السبت، 27 ديسمبر 2014



نجيب محفوظ: كلمة حق وإنصاف
 
بقلم: د. محمد يوسف عدس
 
 في مصر يتم تزييف التاريخ -بدمٍ بارد- في كل مرّة يعتلي فيها عرش السلطة حاكم عسكري جديد؛ إذ يصبح العهد السابق عهدًا بائدًا لا ينبغي أن يعرف الشعب عنه شيئًا؛ إلا كل نقيصة ومذمَّة.. وما دُمْتَ تزيّف التاريخ –وهذه جريمة كبرى- فأنت تزيّف الحقائق وهذه جريمة ثانية؛ يتولّد منها تلقائيًّا جريمة ثالثة أشد غِلظة وأبعد أثرا، ألا وهي جريمة تزييف الوعي وتضليل الأجيال. 
ومن تجلّيات هذه الجريمة حرق الكتب وحبس الوثائق أو فرْمها كما حدث في مصر، وإشاعة وقائع مناقضة عبر أجهزة الإعلام إمعانا في التضليل.. أما في هذا الزمن فنحن نشهد جريمة رابعة -مضافة- ألا وهي تزييف العقيدة؛ متمثّلة في الجرأة على الله ورسوله.. وعلي الأحكام الشرعية الثابتة بالقرآن والسنة.. ولكن ليس هذا موضوعنا.. ربما تكون مقدمة ضرورية لكي نعيَ حقيقة أننا يمكن أن نعيش في وهمٍ أعواما طويلة حتى يأتي من يكشف لنا الحقيقة ويرفع عن أعيننا الغطاء..
لقد جذبني أدب نجيب محفوظ في وقت مبكر جدًّا وتابعته –مستمتعًا- بقراءة كل ما نُشر له حتى روايته "أولاد حارتنا" التي نشرتها صحيفة الأهرام في حلقات سنة 1959/1960، ثم توقفت عن النشر لاعتراض الأزهر عليها، ولِمَا أحاط بها من لغط شديد واتهام مؤلفها بالزندقة.
 لقد كنت أشعر أن نجيب محفوظ بهذه الرواية كان يقتحم دروبا محظورة في عقائد مقدسة عند الناس باستهانة غير معهودة فيه.. كانت -رغم الأسلوب الرمزي وعدم التصريح بالأسماء- تشفّ لي عن توجّه خاطئ وتورّطٍ فيما كان لا ينبغي له أن يتورّط فيه.. ولعل نجيب محفوظ قد أدرك خطأه فتعهّد ألا تُنشر هذه الرواية أبدًا إلا بإذن من الأزهر، وقد التزم بهذا الوعد حتى آخر حياته.. ولكن سُرقت الرواية من قِبل ناشرين لبنانيين اعتادوا على سرقة حقوق المؤلفين، ثم تم تهريبها داخل مصر وبيعت سرا بأسعار خيالية..
 أكاد أجزم بأن نجيب محفوظ كان صادقا في موقفه من الرواية وفي رغبته أن يطوي صفحتها من حياته وإليك مسوّغات هذا الاعتقاد: 
أولا- لقد تمت عدة محاولات لنشر الرواية؛ فبعد فوزه بجائزة نوبل سنة 1989م أعلنت صحيفة المساء الحكومية إعادة نشر الرواية مسلسلةً.. ولكن بعد أن نشرت الحلقة الأولي اعترض محفوظ عليها فتم إيقاف النشر.. ثم جرت محاولات أخري بعد استهداف حياته بالاغتيال سنة 1994م، متّخِذةً من التعاطف الشعبي ستارا للترويج للرواية.. فتنافست عدة صحف على نشرها منها " الأهالي ".. لكن نجيب محفوظ ظل على موقفه من معارضة النشر.. إلا أن "الأهالي" وهي صحيفة شيوعية لا يهمها الجانب الأدبي من الرواية بقدر ما يهمها الترويج لعمل أدبي أصبح رمزًا للتجديف على الإسلام.. لم تحترم إرادة نجيب محفوظ ونشرتها كاملة في عدد خاص يوم الأحد 30 أكتوبر 1994م.. وقيل إن العدد نفد من السوق في يوم واحد.. وهكذا تري أن حربا أيديولوجية قُصد بها تحدِّي التيارات الإسلامية والفكر الإسلامي، ولكنها أيضا كنت حربًا مغموسة بالمصالح التجارية والكسب غير المشروع.. تم فيها التلاعب بالرواية وبصاحبها على السواء..
 ثانيا- في غضون تلك الفترة بعث نجيب محفوظ بكلمة إلى ندوة أقامتها الأهرام تحت عنوان "نحو مشروع حضاري عربي" قال فيها بالنص: "إن أي مشروع حضاري عربي لابد أن يقوم على الإسلام.. وعلي العلم.." وشرح رأيه بالتفصيل في مناسبة أخري حضرها بعض المثقفين الشهود.. أذكر منهم الإعلامي المخضرم أحمد فراج صاحب البرامج الدينية الشهيرة.. قال نجيب محفوظ: "إن أهل مصر الذين أدركناهم.. وعشنا معهم.. والذين تحدثت عنهم في كتاباتي كانوا يعيشون بالإسلام.. ويمارسون قيمه العليا.. دون ضجيج ولا كلام كثير.. وكانت أصالتهم تعني هذا كله.. ولقد كانت السماحة وصدق الكلمة وشجاعة الرأي وأمانة الموقف ودفء العلاقات بين الناس.. هي تعبير أهل مصر الواضح عن إسلامهم.. ولكني في كلمتي إلى الندوة أضفت ضرورة الأخذ بالعلم.. لأن أي شعب لا يأخذ بالعلم ولا يدير أموره على أساسه لا يمكن أن يكون له مستقبل بين الشعوب.. إن كتاباتي كلها؛ القديم منها والجديد، تتمسك بهذين المحورين: الإسلام الذي هو منبع قيم الخير في أمتنا.. والعلم الذي هو أداة التقدم والنهضة في حاضرنا ومستقبلنا.
 ثالثا- صحيح أن نجيب محفوظ في فترة من حياته الدراسية كان متأثرا بالأفكار الماركسية عن العدالة الاجتماعية والاشتراكية ولكن كثيرا من المفكرين الذين مروا بهذه المرحلة تجاوزوها وأصبحوا من المفكرين الإسلاميين المرموقين نذكر منهم: المستشار طارق البشري ومحمد عمارة ومصطفي محمود.. بل إن علي عزت بيجوفيتش فيلسوف الإسلام في القرن العشرين يعترف بلوثة ماركسية أصابته في سنوات مراهقته، سرعان ما انقشعت.
 أنا لا أزعم أن نجيب محفوظ تحول إلى مفكر إسلامي.. وإنما فقط أحاول إنصاف الرجل من تهمة لصقت به نتيجة خطأ استهان به في البداية ثم أفاق إلى نفسه.. ولكن استغله المتعصبون من الجانبين: الإسلامي والعلماني على السواء؛ ليبقى سيف "أولاد حارتنا" معلقًا فوق رقبته رغم إرادته.. وخصوصًا أن الجانب العلماني حرص على أن يحاصره ويفرض عليه صورة العلماني الذي لم يغادر حظيرتهم؛ فقد تسلّط عليه محمد سلماوي، في آخر حياته وهو يعاني المرض والعجز عن الاتصال بالعالم الخارجي؛خصوصًا بعد تدهور شديد في سمعه وبصره، وعدم قدرته على الإمساك بالقلم، فاستنطقه كلاما لم يقلْهُ، ونقله إلى عموده الصغير في الأهرام حتى يُبْقِي على صورته التي صنعوها له في أذهان الجماهير..
 من المصادفات السعيدة أنني التقيت بالأستاذ جمال النهري ابن أخت نجيب محفوظ، في بيت قريب لي وصديق له في نفس الوقت.. فسنحت لي الفرصة أن أناقش معه شكوكي حول "أولاد حارتنا" وأمورًا أخري عن موقف خاله، وقد استطعت أن أعرف منه حقائق كثيرة عن حياته، كما حصلت على نص كلمته التي أُلقيت بالنيابة عنه في حفل تسليم جائزة نوبل بالسويد، وكانت قبل نشرها على شبكة الإنترنت سرا من الأسرار غطَّي عليها الإعلام المصري، فلم ينشر منها إلا فقرات تمجد الحضارة الفرعونية.. 
قُدّم إلينا جمال النهري على أنه طبيب وكاتب ومفكر إسلامي وأحد قيادات الإخوان المسلمين الذين استضافتهم سجون مصر أكثر من مرة في عهد عبد الناصر.. عرفت منه كيف تحايل على زيارة سيد قطب في مستشفى السجن سنة 1954م برشوة حارسه..
وقد استغربت أن أسمع منه أن سيد قطب ذكر نجيب محفوظ بخير إذ قال لجمال النهري وهو لا يعرف أنه ابن أخته : لو قُدِّر لك أن تخرج سترى نجيب محفوظ أعظم أديب في مصر وربما في العالم"، ونصحه بلقائه والتعرُّف عليه عن قرب.. والتعلم منه".. 
ودهشت أكثر من هذا أن سيد قطب هو الذي كشف عن عبقرية نجيب محفوظ في وقت مبكر جدّا خلال الأربعينيات من القرن العشرين، عندما بدأ يكتب قصصه فلم يلتفت إليه أحد من النقاد سوى سيد قطب وكان أحد أبرز نقاد الأدب في مصر. عُني بقراءة قصصه وكتب عنها وتنبأ له بمستقبل أدبي باهر، وكانت سعادة نجيب محفوظ بهذه الشهادة فوق الوصف؛ فقد انطلقت شهرته وشاعت على كل لسان بعد هذه الشهادة التي كتبت بقلم أديب متميز كان يكتب بأفصح بيان وأجمله عن موضوعين أثيرين لدي المثقفين في ذلك الوقت: العدالة الاجتماعية، والتصوير الفني في القرآن..  
وكان مبدعًا ومقروءًا على أوسع نطاق من أنصار العدالة الاجتماعية والإسلاميين على السواء.. 
رابعا- عندما فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل في الآداب لسنة 1989م ورد في قرار اللجنة إشارةٌ إلى روايته "أولاد حارتنا".. مما تسبب في إثارة ردود أفعال سلبية في العالم العربي.. واعتبر البعض أن سر فوز نجيب محفوظ هو هذه الرواية الموصومة بالمروق. ولكن أعمال الرجل الأخرى وهي غزيرة ومبدعة تؤهّله لجائزة نوبل.. بل أجرؤ على القول بأنه كان أحق بالجائزة من كثير جدًّا ممن حصلوا عليها من أدباء العالم الثالث والمتقدّم على السواء.. بعضهم –في اعتقادي- يعُتبرون أقزاما بالنسبة لنجيب محفوظ.. فلما كثر الجدل وبولغ في تقييم أثر هذه الرواية كسبب في الجائزة.. كان على نجيب محفوظ أن يختار بين أمرين: رفْضُ الجائزة من الأساس.. وهذا لن يعفيه من التهمة التي لصقت به، فالرواية لا تزال موجودة رغم أنه أصدر بشأنها قرارًا سابقًا والتزم به حتى آخر حياته، وهو ألا يعيد نشرها أبدًا إلا بإذن من الأزهر.
 أما الاختيار الثاني الذي آثره نجيب محفوظ فهو ألا يُظهر اهتمامًا عمليًّا بالجائزة فلا يسافر ولا يحضر احتفال مؤسسة نوبل عند تسلّم الجائزة.. فبعث من ينوب عنه هناك.. 
ولكن الأهم أنه ضمّن كلمته عبارات قوية وجريئة عن أكبر القضايا المؤرقة في العالم العربي وهي القضية الفلسطينية.. وأبرز الانتهاكات والمظالم التي وقعت على الشعب الفلسطيني من جراء العنف الإسرائيلي.. وندّد بسكوت الغرب على هذه الانتهاكات.. 
لقد أراد محفوظ أن يواجه الغرب في عقر داره وفي أكبر مؤسساته الداعية إلى السلام في العالم.. ويضعهم أمام المرآة ليروا حقيقة موقفهم المخزي ويحسّهم على تصحيحه وإعادة الحقوق المهدرة إلى أهلها..
 ولكن الغريب في الأمر أن الإعلام المصري هلّل للجوانب السطحية في الموضوع.. وعلّل عدم سفر الرجل لاستلام الجائزة، بعشقه الشديد لمصر وأنه يؤثر البقاء على أرضها فلا يفارقها لحظة من حياته.. وهو تهريج إعلامي لا يصدقه العقلاء.. هذا الإعلام –كعادته- أخفي الحقيقة عن أعين الجماهير.. بل تعمّد تشويهها عندما نشر فقرات منها تمجّد الحضارة الفرعونية.. ولم ينشر الكلمة كاملة أبدًا على مدى هذه السنين الطويلة..
 إنها كلمة تستحق التأمل والتقدير.. خصوصًا ما ورد فيها عن قضية الشعب الفلسطيني وعن الحضارة الإسلامية.. وفيما يلي فقرات كاشفة .. 
يقول نجيب محفوظ: "اسمحوا لي أن أقدم لكم نفسي بالموضوعية التي تتيحها الطبيعة البشرية.. أنا ابن حضارتين تزوجتا في عصر من عصور التاريخ زواجا موفّقًا؛ أولاهما عمرها سبعة آلاف سنة وهي الحضارة الفرعونية، وثانيتهما عمرها ألف وأربعمائة سنة وهي الحضارة الإسلامية.."
 ** تحدث عن الحضارة الفرعونية فأبرز أهم سماتها ومنها اهتدائها لأول مرة إلى الله سبحانه وتعالي وكشْفها عن فجر الضمير البشري..
 ثم انتقل إلى الحضارة الإسلامية فقال: " وعن الحضارة الإسلامية.. لن أحدثكم عن دعوتها إلى إقامة وحدة بشرية في رحاب الخالق تنهض على الحرية والمساواة والتسامح، ولا عن عظمة رسولها.. فمن مفكريكم من كرّمه كأعظم رجل في تاريخ البشرية.. ولا عن فتوحاتها التي غرست آلاف المآذن الداعية للعبادة والتقوى والخير على امتداد أرضٍ مترامية؛ ما بين مشارف الهند والصين وحدود فرنسا. ولا عن المُؤاخاة التي تحققت في حضنها بين الأديان والعناصر.. في تسامح لم تعرفه الإنسانية من قبل ولا من بعد.. ولكني سأقدمها في موقف درامي ـ مؤثر ـ يلخص سمة من أبرز سماتها.." "ففي إحدى معاركها الظافرة مع الدولة البيزنطية ردّت الأسري في مقابل عدد من كتب الفلسفة والطب والرياضة من التراث الإغريقي العتيد. وهي شهادة قيّمة للروح الإنساني في طموحه إلى العلم والمعرفة.. رغم أن الطالب يعتنق دينا سماويا والمطلوب ثمرة حضارة وثنية ".. ** ثم ينتقل إلى استعراض أوجاع البشرية وآلامها ويشير في هذا السياق إلى المأساة الفلسطينية إشارات واضحة بالغة القوة.. يقول: " لعلكم تتساءلون: هذا الرجل القادم من العالم الثالث.. كيف وجــد من فـراغ البال ما أتاح له أن يكتب القصص..؟، وهو تساؤل في محلِّه.. فأنا قادم من عالم ينوء تحت أثقال الديون حتى ليهدده سدادها بالمجاعة أو ما يقاربها.. يهلك منه أقوام في أسيا من الفيضانات.. ويهلك آخرون في أفريقيا من المجاعات.. وهناك في جنوب أفريقيا ملايين المواطنين قُضي عليهم بالنبذ والحرمان من أي من حقوق الإنسان في عصر حقوق الإنسان وكأنهم غير معدودين من البشر.. وفي الضفة وغزة أقوام ضائعون رغم أنهم يعيشون فوق أرضهم وأرض آبائهم وأجدادهم وأجداد أجدادهم.. هبّوا يطالبون بأول مطلب حققه الإنسان البدائي وهو أن يكون لهم موضع مناسب يُعترف لهم به. فكان جزاء هبّتهم الباسلة النبيلة ـ رجالا ونساء وشبابا وأطفالا ـ تكسيرًا للعظام، وقتلًا بالرصاص وهدْما للمنازل.. وتعذيبا في السجون والمعتقلات.. ومن حولهم مائة وخمسون مليونا من العرب، يتابعون ما يحدث بغضب وأسى، مما يهدد المنطقة بكارثة إن لم تتداركها حكمة الراغبين في السلام الشامل العادل".. 
** لم يتراخَ نجيب محفوظ في مواجهة المثقفين والقادة في الغرب بمسئوليتهم حيث قال: "ولعلي لا أتجاوز واجبي إذا قلت لهم باسم العالم الثالث: لا تكونوا متفرجين على مآسينا ولكن عليكم أن تلعبوا فيها دورا نبيلا يناسب أقداركم.. إنكم من موقع تفوّقكم مسئولون عن أي انحراف يصيب أي نبات أو حيوان فضلا عن الإنسان، في أي ركن من أركان المعمورة. وقد ضقنا بالكلام وآن أوان العمل .. آن الأوان لإلغاء عصر قُطَّاع الطرق والمرابين.. نحن في عصر القادة المسئولين عن الكرة الأرضية.. أنقذوا المستبعدين في الجنوب الإفريقي. أنقذوا الجائعين في إفريقيا.. أنقذوا الفلسطينيين من الرصاص والعذاب.." 
 
هذا الكلام الواضح المستقيم كالسيف، الشفاف كالبلّور، لا يقوله ملحد ولا دعيّ أفَّاق ولا منافق خسيس ولا انتهازي يبيع قيمه ومبادئه لمن منحوه أعظم جائزة في الأدب، ولديهم عشق خاص لسماع كل ما يُسيء إلى الإسلام والفكر الإسلامي، يطربون له وينفقون على أصحابه بسخاء عظيم.. كما فعلوا مع ملاحدة ومنافقين سابقين من أمثال: سلمان رشدي وغيره، يُعدون بالعشرات بل بالمئات.. يعيشون اليوم في الغرب عيشة الملوك، ولكن لا ترتفع هاماتهم إلى مستوى نعل نجيب محفوظ.. 
*****
نقلا عن "المصريون"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق