"حاجة ومليون واحد"!
بلال فضل
للأسف، أكثر التسريبات خطورة تلك التي تقول لك شيئاً تتوقعه، لكنك تفضّل أن تتعامل معه بوصفه ظناً يحتمل الشك والتكذيب. ولذلك، حين تواجه كونه حقيقة مؤكدة، ستشعر حتماً بالمهانة والأسى والمرارة، وكل المشاعر السلبية التي لعلها لم تفارقك، منذ أن استمعت إلى "تسريب عربية الترحيلات"، الذي يقوم فيه اللواء عباس كامل، مدير مكتب عبدالفتاح السيسي، مع اللواء ممدوح شاهين، مساعد وزير الدفاع للشؤون القانونية، بالاتفاق على التدخل في قضية سيارة ترحيلات سجن أبو زعبل، لمصلحة ضابط شرطة ابن زميل لهما، شارك في قتل 37 مواطنا أو "حاجة وتلاتين واحد"، بحسب تعبير اللواء عباس، سقطوا صرعى لتلك الجريمة المروّعة.
أعلم أنك ربما كنت تردد مع أحمد فؤاد نجم مقولته القديمة "فالقاضي تبع البتاع فالحق على المقتول"، وربما كنت تعرف أن هناك مكالمة ما تأتي من شخص ما إلى قاضٍ ما يصدر بعدها حكمٌ ما، وكنت تجد ذلك التفسير الوحيد لتلك الأحكام المتعسفة الجائرة التي صدرت، عبر السنين التي عاصرت فيها أشكالاً وألواناً من المهازل القضائية، لكنك كنت تُصبّر نفسك دائماً بحكم قضائي، ينصف مظلوماً هنا، ويعاقب ظالماً هناك، فتبادر إلى الترحيب به، ووصفه بالحكم التاريخي، لأنك لم تكن "حِمل" الاعتراف بأن البلد الذي يصف حكماً عادلاً بأنه حكم تاريخي، هو بلد يعيش خارج التاريخ أصلاً.
أدرك، أيضاً، أنك لم تكن غافلاً عن كل ما يحيط بك من فساد وقمع وخراءٍ مبين، لكنك كنت، رغم كل ذلك، تراهن في المحاكم التي تمثل أمامها، على نموذج ناجي السماحي في مسلسل (ليالي الحلمية) ونموذج هشام البسطويسي في مسلسل (قضاة الاستقلال)، وكان تعلقك بذلك الأمل يساعدك على قضاء الأوقات التي تسبق صدور الحكم في الترقب، والعشم في أن ينظر قضيتك قاضٍ من (قضاة الجنة)، وهو الأمل ذاته الذي كان يساعد كل محامٍ على بذل أقصى جهده أمام "عدالة المحكمة"، مدافعاً ومفنداً ومستجوباً، ويساعد أهالي المظلومين على النوم، في انتظار عدل يستجيب لدعواتهم الغارقة في الدموع، ويساعد رئيس الدائرة وعضو اليمين وعضو الشمال والنيابة الموقرة والحاجب الشامخ وفرّاش المحكمة وعمال البوفيه وأمناء السر والسعاة والعرضحالجية، على الشعور بأنهم في محاكم بحق وحقيق، وليسوا داخل ديكور محكمة في "لوكيشن" تصوير.
طيب، سيكون عليك أن تنسى كل ذلك، الآن، فثمة حقيقة جديدة لن تكون قابلة للنسيان بسهولة، تمثلها تلك العبارات التي أنهت حقبة كاملة من التواطؤ الجمعي على جريمة إهدار استقلال القضاء، وفصله الكامل عن تليفونات السلطة التنفيذية وأجهزته السيادية، تلك العبارات التي لن يكون نسيانها سهلاً على كل صاحب عقل، حتى لو لم يكن صاحب ضمير: "ما تشوفوا يا فندم القضية بتاعة الحاجة والتلاتين واحد اللي كانوا في عربية الأمن المركزي.. أنا هاكلم له القاضي على أساس إنه يسمح.. هاجيبهم له هاجيبهم له.. ده الواد هيموت".
حين تقف، بعد عبارات كهذه، أمام أي قاضٍ، مهما كانت سمعته حسنة وتاريخه مشرفاً، لن تستطيع منع نفسك من التساؤل عن مدى قدرته على رفض تدخلات المسؤولين السياديين في عمله، بدعوى الحفاظ على أمن الوطن وسلامة أراضيه وحماية الدولة من الانهيار. هذه هي الحقيقة المرة التي لن تلغيها أي محاولات من بعض القضاة، لاتهام من يثيرها بأنه يهين القضاء، لأن من أهان القضاء، حقاً وصدقاً، ليس مجموعة من الكتاب والناشطين السياسيين "ليس لهم ديّة ولا ضهر"، بل قادة عسكريون لن يجرؤ هؤلاء القضاة، بكل "عنطزتهم" الفارغة، على لمس شعرة من رأس أحدهم، وليثبتوا العكس إن جرؤوا.
خلاص، "كل شيء إنكشفن وبان"، ولم يعد مهماً ما تختاره لنفسك، كمواطن، في مواجهة وضع فاضح كهذا: الغضب أو الصمت، التبرير أو الحسبنة، التريث خوفاً من المجهول، أو الرفض خوفاً من كوارث التريث، فلن يعفيك أي اختيار تتخذه، من مواجهة حقيقة أنك، بالنسبة لمن يحكمون مصر، مجرد واحد من "حاجة ومليون واحد"، لن تكتسب صفة ومعنى وحضوراً وهوية، ولن تستحق الإنصاف والمساندة والحماية، إلا إذا كنت ابناً لواحد من كبار المتنفذين، أو من يحتاج إليهم كبار المتنفذين. عندها، فقط، ستجد من يكلم لك القاضي، أو الضابط، أو المسؤول، أو صاحب المصلحة، ماذا وإلا، فانتظر دورك المحتوم، في أن تصبح مجرد رقم في كشوف الضحايا، ضحايا الأقسام أو القطارات أو العبّارات أو الطرق أو المستشفيات أو المدارس أو الإرهاب أو الإهمال، الضحايا الذين هم مجرد "حاجة ومليون واحد"، يعيشون رهائن على أرضٍ، يملكها ويحتكرها ويصادر مستقبلها "حاجة وألف واحد".
بلال فضل
للأسف، أكثر التسريبات خطورة تلك التي تقول لك شيئاً تتوقعه، لكنك تفضّل أن تتعامل معه بوصفه ظناً يحتمل الشك والتكذيب. ولذلك، حين تواجه كونه حقيقة مؤكدة، ستشعر حتماً بالمهانة والأسى والمرارة، وكل المشاعر السلبية التي لعلها لم تفارقك، منذ أن استمعت إلى "تسريب عربية الترحيلات"، الذي يقوم فيه اللواء عباس كامل، مدير مكتب عبدالفتاح السيسي، مع اللواء ممدوح شاهين، مساعد وزير الدفاع للشؤون القانونية، بالاتفاق على التدخل في قضية سيارة ترحيلات سجن أبو زعبل، لمصلحة ضابط شرطة ابن زميل لهما، شارك في قتل 37 مواطنا أو "حاجة وتلاتين واحد"، بحسب تعبير اللواء عباس، سقطوا صرعى لتلك الجريمة المروّعة.
أعلم أنك ربما كنت تردد مع أحمد فؤاد نجم مقولته القديمة "فالقاضي تبع البتاع فالحق على المقتول"، وربما كنت تعرف أن هناك مكالمة ما تأتي من شخص ما إلى قاضٍ ما يصدر بعدها حكمٌ ما، وكنت تجد ذلك التفسير الوحيد لتلك الأحكام المتعسفة الجائرة التي صدرت، عبر السنين التي عاصرت فيها أشكالاً وألواناً من المهازل القضائية، لكنك كنت تُصبّر نفسك دائماً بحكم قضائي، ينصف مظلوماً هنا، ويعاقب ظالماً هناك، فتبادر إلى الترحيب به، ووصفه بالحكم التاريخي، لأنك لم تكن "حِمل" الاعتراف بأن البلد الذي يصف حكماً عادلاً بأنه حكم تاريخي، هو بلد يعيش خارج التاريخ أصلاً.
أدرك، أيضاً، أنك لم تكن غافلاً عن كل ما يحيط بك من فساد وقمع وخراءٍ مبين، لكنك كنت، رغم كل ذلك، تراهن في المحاكم التي تمثل أمامها، على نموذج ناجي السماحي في مسلسل (ليالي الحلمية) ونموذج هشام البسطويسي في مسلسل (قضاة الاستقلال)، وكان تعلقك بذلك الأمل يساعدك على قضاء الأوقات التي تسبق صدور الحكم في الترقب، والعشم في أن ينظر قضيتك قاضٍ من (قضاة الجنة)، وهو الأمل ذاته الذي كان يساعد كل محامٍ على بذل أقصى جهده أمام "عدالة المحكمة"، مدافعاً ومفنداً ومستجوباً، ويساعد أهالي المظلومين على النوم، في انتظار عدل يستجيب لدعواتهم الغارقة في الدموع، ويساعد رئيس الدائرة وعضو اليمين وعضو الشمال والنيابة الموقرة والحاجب الشامخ وفرّاش المحكمة وعمال البوفيه وأمناء السر والسعاة والعرضحالجية، على الشعور بأنهم في محاكم بحق وحقيق، وليسوا داخل ديكور محكمة في "لوكيشن" تصوير.
طيب، سيكون عليك أن تنسى كل ذلك، الآن، فثمة حقيقة جديدة لن تكون قابلة للنسيان بسهولة، تمثلها تلك العبارات التي أنهت حقبة كاملة من التواطؤ الجمعي على جريمة إهدار استقلال القضاء، وفصله الكامل عن تليفونات السلطة التنفيذية وأجهزته السيادية، تلك العبارات التي لن يكون نسيانها سهلاً على كل صاحب عقل، حتى لو لم يكن صاحب ضمير: "ما تشوفوا يا فندم القضية بتاعة الحاجة والتلاتين واحد اللي كانوا في عربية الأمن المركزي.. أنا هاكلم له القاضي على أساس إنه يسمح.. هاجيبهم له هاجيبهم له.. ده الواد هيموت".
حين تقف، بعد عبارات كهذه، أمام أي قاضٍ، مهما كانت سمعته حسنة وتاريخه مشرفاً، لن تستطيع منع نفسك من التساؤل عن مدى قدرته على رفض تدخلات المسؤولين السياديين في عمله، بدعوى الحفاظ على أمن الوطن وسلامة أراضيه وحماية الدولة من الانهيار. هذه هي الحقيقة المرة التي لن تلغيها أي محاولات من بعض القضاة، لاتهام من يثيرها بأنه يهين القضاء، لأن من أهان القضاء، حقاً وصدقاً، ليس مجموعة من الكتاب والناشطين السياسيين "ليس لهم ديّة ولا ضهر"، بل قادة عسكريون لن يجرؤ هؤلاء القضاة، بكل "عنطزتهم" الفارغة، على لمس شعرة من رأس أحدهم، وليثبتوا العكس إن جرؤوا.
خلاص، "كل شيء إنكشفن وبان"، ولم يعد مهماً ما تختاره لنفسك، كمواطن، في مواجهة وضع فاضح كهذا: الغضب أو الصمت، التبرير أو الحسبنة، التريث خوفاً من المجهول، أو الرفض خوفاً من كوارث التريث، فلن يعفيك أي اختيار تتخذه، من مواجهة حقيقة أنك، بالنسبة لمن يحكمون مصر، مجرد واحد من "حاجة ومليون واحد"، لن تكتسب صفة ومعنى وحضوراً وهوية، ولن تستحق الإنصاف والمساندة والحماية، إلا إذا كنت ابناً لواحد من كبار المتنفذين، أو من يحتاج إليهم كبار المتنفذين. عندها، فقط، ستجد من يكلم لك القاضي، أو الضابط، أو المسؤول، أو صاحب المصلحة، ماذا وإلا، فانتظر دورك المحتوم، في أن تصبح مجرد رقم في كشوف الضحايا، ضحايا الأقسام أو القطارات أو العبّارات أو الطرق أو المستشفيات أو المدارس أو الإرهاب أو الإهمال، الضحايا الذين هم مجرد "حاجة ومليون واحد"، يعيشون رهائن على أرضٍ، يملكها ويحتكرها ويصادر مستقبلها "حاجة وألف واحد".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق