يناير من جديد: ملحمة ثورية
بقلم: د. سيف الدين عبد الفتاح
ستظل
ثورة يناير ملهمة للشعب المصري في أيامه وربما أعوامه المقبلة، إذ تؤكد
أنها ثورة جديرة بأن تحقق كامل أهدافها، وتحافظ على كل مكتسباتها، وتنجز كل
المهام التي تتعلق بشعاراتها؛ هذه الثورة التي تشكل "ملحمة كبرى" لم تنتهِ
فصولها، بل هي في أسوأ كابوس، وفي أدق مراحلها، منذ الانقلاب العسكري الذي
خرج من رحم الدولة العميقة القميئة، وشكل ثورة مضادة، تمكّن لشبكات الفساد
ومؤسسات الاستبداد، ومن ثم تعد هذه الآمال والأشواق التي وُلدت مع هذه
الثورة محل تقدير من كل من آمن بها، على اختلاف أفكارهم وتنوع قواهم وتعدد
كياناتهم. إنهم، في معظمهم، يتنادون، الآن، إلى اصطفاف كبير، بوحدة الخطر
والهدف والمصير، باعتباره أداة أساسية في استئناف مسيرة الثورة الحقيقية.
في يوم
الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني في العام 2015 كانت الفاعليات التي
قدمت نموذجاً مهماً حركت كل عناصر الغضب التي تفجرت، على الرغم من محاولة
إعلام الانقلاب، بإفكه المعتاد، أن يمارس كل أنواع أكاذيبه، تارة بالتغافل
والتجاهل، وتارة أخرى محمّلاً "الإخوان المسلمين" و"التحالف الوطني من أجل
الشرعية" مسؤولية هذه الاحتجاجات التي يضعها، دائماً، في دائرة التجريم
والتخريب.
يقدم
هذا التبرير، المرة تلو المرة، في محاولة التغطية على فشل الأجهزة الأمنية
في مواجهة تلك الاحتجاجات الشعبية، بحيث تعبّر جغرافيا الاحتجاج عن امتداد
غير مسبوق، تتقاطع معه مساحات الغضب على تلك السياسات الغاشمة التي تتعلق
بالفقراء، وأدت إلى مزيد من الغلاء وزيادة الأعباء، ورفع الدعم، في سياسات
مستمرة للإعدام البطيء لجموع الشعب من فقراء وبسطاء.
ماذا
إذن يمثل هذا اليوم الفريد بالنسبة لثورة يناير، بعد مرور أربع سنوات على
هذه الثورة المباركة، والتي تعاقبت عليها أحداثٌ، أدت إلى إشكالات كبيرة،
طرحت نفسها على الرفقاء الذين تحولوا إلى فرقاء، جراء صناعة الفرقة والفوضى
بشكل ممنهج. حاول أصحاب المصلحة في الثورة المضادة أن يجعلوا من كراهية
الثورة، وما ترتب عليها عند عموم الناس، هدفاً في محاولة لفك ارتباطهم،
وبما شكلوه من حاضنة شعبية حقيقية، منذ جمعة الغضب في الثامن والعشرين من
يناير في العام 2011. ومن ناحية أخرى، قرر هؤلاء الانقلابيون أن يقسموا
الشعب الواحد إلى شعوب متعددة، في إطار صناعة الكراهية التي امتدت جذورها
إلى صلب الجماعة الوطنية، بما تشكل من وشائج شبكة علائقها الاجتماعية، وبما
يحقق لحمتها وتماسكها.
إلا أن
الانقلاب، وقد رأى أن سياسته، والتي تمكن له، والقائمة على قاعدة "فرّق
تَسُدْ"، جعلت من سياسة الكراهية سياسة مرعية من جانبه، فرّقت من خلالها
المجتمعين، وزرعت في علاقتهم من الشك والتشكيك وعدم الثقة والتخوين، لتوطن
بذلك أمراضاً نفسية جماعية، يحاول من خلالها أن يبرر استبداده وبطشه، بما
يشكل كل ذلك من استراتيجية يحقق بها مصالحه الدنيئة والأنانية، وأقر هذه
السياسات وجعل لها من الأدوات ما يؤدي إلى فرقة مستحكمة، جعلت هؤلاء
يتشاتمون، ويتهمون بعضهم ويتشرذمون، حتى تضمن سلطة الانقلاب تفرقهم، بما
يمكن لسلطانهم وسياساتهم الانقلابية.
حددت
تلك السنوات الأربع في حصادها، والتي انتهت إلى هذا المشهد الانقلابي،
وبشدة، وبصورة واضحة، طبيعة المعركة المقبلة وعمقها، وهي التي جعلت من
ترجمة شعار أساس "الشعب يريد إسقاط النظام"؛ ليس بأي حال، ولن يكون، في
المستقبل، بعزل رأس السلطة أو تنحيه، لأن من يحكم إنما يمثل، في حقيقة
الأمر، مجموعة من المؤسسات والتحالفات ترتبط بأهل السلطة وأهل المال
والأعمال، وكل المستفيدين من ذلك النظام، شاركوا في الكعكة، أو انتظروا بعض
فُتاتِها، هؤلاء جميعاً إنما يشكلون، في حقيقة المعركة، الدولة العميقة
القميئة، وحقيقة الثورة المضادة التي عادت إلى مقاعدها، وربما لم تبرحها،
هؤلاء جميعاً يعدون خصوماً لهذه الثورة الحقيقية التي زلزلت هذه المصالح،
وأرادت أن تغيّر من عناصر هذه المعادلة القبيحة تغييراً جذرياً يتوافق مع
أهداف الثورة ومكتسباتها.
ويعني
هذا، اليوم، ضمن ما يعني، أن هؤلاء في واقع اصطفافهم الجديد، وبما يمثلون
من طاقات ثورية حشدية ورمزية، تتكامل فيها الصفوف، وتتكاتف فيها النفوس،
وتتشارك فيها القوى، لتعبّر بذلك عن إرهاصات تمكين لمشروع مستقبلي، تحمله
هذه القوى في تصورها لمرحلة مستقبلية قادمة، تكون فيها كل تلك القوى ممثلة
بفاعلية، وبمشاركة حقيقية، لا يمكن أن تقوم على النفي والاستبعاد، بل تؤسس
على التوافق، في سياق يتعرف أن من قواعد الاختلاف والتعدد أن تتم إدارتهما
على نحو يحقق التماسك، ويطرد كل أشكال التنازع، ويجعل من اختلاف المسالك
راحة لكل سالك لهذا المسلك الثوري، والتغيير الجذري المترجِم بحق لشعار
الثورة الحقيقي "عيش كريم وحرية أساسية وكرامة إنسانية وعدالة اجتماعية".
هذا
اليوم شاهد على اصطفاف حقيقي، جعل منه ليس مجرد "قيمة أو عملية أو حالة"
فحسب، بل جعله "ضرورة حقيقية"، تمكن ذلك التكاتف والتكامل، بحيث تستند إلى
حاجة الجميع ما يمكن تسميته بـ"الونس الثوري" الذي يتحقق فيه التأمين
والتحصين لكل قوى الاصطفاف وتراكم القدرات والطاقات المضافة التي تنجز مهمة
المقاومة الحقيقية لمنظومة الاستبداد وشبكات الفساد وتحالفات المصالح، بما
تمثله من دولة عميقة قميئة، وثورة مضادة لثورة 25 يناير المجيدة.
ومن هنا
فإن خطاب الادعاء الذي أطلقه "المنقلب الرئيس" بمناسبة "ثورة يناير" من
أنه لا يريد إلا تحقيق أهدافها وأنه المحافظ على مكاسبها وأنه يحتاج مزيداً
من الوقت لتحقيقها وتمكينها، ليس إلا غطاءً حربائياً متلوناً من
"الانقلاب" حينما يلبس لبوس الثورة ويتدثر بها في محاولة للغواية والتضليل
التي تسانده فيها أذرعه الإعلامية والفنية والثقافية، وهي عملية يدعي فيها
"اللص" أنه فقط يغتصب ما يغتصب حتى يجعله في أمانته، فمنذ متى كان الغادر
أميناً، والمُغتصِب مؤتمناً، والمُنقلِب ثائراً، والمُروِّع مُؤمِناً
وحامياً؟
إن لعبة
التضليل التي تُمارس لم تعد تخيل على أهل الثورة من الثوار والأحرار، إنهم
الآن يمتلكون من الوعي الثوري ويحملون إرهاصات مشروع مستقبلي ويعرفون
لمعركة قائمة وقادمة مقامها وعدتها، وإنهم من الآن فصاعداً يصطفون ويثورون
وإلى "يناير من جديد" يعودون.
نقلا عن "العربي الجديد"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق