الخميس، 25 أغسطس 2016

إغراق مصر بالقروض لذبحها بالإفلاس بقلم عامر عبد المنعم

إغراق مصر بالقروض لذبحها بالإفلاس ...

بقلم عامر عبد المنعم


وسط حالة التخبط في إدارة الاقتصاد المصري لجأت الحكومة في العامين الأخيرين إلى سياسة الاقتراض، وفتحت الباب أمام غزو جديد سيصل لا محالة إلى إعلان الإفلاس، ووضع البلد تحت الرقابة الدولية، على نحو مشابه لما جرى مع الخديوي إسماعيل. ومن جهتها، تتساهل الدول الكبرى في تقديم القروض وتتنافس لتتقاسم الحصص في صندوق الدين الذي سيشكله الدائنون لمصادرة ما بقي من مقدرات ومرافق وفاء للمليارات التي يدفعونها.

الغريب أن المسئولين المصريين يتحدثون في الآونة الأخيرة عن إعلان إفلاس الدولة المصرية وكأنه حل سحري لحالة التدهور الاقتصادي الذي تعيشه البلاد، وكأنهم يمهدون للاقتراب من نقطة الصفر التي يعلنون فيها القرار ويهيئون الرأي العام لتقبله، وهذا نوع من الخداع الذي يؤكد دورهم في مساندة المخطط الخارجي لتركيع مصر؛ إذ أن إشهار إفلاس الدولة يعني تسليم البلد للوصاية الدولية، وتمكين الدول الدائنة من حكم مصر والنهب بإرادة دولية، وتكرار تجربة القروض التي انتهت بالاحتلال الانجليزي الذي نعاني منه حتى هذه اللحظة.

إشهار إفلاس مصر كان هدفا استعماريا، ولخطورته نشأت الحركة الوطنية في أواخر عهد إسماعيل لمنع حدوثه، وكان بداية الحراك الوطني ضد التدخل الأجنبي، وكان أهم مطالب قادة الشعب المصري عدم الاعتراف بتقرير لجنة التحقيق الأوربية التي يقودها الانجليز والفرنسيين الذي أوصى بإعلان إفلاس مصر، وانضم الخديوي إسماعيل لزعماء الحركة الوطنية، وأيد مطالبهم في إقالة الحكومة المختلطة التي يديرها وزيران أجنبيان يمثلان الدائنين.

بعد أن سلبه الأجانب كل شيء انضم إسماعيل مضطرا للحركة الوطنية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وتشكيل وزارة وطنية بدون وزراء أوربيين تكون مسئولة أمام مجلس نواب جديد تدخل الإنجليز والفرنسيين وعزلوه، وأتوا بابنه توفيق الموالي لهم لحكم مصر، لقطع الطريق على حركة الشعب المصري؛ لكن واصل المصريون نضالهم وظهرت الحركة العرابية التي أطاحت بالحكومة الموالية للاحتلال وأجبرت توفيق على انتخاب المجلس النيابي؛ إلا أن الإنجليز كانوا قد قرروا احتلال البلاد بشكل مباشر بعد أن تغلغلوا في كل مفاصل الدولة عام 1882، فجاء الجيش الإنجليزي وهزم الجيش المصري وأخمد الثورة العرابية بالقوة المسلحة.

وما أشبه الليلة بالبارحة، فالحكم في مصر المدعوم غربيا غير مستقر وليس له مستقبل، وهذا ما يجعل الدول الغربية تستخدم كل الأوراق للسيطرة والتحكم في عجلة التغيير السياسي لعدم حدوث أي تغير غير محسوب ولمنع ظهور نظام حكم وطني يعيد إحياء الحلم المصري.
ولأن التاريخ يعيد نفسه فمن المهم الرجوع إلى كارثة إغراق مصر بالقروض، وهي مدونة بكل تفاصيلها في كتب التاريخ، أهمها ما كتبه المؤرخ المصري عبد الرحمن الرافعي في كتابيه "عصر إسماعيل" و"الثورة العرابية والاحتلال الانجليزي"، ولا أضيف جديدا عندما أقول إن قراءة التاريخ مهمة لأنها تفيد في فهم الواقع، فالتجارب متكررة، والمكر المعادي كما هو، والأطماع القديمة في مصر وأمتنا ما زالت هي التي تحرك دول الغرب.

صندوق الدين
أغرقت الدول الأوربية مصر بالديون وقدمت للخديوي القروض لينفقها في حياة البذخ وبناء القصور، وتسابقت البنوك الأجنبية وبيوت المال، وفي مقدمتها عائلة روتشيلد لتقديم الملايين للوصول إلى النقطة التي يعجز فيها الحكم المصري عن السداد.
كان إسماعيل يأخذ القروض تلو القروض دون حاجة إليها، ومن غير أن يفكر في طريقة إيفائها أو إيفاء فوائدها، حتى ابتلعت هذه الفوائد معظم موارد الميزانية، ثم عجز عن الوفاء ووقعت الحكومة في الإعسار، فوقعت مصر كالفريسة وسط الدائنين.


وبناء على مطالب الدول الدائنة تم تأسيس صندوق الدين في 2 مايو/أيار 1876 كأول هيئة أوربية تسطو على إيرادات الحكومة المصرية لصالح الدائنين، وتقرر أن تصب إيرادات الدولة في الصندوق مباشرة دون المرور على وزارة المالية، وخصص المرسوم لصالح الصندوق إيرادات مديريات الغربية والمنوفية والبحيرة وأسيوط وعوايد الدخل في القاهرة والإسكندرية، وحصيلة جمارك الإسكندرية والسويس وبورسعيد ورشيد ودمياط والعريش وتم ضم إيراد السكك الحديدية ورسوم الدخان وضريبة الملح ومصايد المطرية ورسوم الكباري وعوائد الملاحة في النيل وإيراد كوبري قصر النيل وإيراد الدائرة السنية أي ان الصندوق استولى على معظم موارد الخزانة المصرية.


الرقابة الثنائية
لم تكتف انجلترا وفرنسا بصندوق الدين فهدفهما كان السيطرة على مجمل النظام المالي، فأجبرتا الخديوي على فرض الرقابة الثنائية على المالية المصرية وأن يتولاها رقيبان بوظيفة مفتشين عموميين أحدهما إنجليزي والآخر فرنسي، وبمقتضى المرسوم الصادر في 18 نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1876، تم تعيين المستر رومين مراقبا إنجليزيا على الإيرادات والبارون دي مالاريه مراقبا فرنسيا على المصروفات، ولما تألفت وزارة نوبار باشا الأولى في 28 أغسطس/آب 1878 وفيها وزيران أوربيان وقف العمل مؤقتا بنظام الرقابة الثنائية اكتفاء بالوزيرين الأوربيين.


لجنة التحقيق الأوربية
ولإحكام السيطرة وتوسيع نطاق الرقابة الأوربية اتفق الرقيبان وأعضاء صندوق الدين على تشكيل لجنة تحقيق أوربية لفحص شؤون الحكومة المالية، ولبحث موضوع العجز في أبواب الإيرادات وأسبابه، وأوجه النقص في القوانين واللوائح الخاصة بالضرائب ووسائل إصلاحها، وتحقيق موارد الميزانية، وأعطاهم المرسوم الذي صدر في 27 يناير/كانون الثاني 1878 الحق في الاتصال بجميع المصالح والدواوين وسماع من ترى لسماعه لجمع البيانات التي تطلبها. وصدر مرسوم آخر في 30 مارس/آذار 1878 بتعميم اختصاص اللجنة وجعله شاملا حالة الحكومة المالية بجميع عناصرها.


الوزارة المختلطة
طلبت لجنة التحقيق الأوربية تغيير نظام الرقابة الثنائية بتشكيل وزارة مختلطة بداخلها وزيران أوربيان أحدهما إنجليزي للمالية، والثاني فرنسي لوزارة الأشغال العامة، وتم تعيين السير ريفرس ويلسن رئيس لجنة التحقيق الإنجليزي وزيرا للمالية والمسيو دي بلينيير العضو الفرنسي بصندوق الدين وبلجنة التحقيق وزيرا للأشغال، وطلب الإنجليز تعيين نوبار باشا الصديق المقرب للأوربيين رئيسا للوزارة.
أول ما فعلته هذه الوزارة الأوربية هو الاقتراض من روتشلد 8.5 ملايين من الجنيهات، لتسديد أقساط أخرى، ورهنت في مقابله أراضي من أملاك الأسرة الخديوية، وبدأت في زيادة الضرائب وتوسيع حملة الجباية، وكان الوزيران الأجنبيان هما اللذان يسيران الحكومة، وعينوا موظفين أجانب في كل الوزارات وطردوا الموظفين المصريين.
تمادى الوزيران الأجنبيان في طغيانهما، وكانت الخطوة التي دفعت الوزارة المختلطة ثمنها عندما بدؤوا في تخفيض عدد الجيش حيث قررت الوزارة تسريح 2500 من الضباط بزعم ضغط النفقات، فقام الضباط بثورة على نوبار باشا فتمت إقالته لامتصاص الغضب، ووجدها إسماعيل فرصة لتعيين ابنه توفيق رئيسا للوزارة ، فوافق الإنجليز والفرنسيون على القرار بشرط منح الوزيرين الأوربيين حق الفيتو داخل الوزارة.
إعلان الإفلاس
سعت لجنة التحقيق الأوربية للخطوة الأخيرة والأهم، لفرض السيطرة الكاملة سياسيا واقتصاديا، وهي الإعلان رسميا عن إفلاس مصر، لوضع الدولة المصرية تحت الرقابة الأوربية الكاملة، ولكن شاء الله أن يكون هذا التوجه هو الشرارة التي أشعلت الحركة الوطنية وتسببت في تحرك طيف واسع من قادة الرأي والنخبة المصرية للوقوف ضد إشهار الإفلاس والتصدي للجنة التحقيق الأوربية.

تداعى قادة الرأي من النواب والعلماء والتجار وأكثروا من الاجتماعات، يتشاورون في إنقاذ البلاد من الهاوية التي تردت فيها، واجتمع الأحرار في دار السيد البكري نقيب الأشراف، ثم في منزل إسماعيل راغب باشا وزير المالية السابق ورئيس مجلس شورى النواب في أول نشأته وعقدوا بداره جمعية وطنية تضم صفوة كبراء البلاد وأصحاب الرأي فيها، واتفقوا على ما أسموها "اللائحة الوطنية" وخلاصتها أن البلاد ليست في حالة إفلاس وأنها تستطيع القيام بتعهداتها المالية، وطالبوا بوزارة وطنية مسئولة أمام مجلس نيابي ينتخب على نظام جديد.

وقع على هذه اللائحة الوطنية أعضاء مجلس شورى النواب الذي تم تجميده من الوزارة المختلطة، وستون من العلماء والهيئات الدينية و42 من الأعيان والتجار و72 من الموظفين العاملين والمتقاعدين و93 من الضباط.
استدعى الخديوي ممثلي الدول الأوربية في حضور الشيخ البكري وممثلي الحركة الوطنية وعرض على القناصل ملخص اللائحة الوطنية، ولكن الوزيرين الأوربيين رفضا اللائحة الوطنية وأرسلا الاحتجاج للخديوي؛ ولكن إسماعيل قد قرر السير في طريق المواجهة للنهاية وأعلن في ذات اليوم بالاتفاق مع زعماء الشعب، تكليف شريف باشا لتشكيل الوزارة بدون الوزيرين الأوربيين، والبدء في انتخاب مجلس النواب.

وسط هذه التطورات أتمت لجنة التحقيق الأوربية تقريرها الثاني وأعلنت فيه أن مصر في حالة إفلاس، وأنه يجب معالجة حالتها المالية على هذا الأساس، لكن التقرير لم يقدم إلى الوزارة لاستقالتها واشتغال شريف باشا بتأليف الوزارة الجديدة فقدم أعضاء لجنة التحقيق استقالة جماعية احتجاجا على تأليف الوزارة الوطنية قائلين في احتجاجهم إن الإصلاحات المالية لا ينتظر إنفاذها إلا على يد وزارة يتمثل فيها العنصر الأوربي!

واصل إسماعيل مساندة الحركة الوطنية حتى انتخبوا مجلس النواب الجديد وبدأ الأعضاء يناقشون الدستور وهنا تحركت انجلترا وفرنسا وعزلت الخديوي من خلال فرمان من السلطنة العثمانية التي كانت هي الأخرى خاضعة لنفوذ الدول الأوربية فتم تولية توفيق الذي أصبح لعبة في يد الأجانب فتواصلت الحركة الوطنية بقيادة عرابي ولكن ضعف الجيش ووقوف الخديوي الجدي ضد عرابي أجهض الثورة العرابية.

بمقارنة بين ما حدث مع إسماعيل وما يجري الآن نجد عناصر التشابه كثيرة، أهمها النزعة الفردية وغياب المؤسسات؛ وتوجه الحكم الحالي القائم على تبديد الأرصدة، وبيع كل شيء، كما أن القائمين على الاقتصاد المصري حاليا معظمهم من الموظفين السابقين في المؤسسات الدولية، ومن المرتبطين بعلاقات وظيفية بالاستثمار الأجنبي، أي أنهم يمثلون إرادات خارجية، يعملون لتنفيذ برامج لصالح الخارج محورها تفكيك القدرة الاقتصادية للدولة بما يعرف بالخصخصة وبيع الأصول ثم بفتح الأبواب أمام الاقتراض من الخارج، وهؤلاء الموظفون يقومون بالدور الذي كان يقوم به مستشارو الخديوي من الأجانب.

المكر المعادي يعمل بكل قوة للوصول إلى "إعلان إفلاس مصر" لتسليم البلد للدول الدائنة ووضعها تحت الرقابة الأجنبية لمنع خروجها من القبضة الغربية واستعادة قوتها؛ فمصر ليست كأي دولة، إنها قائدة أمتها رغم القيود التي تكبلها، وإن تحررت تحررت الأمة وتغير شكل العالم، لهذا فإن التدمير الاقتصادي لمصر، الذي يجري الآن، أخطر من التدمير السياسي، فلا يمكن لأمة أن تتحرر سياسيا وهي محتلة اقتصاديا.
---------
نقلا عن الجزيرة مباشر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق