وائل قنديل :
عن فرحة الأهبل بالقناة
وائل قنديل
..والأهبل أعلاه ليس شخصاً بعينه، وإنما تلك الحالة من "الهبل المبتذل" في التعامل مع افتتاح ما تسمى "قناة السويس الجديدة" في مصر، والتي تبدو للمتابع كمشروع إعلامي، إعلاني، ديماغوجي، يريد صانعوه الاحتفاظ بها بعيداً عن متناول العقل والنقاش العلمي والموضوعي.
الصورة لا تختلف في تفاصيلها كثيرا عما جرى مع ذلك "المؤتمر الاقتصادي" الذي انعقد في شرم الشيخ قبل شهور، وقيل وقتها على لسان عبد الفتاح السيسي و"بني غوبلز" المحيطين به إنه "العبور الجديد"، وإن "مصر تستيقظ أو تستيكز"، وأن السماء ستمطر رخاء، والأرض تتفجر سخاء، ثم تبين بعد كل تلك "البروباغندا" الزاعقة أن المنجز الوحيد للمؤتمر كان صورة "سيلفي" للسيسي مع مجموعة من الفتيات والشبان، من بقايا ماكينة "الفكر الجديد" لصاحبها ومشغلها جمال مبارك، ليصحو المصريون كل صباح على سقوط أكذوبة جديدة من مجرة الأكاذيب والوعود المعلنة في المؤتمر.
لا يوجد أحد لا يتمنى للشعب المصري الرخاء والسخاء والازدهار، حتى وإن جاء على يد مجموعة من السفاحين، قتلوا مواطنا مقابل كل طن من الرمال في حفر القناة الجديدة، غير أن "الزفة" المصاحبة لافتتاح المشروع الجديد تقول إن هؤلاء لا يهمهم من الأمر شيء، سوى إعطاء شعبهم جرعات إضافية من الأوهام، داخل عبوات أنيقة من الدجل السياسي والشعوذة الاقتصادية.
قالوا إن قناتهم الجديدة سوف توفر مائة مليار دولار سنويا للدخل القومي، حسنا: دعنا نصدق ما يقولون ، وبالتالي هذا يعني أن نصيب كل مواطن من التسعين مليون إنسان في مصر يجب أن يكون أكثر من 1100 دولار سنويا. وعلى ذلك حري بالمواطن الفرحان رغم أنفه أن يتذكر تصريحات رئيس هيئة القناة، وزعيمه، جيداً، ويحاسب على هذه الوعود فيما بعد، علما أن تقارير منشورة في صحافتهم تقول إن عوائد القناة بعد افتتاح المشروع لن تزيد عن عوائدها فيما سبق بأكثر من سبعين مليونا من الدولارات، بواقع أقل من دولار سنويا لكل مواطن. ومع الوضع في الاعتبار أن جنرال الأوهام شخصيا اعترف للشعب بأن مشروعاته غير ذات جدوى ربحية، لذا عليهم أن يقتطعوا من أرزاقهم، ويعطوه كي ينفذ مشروعات جديدة، يرقص في افتتاحها الراقصون، ويغني المطربون.
وعلى ذكر ابتذال الفرح، تنقل صحافة عبد الفتاح السيسي، أمس، أنه في اللحظة التي كانت فيها مطربة كليب "سيب إيدي" تمثل أمام المحكمة بتهمة التحريض على الفسق والفجور، كان الإعلان عن أن مخرج "الكليب الفاجر" مساهم في إبداع أغنية حفل افتتاح قناة السويس الجديدة.
ولا يقل ابتذالاً وامتهاناً للعقل أن يعلن رئيس هيئة القناة أنه سيتم العمل في حفر "قناة السويس الثالثة"، فور الانتهاء من افتتاح الثانية، على نحو يجعل حفر القنوات المائية عملية أسهل كثيرا من فتح قنوات فضائية على القمر الاصطناعي "نايل سات"، حتى يخال المرء أنه لن يمر وقت طويل حتى تعلن القاهرة عن خطة لتصدير "قنوات سويس" بأحجام ومقاسات مختلفة إلى الخارج.
هذا الإصرار على الابتذال يعطي تصورا بأن الشعار المرفوع في دولة السيسي، الآن، هو "كل ما تتزتق احفر قناة"، وهو الأمر الذي يخشى معه، إن مضت الأمور بهذه الوتيرة ألا يبقى في مصر "يابس" وتتحول كلها، بكامل مساحتها إلى دولة مائية، لا تزرع ولا تصنع، وإنما تصير مجرد "كشك" عائم لتحصيل رسوم العبور.
في خلفية الصورة، يعلنون أن طائرات أسطول "مصر للطيران" بدأت تتحلى بشعار القناة الجديدة في كل رحلاتها، وأن موانئ العالم تتأهب لإطلاق صافرات الاحتفال، ولسان حالهم يقول "لا صوت يعلو فوق صوت الكراكات"، فيما ينطلق عداد حالات الاختطاف والاختفاء القسري والقتل تعذيبا داخل السجون والمعتقلات، بأسرع من معدلات الحفر المعلنة في مشروع القناة. والخلاصة أن المشروع القومي للتطهير العرقي والعنصرية المجتمعية يمضي أسرع من تلك المشروعات الاقتصادية الوهمية، ومن ثم لا يمكن لعاقل أن يتحدث عن تنمية حقيقية، إذا كانت تقوم من أجل هدف واحد، هو التغطية على عمليات إبادة الكائنات البشرية المعارضة للنظام.
هي تنمية من أجل إنعاش استبداد النظام وإجرامه، لا الارتقاء بحياة البشر، ومادام العدل غائبا، لن تفلح أبدا تنميتهم الدموية، حتى لو حفروا مائة قناة.
----------------
العربي الجديد
27 يوليو 2015
عن فرحة الأهبل بالقناة
وائل قنديل
..والأهبل أعلاه ليس شخصاً بعينه، وإنما تلك الحالة من "الهبل المبتذل" في التعامل مع افتتاح ما تسمى "قناة السويس الجديدة" في مصر، والتي تبدو للمتابع كمشروع إعلامي، إعلاني، ديماغوجي، يريد صانعوه الاحتفاظ بها بعيداً عن متناول العقل والنقاش العلمي والموضوعي.
الصورة لا تختلف في تفاصيلها كثيرا عما جرى مع ذلك "المؤتمر الاقتصادي" الذي انعقد في شرم الشيخ قبل شهور، وقيل وقتها على لسان عبد الفتاح السيسي و"بني غوبلز" المحيطين به إنه "العبور الجديد"، وإن "مصر تستيقظ أو تستيكز"، وأن السماء ستمطر رخاء، والأرض تتفجر سخاء، ثم تبين بعد كل تلك "البروباغندا" الزاعقة أن المنجز الوحيد للمؤتمر كان صورة "سيلفي" للسيسي مع مجموعة من الفتيات والشبان، من بقايا ماكينة "الفكر الجديد" لصاحبها ومشغلها جمال مبارك، ليصحو المصريون كل صباح على سقوط أكذوبة جديدة من مجرة الأكاذيب والوعود المعلنة في المؤتمر.
لا يوجد أحد لا يتمنى للشعب المصري الرخاء والسخاء والازدهار، حتى وإن جاء على يد مجموعة من السفاحين، قتلوا مواطنا مقابل كل طن من الرمال في حفر القناة الجديدة، غير أن "الزفة" المصاحبة لافتتاح المشروع الجديد تقول إن هؤلاء لا يهمهم من الأمر شيء، سوى إعطاء شعبهم جرعات إضافية من الأوهام، داخل عبوات أنيقة من الدجل السياسي والشعوذة الاقتصادية.
قالوا إن قناتهم الجديدة سوف توفر مائة مليار دولار سنويا للدخل القومي، حسنا: دعنا نصدق ما يقولون ، وبالتالي هذا يعني أن نصيب كل مواطن من التسعين مليون إنسان في مصر يجب أن يكون أكثر من 1100 دولار سنويا. وعلى ذلك حري بالمواطن الفرحان رغم أنفه أن يتذكر تصريحات رئيس هيئة القناة، وزعيمه، جيداً، ويحاسب على هذه الوعود فيما بعد، علما أن تقارير منشورة في صحافتهم تقول إن عوائد القناة بعد افتتاح المشروع لن تزيد عن عوائدها فيما سبق بأكثر من سبعين مليونا من الدولارات، بواقع أقل من دولار سنويا لكل مواطن. ومع الوضع في الاعتبار أن جنرال الأوهام شخصيا اعترف للشعب بأن مشروعاته غير ذات جدوى ربحية، لذا عليهم أن يقتطعوا من أرزاقهم، ويعطوه كي ينفذ مشروعات جديدة، يرقص في افتتاحها الراقصون، ويغني المطربون.
وعلى ذكر ابتذال الفرح، تنقل صحافة عبد الفتاح السيسي، أمس، أنه في اللحظة التي كانت فيها مطربة كليب "سيب إيدي" تمثل أمام المحكمة بتهمة التحريض على الفسق والفجور، كان الإعلان عن أن مخرج "الكليب الفاجر" مساهم في إبداع أغنية حفل افتتاح قناة السويس الجديدة.
ولا يقل ابتذالاً وامتهاناً للعقل أن يعلن رئيس هيئة القناة أنه سيتم العمل في حفر "قناة السويس الثالثة"، فور الانتهاء من افتتاح الثانية، على نحو يجعل حفر القنوات المائية عملية أسهل كثيرا من فتح قنوات فضائية على القمر الاصطناعي "نايل سات"، حتى يخال المرء أنه لن يمر وقت طويل حتى تعلن القاهرة عن خطة لتصدير "قنوات سويس" بأحجام ومقاسات مختلفة إلى الخارج.
هذا الإصرار على الابتذال يعطي تصورا بأن الشعار المرفوع في دولة السيسي، الآن، هو "كل ما تتزتق احفر قناة"، وهو الأمر الذي يخشى معه، إن مضت الأمور بهذه الوتيرة ألا يبقى في مصر "يابس" وتتحول كلها، بكامل مساحتها إلى دولة مائية، لا تزرع ولا تصنع، وإنما تصير مجرد "كشك" عائم لتحصيل رسوم العبور.
في خلفية الصورة، يعلنون أن طائرات أسطول "مصر للطيران" بدأت تتحلى بشعار القناة الجديدة في كل رحلاتها، وأن موانئ العالم تتأهب لإطلاق صافرات الاحتفال، ولسان حالهم يقول "لا صوت يعلو فوق صوت الكراكات"، فيما ينطلق عداد حالات الاختطاف والاختفاء القسري والقتل تعذيبا داخل السجون والمعتقلات، بأسرع من معدلات الحفر المعلنة في مشروع القناة. والخلاصة أن المشروع القومي للتطهير العرقي والعنصرية المجتمعية يمضي أسرع من تلك المشروعات الاقتصادية الوهمية، ومن ثم لا يمكن لعاقل أن يتحدث عن تنمية حقيقية، إذا كانت تقوم من أجل هدف واحد، هو التغطية على عمليات إبادة الكائنات البشرية المعارضة للنظام.
هي تنمية من أجل إنعاش استبداد النظام وإجرامه، لا الارتقاء بحياة البشر، ومادام العدل غائبا، لن تفلح أبدا تنميتهم الدموية، حتى لو حفروا مائة قناة.
----------------
العربي الجديد
27 يوليو 2015