لماذا يجهضون الربيع؟؟.. صفحة من كتاب التاريخ
بقلم: محمد جعفر
يجتهد
الباحثون في محاولةٍ لفهم وتفسير أسباب العون الغربي الكبير الذي يقدم
للثورات المضادة لمواجهة الديمقراطيات الوليدة في دول الربيع العربي ووأد
حلم شعوبها في العيش بحرية وكرامة في ظل نظام ديمقراطي تعددي لا يغفل هوية
الأمة ويحترم خصوصياتها, ولا شك أن الدعم والإسناد والأموال الطائلة التي
رُصِدت للثورات المضادة كانت كفيلة بالنهوض بتلك الدول لو أنها وجهت
للتنمية والتطوير.
وفي
إطار البحث لا يمكن إغفال البعد التاريخي والفلسفي للغرب الاستعماري, وهما
بعدان حاكمان في التعامل مع الشرق الإسلامي, فبقاء أمة ضخمة كأمتنا في هذه
الحالة المذرية قطعا يصب في مصلحة الدول الكبرى التي تسلطت على مقدراتنا
تنهبها دون رقيب أو حسيب.
وقد اعتمد الغرب على تنظير فلسفي بدأه أرسطو الذي أسس لنظرية عرقية يربط فيها الاستبداد بالشرق, مستخدما مصطلح: الاستبداد الشرقي (Oriental Despotism) الأمر الذي أضحي طائفيا فيما بعد عندما طور فلاسفة أمثال مونتسكيو هذا المصطلح ليصبح "الاستبداد الإسلامي Islamic Despotism", يقول مونتسكيو: "إن الحكومة المعتدلة هي أصلح ما يكون للعالم المسيحي والحكومة المستبدة هي أصلح ما يكون للعالم الإسلامي"!
ويبدو
أن هذه النظريات الغربية أصبحت فيما بعد قواعد حاكمة في تعامل الغرب مع
العالم الإسلامي, بل شغل الفلاسفة الغربيون بتفسير تلك الظاهرة التي
توهموها, وتعاملوا معها على أنها حقيقة. فذهب بعضهم إلى أن الشرقيين وفي
القلب منهم مواطنو العالم الإسلامي ذوو طبيعة (سادومازوخية) محبة للقهر،
تستعذب ألم الطغاة وتحب حكم المستبدين.
إن
الدلائل تشير إلى أن الخط الفكري الغربي يؤمن بهذه النظريات ويطبقها. وكم
هي المرات التي تدخل فيها الغرب لمنع محاولات جادة لتحرر الشرق من نير
العبودية والاستبداد إلى الحرية والديمقراطية. إنهم عمليا يقصرون مفهوم
الديمقراطية وتطبيقاتها المختلفة علي الغرب كمنتج محلي لا يجوز تعديته إلى
الدول الإسلامية.
إن
عرقلة الغرب للربيع العربي ليست هي الحادثة الأولى في التاريخ، بل هي
واحدة من أصرخ تجليات التدخل الغربي لبقاء البُأس والفقر والتخلف والمرض
واليأس والإحباط ملازما للشرق، ودليل آخر يضاف إلى قائمة طويلة من الأدلة
المتراكمة على النفاق الغربي والانفصام الأخلاقي إذا تعلق الحق بالأمة
المسلمة.
ولعلي
أزيدك من الشعر بيتا حين أسرد لك صفحة واحدة من التاريخ، لترى كيف واجه
الغرب إقامة نظام برلماني في مصر في الربع الأخير من القرن قبل الفائت،
حينما رأت إنجلترا وفرنسا أن تشكيل مجلس النواب يمثل خطورة على مصالحهما؛
لأن قيام مجلس نظام برلماني سوف يجعل من التدخل الأوروبي أمراً صعباً، على
حين أن نظام الحكم المطلق يسهل أمور التدخل.
وعلى
هذا أرسلت الدولتان مذكرة مشتركة في 7 يناير 1882م توحي كلماتها بالاستياء
من قيام نظام برلماني في مصر، وتذكر صراحة أن هذه الأحداث توجب التدخل
لحماية العرش الخديوي. وبالطبع رفض شريف باشا المذكرة واحتج لدى القنصلين
الإنجليزي والفرنسي على المذكرة.
ولما
لم تتمكن الدولتان من إلغاء مجلس النواب، طلبتا ألا تتضمن لائحة المجلس
مناقشة الميزانية وإقرارها، لأنها أمور تتعلق بالديون. وتحرج موقف شريف
باشا، وعرض على النواب تأجيل النظر في الميزانية حتى يفوت الفرصة على تدخل
الدولتين، غير أن العرابيين تشبثوا بحق المجلس في إقرار الميزانية باعتبار
أن ذلك حق من حقوق الأمة الممثلة في المجلس المنتخب.
وأمام
إصرار الطرفين علي موقفيهما من مناقشة الميزانية، استقال شريف باشا وتألفت
وزارة برئاسة البارودي الذي عين أحمد عرابي وزيراً للحربية.
وبادرت
الوزارة بإعلان الدستور في 7 فبراير 1882م وإقرار حق المجلس في مناقشة
الميزانية، وهنا احتج الرقيبان الفرنسي والإنجليزي وطالبا قنصليهما بالتصرف.
شعر القنصلان أن الحالة تنذر بخلع الخديوي توفيق، ونسب إلى العرابيين أنهم كانوا يسعون إلى خلع توفيق وتعيين الأمير حليم بدلاً منه.
فقامت إنجلترا وفرنسا بإرسال قطع بحرية إلى الشواطئ المصرية في 19 مايو 1882م بحجة حماية الرعايا الأجانب إذا ما تعرضوا للخطر بسبب الأزمة القائمة.
وأرسلت
الدولتان مذكرة تطلبان فيها استقالة البارودي وخروج أحمد عرابي من مصر.
فرفضها البارودي وأقسم مع العرابيين يمين الدفاع عن البلاد والولاء للثورة.
فما كان من الخديوي توفيق إلا أن قبل المذكرة، فاستقال البارودي احتجاجاً.
وقام توفيق بتشكيل وزارة برئاسته.
وبدأت
إنجلترا تتحين الفرصة لدخول مصر، وجاءت الفرصة يوم 11 يونيو 1882م في شجار
ملفق قام بين رجل مالطي من الرعايا الأجانب ومكاري (عربجي( مصري
على الأجرة، فقام المالطي بطعن المصري طعنة قاتلة، فتطور الأمر إلى معارك
متبادلة بين الأجانب والمصريين. وقام الأجانب بالتجمع في أماكن واحدة
والتحصن بها.
وقامت
إنجلترا بضرب مدينة الإسكندرية في 11 يوليو 1882م بحجة أن مصر تقوم بتحصين
الإسكندرية، وتعتزم غلق الميناء وحصار البوارج الإنجليزية الراسية فيه.
نزلت
القوات البريطانية الإسكندرية وحاصرت قصر الخديوي لحمايته، وأعلنت الأحكام
العرفية، وربط الخديوي مصيره بانتصار الإنجليز، وانسحب عرابي مع وحدات
الجيش إلى كفر الدوار لإقامة خط دفاع ثاني.
طلب
الخديوي من أحمد عرابي الكف عن الاستعدادات الحربية والحضور إلى قصر التين
في الإسكندرية، ولكن أحمد عرابي رفض واتهم الخديوي توفيق بالخيانة العظمي.
وتم تشكيل مجلس عرفي لإدارة شئون البلاد بعيداً عن الخديوي.
وفي
تلك الأثناء دخل الإنجليز من قناة السويس، وزحف أحمد عرابي لمقابلتهم في
الشرقية وتقابل الجيشان في معركة التل الكبير، وانهزم الجيش المصري وأصبح
الطريق مفتوحاً أمام الجيش الإنجليزي إلى القاهرة ودخلها في 14 سبتمبر
1882م.
ما أشبه الليلة بالبارحة..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق