في حضرة المهرّج
بقلم : د. خليل العناني
د. خليل العناني
أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية
يتحدّث الجنرال عبد الفتاح السيسي، فيسخر الجميع إلا الذين يتحدث أمامهم، فبعضهم لا يزال يؤمن بأن الرجل "هدية السماء" له، وليس لمصر أو المصريين، ولا يشعر بمشكلةٍ في أن يصبح "رئيسه" مثار سخرية الآخرين واستهزائهم داخلياً وخارجياً.
ليست ظاهرة الرئيس "المهرّج" شيئاً جديداً إذا كانت أمراً مقصوداً، فالرئيس أنور السادات كان لا يملّ من إطلاق النكات والقفشات، ويصفه الكاتب المصري الراحل أنيس منصور بأنه كان "ابن نكتة"، لكن السيسي لا يمارس الهزل استثناءً كما كان يفعل السادات، وأحياناً حسني مبارك، وإنما هو "الهزل" بحد ذاته، بحيث بات الجميع ينتظر خطبه وكلماته التي يرتجل فيها، حتى تنكشف عوراته العقلية والفكرية.
ويبدو أن الرجل لا يجد من ينبّهه إلى مسألة الخطب والكلمات التي يلقيها، أو أن ينصحه بأن يأخذ الحذر، ويقلل من الارتجال، حتى لا تهتز صورته وهيبته، وهو الذي يدّعي دائماً أنه يمتلكها.
ويبدو الأمر وكأن مستشاريه (هل لديه مستشارون حقاً؟!) إما راضون بحالة السخرية التي يتعرّض لها رئيسهم، أو أنهم يخافون أن يواجهوه بها، حتى لا يطيحهم، أو يعاقبهم على صراحتهم. والنتيجة واحدة، وهي تحول الرجل إلى مادة فكاهية، باتت تخفّف عن المصريين وطأة الحكم السلطوي الذي يئنون تحته.
تسير "تفاهة" السيسي عكس كل ما كان يحلم به الذين أيدوه ودعموه داخلياً وخارجياً، فكثيرون من هؤلاء كان يرى في السيسي "رجل الدولة القوي"، الذي سوف يعيد الهيبة والمكانة لمصر. وبعد فترة اكتشفوا أن الرجل لا يستطيع حتى أن يحفظ هيبته وقيمته أمام الناس. ودعك من وصلات النفاق والإطراء التي يروجها المنتفعون من نظامه، فهؤلاء يهزأون به في مجالسهم الخاصة، ويعبرون عن تقزّزهم من سوقية خطبه وكلماته وطريقته في الحديث.
أما حلفاؤه الإقليميون فقد أصابهم الملل والضجر من كثرة السخرية التي ينالها الرجل كلما تحدّث، إلى الدرجة التي نصحوه فيها، من خلال وسطاء، أن يتوقف عن الارتجال، وأن يلتزم بنصوص الخطب التي تُجهَّز له، مثلما كان يفعل مبارك، وهو ما أغضب الجنرال الذي يرى نفسه "طبيب الفلاسفة"، و"حكيم الكلمة"، وأن أحداً لا يجب أن يردّه.
وللحق، ليس مستوى خطاب السيسي وطريقة كلامه استثناء، فمن الواضح أن ثمّة مشكلة حقيقية لدى قيادات عسكرية أخرى تخرج للإعلام وتتحدّث بطريقةٍ لافتةٍ للنظر، وتعبر عن سطحية عقلية وفكرية شديدة، مما يثير الشكوك حول التنشئة الفكرية والسياسية لهؤلاء، ومن أين يستقون معلوماتهم وأفكارهم. ولدينا الآن مجموعة كبيرة من "الخبراء" العسكريين المتقاعدين الذين يتحدثون في الإعلام بطريقةٍ لا تختلف كثيراً عن طريقة السيسي. ولو كانوا مكانه، حيث السلطة والقوة، لربما تحدثوا بطريقة الهذيان والسطحية نفسها التي يتحدّث بها الجنرال.
ويبدو أن السيسي قد دخل في منافسةٍ مع برامج الترفيه والسخرية التي تعرضها بعض القنوات، وأصبحت كلماته توفر مادة غزيرة لأبطال "الكوميكس" الذين يملأون الفضاء الإلكتروني، بتعليقاتهم اللاذعة حوله، والتي لا يبدو أنه يلتفت إليها، أو يأخذها على محمل الجد، فحديث الرجل عن "الفكة" وعن "بيع نفسه من أجل مصر" وأخيراً عن "الثلاجة" وضع مقدمي برامج السخرية في ورطةٍ، فالرجل قام بمهمتهم على أفضل وجه، من دون الحاجة لتغيير ما يقوله أو تحويره.
ربما يضحك بعضهم من خطاب السيسي، لكن الحقيقة أن الأمر ليس فكاهياً، وإنما يدعو إلى الأسى على الصورة التي باتت تحملها مصر خارجياً، والتي لن يكون من السهل تحسينها، والتخلص من آثار الضرر الذي ألحقه بها هذ الرجل، وهي الصورة التي تزداد سوءاً كلما بقي في السلطة.
------------
العربي الجديد
في 28 أكتوبر 2016
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق