من المتخصصين الدوليين كالخبراء العسكريين الروس. فهى تنتج مختلف أنواع الصواريخ وأسلحة الدفاع الجوى، والطائرات والدبابات والمدرعات والغواصات الصغيرة والقطع البحرية. وقد زودت المقاومة اللبنانية والفلسطينية بالصواريخ أو بتقنية صناعة الصواريخ، ووصلت إلى الاكتفاء الذاتى فى شكل كامل فى مجالات إنتاج المعدات والقدرات الرادارية وأجهزة الرصد فى السماء إلى أبعد نقطة مع القدرة على إسقاط الأهداف، وهو ما حدث مع بعض طائرات إسرائيل التجسسية بدون طيار، والتى أسقطت على الأرض الإيرانية.
كما وصلت إلى مرحلة الاكتفاء الذاتى فى مجال إنتاج الطائرات بدون طيار، وتقوم بتصدير تقنية صناعة الطائرات من دون طيار إلى سائر البلدان.
ملاحظة للشعب: نشير إلى أن إيران قد أطلقت القمر الصناعى (فجر) وهو القمر الرابع لها بواسطة الصاروخ الإيرانى الصنع "سفير فجر" ذلك يوم 2 فبراير الجارى 2015، واستلمت القواعد الأرضية الصور التى أرسلها، والقمر "فجر" يزن 50 كيلو جرامًا يعمل على الرصد والتقاط الصور، وإرسالها إلى القاعدة الأرضية فهو يصنع فى مؤسسة التصنيع العسكرى. وكانت أول تجربة عام 2009 ثم أرسلت طهران أول كائن حى إلى الفضاء عام 2013، والثانى عام 2014. و"فجر" ثمرة إيرانية 100%، نتاج جهود علماء إيران والمتخصصين فى شركة الصناعات الإلكترونية الإيرانية وبقية الشركات والمراكز البحثية والعلمية والجامعية فى إيران. وكان مجدى حسين قد دعا لذلك فى الحلقة السابقة أى تصنيع قمر صناعى مصرى 100%، ومع ذلك فقد أعرب عن تقديره للقمر الصناعى المصرى المنتج فى روسيا على أساس أن تكون إدارته مصرية 100% وخطوة على طريق التصنيع المصرى. (الشعب).
نواصل مع مجدى حسين:
والرأى العام فى بلادنا - بسبب الإعلام وانهيار القيادة - يقول: "وإحنا مالنا ومال الحكاية دى يا عم" إحنا "عاوزين ناكل عيش".. و"تعبنا من الحروب".. وهذه عقدة هذه الدراسة من أولها إلى آخرها، فنحن نخرج بهذا الموقف صراحة على أوامر الله ونعصاه. أشرنا لآية "وأعدوا" ونضيف الآن قاموسًا إلهيًّا آخر لا يحتمل التأويل أو التفسير إلا بمعنى واحد.. أن نكون دائمًا مستعدين للحرب لأن هذه هى سنة الله فى الأرض: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) (البقرة: 216).
وهذه الدراسة تقدم مذكرات تفسيرية طويلة، وبالتالى فهى أوسع من مجرد تفسير لبعض آيات القرآن الكريم، بل هى حشد للوقائع المحلية والإقليمية العالمية وتحليلها لإدراك أهمية الالتزام بهذه النصوص.
(وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم) لم تكتشفوا بعد شرور، سلام كامب ديفيد، وهل تريدون مصائب أكثر من هذا؟! إذن انتظروا المزيد من المصائب!
لقد تناولت فى دراسة (السيرة النبوية) مسألة مركزية مصر فى العالم وفقًا للقرآن الكريم، والآن أذكر فقط بأن مصر ذكرت الاسم 4 مرات، وأن مكة والمدينة ذكرتا معًا بالاسم (4 مرات)، وأن مصر هى البلد الوحيد (البلد وليس المدينة أو القبيلة) فى العالم وورد ذكرها فى القرآن التى يستخدم اسمها حتى الآن، وسيناء ذكرت بالاسم 2 مرة = 2 مكة = 2 المدينة. وهناك نبى واحد ذكر اسمه 4 مرات مثل مصر هو أيوب!! فاستعدوا دومًا للصبر. والأهم أن سيدنا محمد ذكر اسمه بـ"محمد" 4 مرات، ولكن كسر ذلك أنه ذكر مرة خامسة بالاسم "أحمد"، ولكن يبقى فى النهاية بالحرفية (مصر 4 - محمد 4 - مكة والمدينة 4 - أيوب 4)، طبعًا مكة ذكرت مرة بـ "بكة" ولكنها طريقة مختلفة فى النطق. أحسب أن هذا المثال الرقمى له أهمية رمزية.
وتاريخ العالم يؤكد دور مصر المركزى، وهذا "إعجاز سياسى أو استراتيجى أو جغرافى سياسى" - سمه كما شئتَ فى القرآن الكريم، ولكن نخبة مصر تتحدث فى أى شىء إلا هذا الموضوع، وإذا تحدثت هى والإعلام يأخذ الموضوع شكلاً مبتذلاً فى عظمة مصر وعزها، وهذا كلام أصبح يثير السخرية ونحن أكبر شحاذ فى المنطقة. أحسب أن لا أحد يفوقنى فى حب مصر، فقد رضعت هذا الحب فى بيت أحمد حسين وعشت فى مدرسة متوازنة لا ترى أى تضاد بين الدين والوطنية، وحب الإسلام وحب مصر. مع أن الإسلام هو الإطار الأرحب الذى يحتوى مصر وغيرها.
ولكننى تعلمت أيضًا فى هذه المدرسة، ومن دراساتى أن حب مصر يصبح أمرًا مبتذلاً إذا تحول إلى حديث سطحى عن 7 آلاف سنة حضارة، والحقيقة أنها 14 ألف سنة، بل ربما ملايين السنين (عُثر على هياكل عظمية فى مصر عمرها مليون سنة)!! حديث سطحى فى أغلب الأحيان، وبكاء على الحضارة الضائعة فى أحيان قليلة، مع التوقف الفعلى عن مواكبة الحضارة، والتوقف عن بذل أقصى الجهد لبناء البلد وإعزاز الشعب وإشراكه فى هذا البناء، والتوقف عن إدراك دور مصر القيادى والريادى. بعيدًا عن حكاية إعلام الريادة (بتاعة صفوت الشريف) حيث أصبح لنا عشرات القنوات الفاشلة كجثث معذبة تحت أقدام قناة واحدة (الجزيرة) رغم خلافى المعروف والمعلن معها، إلا إننى اعترفت دائمًا بمهنيتها العالية. ولذلك صدق من سخر بشكل قاسٍ من صفوت الشريف وقال (بل إعلام الريالة).
إن هؤلاء الذين يعبدون كرسى الحكم ويعبدون أى تافه يجلس عليه، ومن باب أولى يعبدون أمريكا هؤلاء عبء ثقيل على مصر، ولا أدعو إلى إزالتهم من الوجود، ولكن لابد أن يزاحوا من المشهد السياسى والإعلامى باعتبارهم نفايات، صحيح صفوت الشريف مختف فى منزله, ولكنه أطلق علينا الجيل الذى رباه قوادون.. كاذبون.. منافقون.. فاقدون للحياء.. وبالأخص عندما يمثلون "حب مصر وعشقها" وأياديهم فى جيوبهم تتحسس الدولارات الإماراتية.
كان لابد أن أضع حاجزًا قاطعًا وثقيلا بين حديثى الدائم عن دور مصر وبين هذا الغثاء الإعلامى.
أكرر أن نهضة مصر ارتبطت بقوتها بما فى ذلك القوة العسكرية، وارتبطت بقيادتها للمنطقة، وبالتالى فإن من يبحثون عن الرفاه الاجتماعى أقول لهم إنه ارتبط دائمًا بالقوة خاصة فى حالة مصر (راجعوا موسوعة تاريخ مصر لأحمد حسين) وإذا توقفت عند القرنين الماضيين فقط، فإن إنجلترا هزمت فرنسا وأصبحت هى القوة الأعلى فى العالم عندما سيطرت على مصر، وبدأ الميزان يميل لصالح الاتحاد السوفيتى عالميًّا عندما تحالف مع مصر، وأن أمريكا عندما أصبحت القوة الأولى المنفردة فى العالم كانت مصر فى حوزتها.. وعندما هزم "روميل" الألمانى فى معركة العلمين كانت هذه هى بداية نهاية ألمانيا فى الحرب العالمية الثانية، وفى المقابل كانت مصر قائدة الإقليم وأحد وأبرز قوى العالم فى عهدين: محمد على وعبد الناصر، وتميزا بالاهتمام بالتصنيع الحربى الوطنى، وتميزا بالتقدم الاقتصادى، وإن كانت تجربة محمد على أكثر ثراء. (راجع كتابى.. مدونات ثورية) ورغم ملاحظتنا الانتقادية للتجربتين، وأننا لا نريد استرجاعهما فى جوانبهما المظلمة، فلابد من الإشارة إلى أنهما ضربتا بالتكالب العالمى العسكرى وبالإغراق فى الديون. مع ملاحظة أن الإغراق فى الديون تم بعد موت مؤسس التجربة فى الحالتين، فقد كان محمد على وعبد الناصر حذرين من الديون. ولكن فعل ذلك سعيد وإسماعيل ثم السادات ومبارك ومرسى والسيسى.
إذن مصر بحكم موقعها حتى قبل قناة السويس، وموضعها بين العرب والمسلمين ومكانتها الحضارية لا يمكن للصراع العالمى أن يتجاهلها. وبالتالى فمصر دائمًا أمام خيارين فى منتهى الحيرة بدون وسط: إما أن تكون عبدًا لقوة عظمى، أو تكون قائدة المنطقة. وأى إنسان مصرى حر أو مسلم يعرف عقيدته لابد أن يختار الخيار الثانى مهما كانت تكاليفه. وتكاليف العزة أقل بكثير من تكاليف العبودية؛ ليس فقط على الجانب الروحى والمعنوى وهو الأساسى، ولكن حتى بحسابات المكسب والخسارة بالمعايير المادية.
التسليح بين عبد الناصر والسادات:
انكسر عبد الناصر فى المجال العسكرى.. بعد أن حقق نجاحات معقولة جدًا فى المجالات الاقتصادية والاجتماعية.. العمود الفقرى لقيادة مصر للعرب والمسلمين هو القوة العسكرية، وهى أساسًا للدفاع والهيبة والمكانة وليست للاستخدام اليومى، ولكن عبد الناصر كان فى دخيلة نفسه ينتوى تأجيل المواجهة مع إسرائيل إلى أجل غير مسمى، وقد بعث بهذه الرسائل لإسرائيل فازداد قلقها، فهى رأت أنه يريد أن يقوى اقتصاديًّا ثم يفكر فى ضربها، فرأت أن تقتل التجربة فى المهد.
فى السلاح كان ما يشغل عبد الناصر إرضاء الجيش المصرى الذى يتذمر كأى جيش يجد تسليحه ضعيفًا كمسألة كرامة وكمسألة مهنية، وليس فى إطار خطة استراتيجية لبناء جيش قوى وقادر، وفى إطار سعيه للحصول على سلاح من الولايات المتحدة حصل بالفعل على صفقة مضحكة (مسدسات)! فى تلك الفترة ذكر عبد الناصر فى حديث للصحفى الأمريكى "سيروس سالزبرجر" فى عام 1955 (إن الجيش عامل أساسى فى الحياة المصرية. كان نقص العتاد العسكرى هو ما حفزنا على القيام بالثورة. لو شعر الضباط بأنه لا توجد لديهم معدات فسيفقدون الإيمان بالحكومة).
الاعتداء المهين للجيش الإسرائيلى على معسكر الجيش المصرى فى غزة مما أدى إلى مقتل وإصابة العشرات أجبر عبد الناصر على التفكير الجدى فى التسليح بصفقة الأسلحة التشيكية، ولكن اهتمامه بالجيش ظل معيبًا بصورة مروعة، وظل يتركه فى يد غير أمينة (عبد الحكيم عامر) لمجرد ثقته الشخصية فيه، فهُزمنا عسكريًّا فى 1956 وظهر ضعفنا العسكرى، وفى اليمن تعرض الجيش لأوضاع محرجة عديدة، ثم هزيمة 1967 التى لا مثيل لها فى التاريخ. وعندما وقع السادات معاهدة السلام مع إسرائيل اعتبر أن الحرب قد انتهت تمامًا معها، وكان متلهفًا للسلاح الأمريكى الذى لم يفيدنا فى أى مواجهة مقبلة مع إسرائيل.
كان السادات حريصًا - كعبد الناصر عام 1955 - على مجرد إرضاء المؤسسة العسكرية المصرية بعد انقطاع السلاح السوفيتى. بل لقد تعامل السادات مع السوفيت فى تلك المرحلة بأسلوب انتهازى، لا أخلاقى، لا يليق بالمسلمين بشهادة العرب!! فمنذ التفاوض مع كيسنجر لفض الاشتباك الأول كان حريصًا على الضغط على السوفيت للحصول على المزيد من السلاح لمجرد مساومة أمريكا وإسرائيل، وهذا ما يعترف به أبو الغيط (وزير الخارجية السابق) بدون أى وخز ضمير: (إن السادات رغم انفتاحه الكامل وتوجهه المطلق فى التحرك على المسار الأمريكى الواعد كان يعى أن عناصر القوة المصرية المسلحة هى الأساس لتطويع الموقف الأمريكى والإسرائيلى)، ومن هنا كانت ضغوطه على السفير السوفيتى للحصول على مزيد من السلاح، وبمجرد تحقيق اتفاق فض الاشتباك الأول، قطع السادات العلاقات مع السوفيت!!
قبل أن نسترسل نؤكد أن عملية السلاح هى جوهر أى حديث عن دور مصر الاستراتيجى، والعجيب أن جهابذة الأمن القومى ما يزالون من عام 1974 حتى 2014 يتحدثون عن دور مصر، وبعضهم فى الأزمات يجاهر أن أمريكا هى المشكلة، كما حدث بعد انقلاب السيسى وحتى الآن مع أن الجيش المصرى تسليحًا وتدريبًا وصيانة وتصنيعًا وتعلمًا وذخيرة أمريكى بنسبة كبيرة، وبالتالى فإن كل آلاف الصفحات والبرامج حول الأمن القومى المصرى ودور مصر الخطير فى المنطقة هو كلام من قبيل التهريج، وخداع للنفس وللناس.
شرطى المنطقة:
كما ذكرت من قبل فإن السادات كان متلهفًا للحصول على سيناء بأى ثمن حتى أنه قال للمبعوث الأمريكى "أثرتون" فى 30 يوليو 1978 أى قبل كامب ديفيد: (إن مصر مستعدة لإعطاء إسرائيل أى شىء تحت الشمس ما عدا الأرض والسيادة، بل أنه مستعد أن يعطيهم المياه لرى النقب مقابل الانسحاب من مستوطنات الضفة الغربية)، وإنه مستعد لتسوية تضمن أمن إسرائيل وعمل كل ما هو مطلوب فى مجال تطبيع العلاقات أو الحدود المفتوحة). ولكن فى كامب ديفيد تخلى حتى السيادة الكاملة فى سيناء، وفى كامب ديفيد فاجأ السادات فريق مفاوضيه كما ورد فى مذكرات محمد إبراهيم كامل وزير الخارجية ساعتئذ بالقول: (سأوقع على أى شىء يقترحه الرئيس الأمريكى كارتر دون أن أقرأه)!! وهذا كلام لا يقوله رجل دولة أو رجل وطنى, على أى حال كانت اللهفة التى قد يفهمها البعض فى مسألة الرغبة فى استعادة سيناء، كانت متلازمة مع لهفة أخرى وهى عرض دور الشرطى فى المنطقة لصالح أمريكا بديلا عن نظام "الشاه" الذى كان قد سقط لتوه. ربما كان السادات يريد التغطية على الانسحاب النهائى من الصراع مع إسرائيل ومن قضية القدس، إلى صراع عالمى عريض يبدو مبدأيا ضد الشيوعية وهو أمر مزرى ومروع بالمعايير الوطنية والإسلامية ومفاهيم "الأمن القومى" إياه الذى تحول إلى كلمة بذيئة, وكلما أردت أن تقوم بعمل شىء محرم وتخرس من أمامك تقول: (هذه قضية أمن قومى)، حتى أصبح مد الغاز لإسرائيل مجانا قضية أمن قومى كما قال عمر سليمان (رضى الله عنه)!! والذى ما يزال يتم تلميعه فى إعلام المخابرات، وكانت لهفة السادات أسرع مما يتخيل أحد، ففى أول لقاء مع كيسنجر حين جاء بمشروع جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل لفض الاشتباك من 6 نقاط، فقال له السادات أنا موافق عليه بدون أن أقرأه، ولكن دعنا نتحدث فى مواجهة الخطر الشيوعى على العالم، وذهب يشرح وجهة نظره على خريطة!!
كانت إيران الشاه هى محور الاستراتيجية الأمريكية فى المنطقة التى تحتوى على أكبر خزان نفطى فى العالم عقب انسحاب بريطانيا من الخليج عام 1971. ووصل الأمر إلى مباحثات بين نيكسون الرئيس الأمريكى وكيسنجر مع الشاه لوضع خطط طوارئ لتدخل إيرانى فى السعودية فى حالة سقوط النظام (أثرتون). وبدأ شاه إيران يلعب فعلاً دور الشرطى الإقليمى، وحصل على عتاد عسكرى بـ 20 مليار دولار بأسعار ذلك الزمان، أى ربع المبيعات العسكرية الأمريكية فى الفترة من 1970 - 1978، ولولا انهيار نظام الشاه لما تحمست أمريكا للضغط على إسرائيل لإعادة سيناء لمصر. فقد أرادت أمريكا إحداث توازن إقليمى بكسب مصر مقابل ضياع إيران. ولكن ليس بإعطاء مصر "كارت بلانش" لتكون شرطى المنطقة، كما كان الحال مع الشاه الذى تدخل بالفعل لقمع ثورة "ظفار" المسلحة فى سلطنة عمان، وسنرى كيف أخذت أمريكا مصر لحمًا وتركتها عظمًا، فمن أحلام السادات ليكون شرطيا فى المنطقة بدرجة جنرال، بل كان يتصور أن يمتد غربا حتى المغرب!!
من هذه الأحلام تحولت مصر فى عهدى مبارك والسيسى إلى مجرد شرطى برتبة "شاويش" لحراسة الشعب المصرى وغزة فحسب، وما بين عامى 1989 و1991 حيث تداعت الشيوعية سقطت حجة الأرتماء فى أحضان أمريكا بدعاوى مبدأية مزعومة فتحولنا إلى بلطجى صغير مأجور يعذب الإسلاميين لحساب أمريكا!
تحريض أمريكى ضد ليبيا:
كان السادات متلهفا كما ذكرنا على أى نوع من التسليح، وحدث اتفاق مبكر عام 1974 أن تشترى السعودية أسلحة من أمريكا لحساب مصر بعلم الإدارة الأمريكية بدعوى عدم استفزاز اللوبى الصهيونى والكونجرس. ولكن أمريكا كانت تجند السادات وغير متعجلة، وتسوى الزبون على نار هادية، واستجابت سريعا لأمر واحد، هو توفير الحماية للسادات، واكتشاف التنصت السوفيتى عليه!! وقد أشرت لذلك من قبل فى هذه الدراسة وفى إحدى مقالاتى لأكررها للمرة الثالثة لخطورته فى فهم طبيعة العلاقات الناشئة مع أمريكا، لقد بدأت بأن أصبح القصر الرئاسى فى قبضة أمريكا، وهذا ما ورد فى الوثائق الأمريكية المفرج عنها.
1 مايو 1974 فى لقاء كيسنجر مع السادات باستراحة المعمورة طرح أشرف مروان مستشار السادات ضرورة توفير معدات كشف التجسس لمكتب الرئيس السادات، وقدم قائمة بالمعدات المطلوبة بدقة لمنع التنصت على مكالمات الرئاسة، والتقاط الحوارات التى تجرى داخل مكاتب وغرف الرئاسة المصرية، واستجاب كيسنجر فورا، وأكد أن الرئاسة المصرية ستتسلم أول شحناتها بعد 5 أيام، أى صباح 6 مايو 1974، وكان اللقاء التالى يوم 4 مايو أى بعد 3 أيام، وأكد كيسنجر للسادات ألا يقلق على أمنه الشخصى، وأن الولايات المتحدة ستسلم أشرف مروان المعدات التى طلبها لحماية الرئاسة والرئيس من التنصت عليه وعلى مكالماته الشخصية.
ووصلت بالفعل المساعدة اللوجستية إلى أشرف مروان، وحصل مكتب الرئاسة المصرية على خبرات فنية من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (دورات إعداد) وطبعًا من يقدم أجهزة منع التنصت يمكن أن يضع أجهزته الخاصة ليتصنت هو بنفسه!!
أما ما يتعلق بالأسلحة فكانت المسألة قطرة قطرة وفقًا للحسابات والمصالح الأمريكية الإسرائيلية، فبدأ الموضوع بتزويد مصر بالطائرات العمودية دى سى 9 لتطهير قناة السويس من الألغام من مخلفات الحرب. وكان كيسنجر قد اتفق مع جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل (وهما يهوديان!!) أن فتح قناة السويس مهم جدًا لأنه سينهى فكرة الحرب من ذهن السادات. كما اتفقا على ضرورة إبعاد السادات تمامًا عن السوفيت، ولذلك ففى لقاء 1/5/1974 حمل كيسنجر معه قائمة بأنواع الأسلحة حتى يختار السادات ما يريد!! (وكأنها منيو أطعمة فى أحد المطاعم).
وهو ما أراح أعصاب السادات، ولكن الاجتماع تناول فى لحظة أخرى تحذيرًا أمريكيًّا من القذافى؛ بهدف دفع وإثارة واستفزاز السادات بمعلومات عن أطماع ليبية ونوايا عسكرية مبيتة، وسيستمر هذا الضغط وسيؤدى فى النهاية إلى ضربة عسكرية مصرية لليبيا عبر الحدود 1977.
كانت الرسالة أن هذه الأسلحة وأخذها لمثل هذه المهام الجديدة: ضرب ليبيا، وكانت ليبيا فى علاقة وثيقة مع الاتحاد السوفيتى فى ذلك الوقت.
وفى 2 يونيو 1975 خلال لقاء السادات مع الرئيس الأمريكى فورد وكيسنجر عاد الأخير ليطمئن السادات ويتعهد بحمايته شخصيًّا، وأن واشنطن ستقف بقوة بجانب الرئيس السادات (فى مواجهة أى تهديدات سوفيتية)، فيما بعد واصلت إسرائيل أسلوب الاحتواء هذا؛ حيث أكد الرئيس الإسرائيلى عيزر وايزمان أن إسرائيل اكتشفت محاولة لاغتيال السادات وسارعت بإبلاغه، فألغى السادات زيارته للنمسا فى 10 أغسطس 1981.
وفى اليوم السابق 1/6/1975 ربط السادات فى حديثه بين طلب السلاح الأمريكى ونواياه فى الهجوم على ليبيا، وكأنه يؤكد أنه تلقى الطعم الذى وضعه كيسنجر فى لقاء 1/5/1974، ووعد كيسنجر - ويبدو أنه كان أكثر أهمية من فورد!! - السادات يومها أن واشنطن ستساند مصر فى أى عمل تقوم به ضد ليبيا!! فعاد السادات يطلب السلاح الأمريكى من فورد وقال له: (سنكون محبطين للغاية لو لم تساعد الولايات المتحدة مصر عسكريًّا بعد ما قامت به من خطوات من أجل السلام)!! (هذه اللقاءات كانت فى سالزبورج بالنمسا).
لم يكن السادات وحده:
تلهف السادات أثناء حرب أكتوبر على إنهاء الصراع مع إسرائيل للأبد والارتماء فى أحضان أمريكا بدأ يوم 9 أكتوبر 1973 وهذا شىء غير محتمل أثناء الحرب، وقوة الاندفاع هذه ظلت مستمرة حتى كامب ديفيد، أثناء الحرب وصلت الرسائل المتبادلة بين السادات ونيكسون إلى 15 رسالة، بالإضافة لـ 20 رسالة بين حافظ إسماعيل مستشار الأمن القومى وهنرى كيسنجر، وبعد 48 ساعة من اندلاع القتال كانت إحدى رسائلنا تقول أن مصر (لا تسعى لتوسيع إطار المواجهة أو تعميقها) وهذه أول مرة يبلغ محارب عدوه بكامل نواياه فى بداية الحرب، وهذا ما أعطى إسرائيل الوقت المستريح للإجهاز على سوريا ثم العودة للجبهة المصرية بكامل قوتها لتحدث الثغرة. ولست فى وارد تقييم شخصية حافظ إسماعيل، ولكنه كان جزءًا من حالة السادات، وكانت حالة السادات تزحف بدرجات متفاوتة على الطاقم القيادى العسكرى والمدنى، أى ضرورة إنهاء الصراع والاعتراف بإسرائيل. حتى أن وثيقة أمريكية تم الكشف عنها فى عام 2001 تضمنت أن حافظ إسماعيل أوضح لكيسنجر فى إطار حديث ثنائى لم يشارك فيه أحد من الجانبيين على هامش لقاء فى باريس، أوضح استعداد مصر للتوقيع على أى اتفاق سلام طبقًا للمفهوم الأمريكى الذى طرح فى اجتماع باريس..!! والمفهوم الأمريكى كان دائمًا كما هو حتى الآن ممائلاً لإسرائيل. وكان هذا قبل حرب أكتوبر!! أما أثناء حرب أكتوبر ويوم 9 أكتوبر فى عزة نشوة انتصار العبور قال حافظ إسماعيل (لأبى الغيط) الذى كان سكرتيرًا لديه أنه (يستطيع أن يلتقى وفورًا أى مسؤول إسرائيلى وبالتحديد "إيجال ألون" صاحب فكرة التسوية مع العرب، وفى أى مكان إذ أن الجيش ضربهم وكشف حدود إمكاناتهم)!!
وهكذا كنا أمام طبقة حاكمة فقدت القدرة على المتابعة، وتريد أن تنهى أسطورة العداء لإسرائيل مستظلة بالعبور الناجح الذى اعتمد أساسًا على النجاح التاريخى فى المباغتة، وهو السبب الأساسى للعبور بهذه الخسائر المحدودة.
هذه الطبقة مزيج من بقايا ثورة يوليو بالإضافة لمن التحم بهم من صفوف جديدة من العسكريين والمدنيين. هذه الطبقة ماتت فى كامب ديفيد، ولكن تزعم الآن أنها خرجت من القبور وتحكمنا باسم السيسى، والإخوان مسؤولون عن هذا الوضع لأنهم عملوا ووصلوا للحكم فى إطار "شرعية كامب ديفيد"، وطالما هى كامب ديفيد، فالسيسى وأقرانه يرون أنهم أولى بها!!
أمريكا لا تستأمن مصر على البترول:
بعد سقوط الشاه، كان لابد لأمريكا أن تأتى بنفسها لحماية أكبر خزان نفطى فى العالم، منطقة الخليج العربى خاصة السعودية، فرغم أن مصر بدخولها العسكر الأمريكى عدلت الموازين فى المنطقة، لكن مصر لا تؤتمن على النفط الخليجى ولا صدام ولا إيران الثورة، والسعودية ضعيفة إزاء أى خطر خارجى بالإضافة لاحتمالات التغيير من الداخل، لذلك قالها الرئيس الأمريكى رونالد ريجان: (لن نسمح للسعودية بأن تكون إيران أخرى).
وقبله أعلن جيمى كارتر مبدأ التدخل السريع فى حالة تعرض الخليج لأى تهديدات يؤثر على إمدادات النفط. وتم تأسيس قوة مشتركة للانتشار السريع ومركزها فى تامبت على أن تنتشر عند اللزوم، وارتبط ذلك بالحصول على تسهيلات جديدة فى عُمان وكينيا والصومال وجزيرة (ييجو جارسيا) فى المحيط الهندى. وصار ريجان على نفس التوجه بطبيعة الحال.
مصر كانت عضوًا تحت التمرين والتدريب، ثم ظلت كذلك لأنها مشروع قائد للمنطقة بغض النظر عن السادات أو مبارك لأنهما سيرحلان، فكيف تضع الخزان النفطى تحت يد مشروع قائد للعرب. كان دور مصر ولا يزال دورًا لوجستيًّا فى هذا المنظومة بالإضافة لتقديم الغطاء السياسى الشرعى لأى تحرك أمريكى، وقد اقتبست من قبل أقوال أبو غزالة الذى تحدث بوضوح عن دور مصر فى حماية طرق إمدادات البترول!! وأن هذا هو أساس تحالفنا مع أمريكا والغرب. أى مجرد خدم؟ وكان لمصر دور لوجيستى فى أفغانستان لمواجهة السوفيت، بإرسال أسلحة سوفيتية للمجاهدين وإرسال متطوعين، بالإضافة للغطاء الإعلامى، وكذلك ذهبت عناصر مخابراتية مصرية مع المتطوعين، وهذا وضع أساس الاختراق المصرى للمجاهدين عندما تحولوا لضرب أمريكا وعملائها. واستخدمت قوات مصرية كرديف سياسى (ستيد) للقوات الأمريكية فى الصومال.
فى أواخر 1993 دعيت كرئيس تحرير لجريدة الشعب لتغطية رحلة مبارك للولايات المتحدة، بعد أن كنت مطلوبًا للتحقيق بسبب حملة الجريدة على مبارك بمناسبة الاستفتاء، ويبدو كانت محاولة لتبريد الأجواء بيننا وبين الحكم، المهم كان ذلك فى عهد كلينتون وكان عالقًا فى الصومال. وكانت من أهم "إنجازات" هذه الزيارة الميمونة أن أمريكا طلبت عونًا عسكريًّا مصريًّا كغطاء لحملة "الأمل" الإنسانية المزعومة فى الصومال. وفى المركز الصحفى داخل فندق ماديسون، كان رؤساء التحرير الحكوميون فى حالة من النشوة؛ لأن أمريكا لا تستغنى عن مصر، وبذلك لن يتم تخفيض المعونة!! ولم أناقشهم ولكن قلت رأيى فى "الشعب".
المهم لقد هزمت أمريكا فى الصومال وخرجت تجر أذيال الخيبة والعار كما بشرت فى عدة مقالات قبل حدوثه، وخرجت القوات المصرية معها. هذه التبعية المصرية لأمريكا هى التى جعلتنا بلا وزن فى المنطقة، حتى فى الصومال التى كانت جزءًا لا يتجزأ من مصر من أيام حتشبسوت حيث كان حكام بونت يأتون لأداء قسم الولاء لحكام مصر!! والآن أصبحنا مجرد "خدامين" للأمريكان.
وبعد أن كنا نتحكم فى باب المندب مع اليمن أصبح باب المندب تحت النفوذ الإسرائيلى القريب فى أريتريا وقواعد الغرب فى جيبوتى، وأصبحت مصر مجرد ضيف فى البحر الأحمر!!
أما فيما يتعلق بالنفط فقد أصبح دور مصر تقديم تسهيلات عسكرية جوية وبرية وبحرية للجيش الأمريكى، وبدأ هذا مبكرًا إذ خرجت طائرات أمريكية حربية من أحد مطارات الصعيد فى محاولة لتحرير الرهائن الدبلوماسيين فى طهران، وفشلت الحملة فى صحراء نوباز الإيرانية؛ حيث تصادمت الطائرات مع بعضها البعض، كما قدمت مصر المرور السريع للقوات الأمريكية عبر قناة السويس، فأصبحنا مجرد ممر، وهذا ما قاله وزير الدفاع الأمريكى هارولد براون (بدون المساعدة المصرية فإن الولايات المتحدة ستواجه عقبات فى استخدام القوة العسكرية فى المناطق الحيوية البعيدة عن الولايات المتحدة).
وقد ظهر هذا فى حربى العراق وأفغانستان؛ حيث سمحت مصر للطائرات الأمريكية بالتحليق فوق أراضيها بمعدل 20 إذنًا يوميًّا للطيران فى عام 2005 رغم هدوء القتال نسبيًّا فى الجبهتين، وقدمت مصر معلومات استخباراتية لواشنطن، أى أصبحت مجرد مخبر. إلا أن أمريكا حرصت على عدم استخدام القوات المصرية فى أى عمليات قتالية حقيقية عدا ما يسمى حرب تحرير الكويت، وكانت مشاركة مصر بهدف الغطاء السياسى لتأكيد غياب دوافع استعمارية، ولم تخض القوات المصرية حربا حقيقية. بل أجبرت على الانسحاب من الكويت (بعد إخراج القوات العراقية) عن طريق سوء المعاملة. وبقيت القوات الأمريكية حتى الآن !! (نواصل بإذن الله).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق