حرافيش في عصر الفناكيش
بقلم : سيف الدين عبد الفتاح
5 يونيو 2015
سيف الدين عبد الفتاح
كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".
نختتم، هذه المرة، تلك السلسلة التى كانت رداً على مقولة عنصرية، أطلقها بعضهم حول وصف الشعب المصري بـ "الزبالة"، ووصف آخر على الطريق نفسه "شعب جعان متنيل بنيلة" بالحديث عن النخبة. صحيح أن هذا الشعب قد يجمع، بين مكوناته سلبيات كثيرة، إلا أن تلك السلبيات مسؤول عنها جهات كثيرة، يتقدمها من يسمون النخبة، وهي في حقيقة أمرها لا تستحق اسم النخبة. قلت، مرة، إن هذه النخبة محنطة، وكأنها آتية من زمن آخر. كان هذا الوصف مع حسن النية، إلا أنّ فضح مواقفها وكشف المستور من خطابها وأفعالها جعلني أطلق عليها مع تحريك الحروف أنها "نخبة منحطة"، أداء وأفعالاً ومواقف، مارست أدنأ السياسات وأقبح الأدوات. ومن هنا، فقدت، للأسف الشديد، معاني النخبة، ولا تستحق هذا الاسم، فضلا عن تبديدها أصل وظيفتها وجوهر أدوارها.
نخبة الرضا بالنفي والاستبعاد والاستئصال، من أخطر الأمور أن تتحول النخبة إلى معاول هدم لكيان العلاقة بين الدولة والمجتمع، فترضى أن تتحول الدولة إلى حالة قمعية باطشة وفاشية عسكرية واضحة، وترضى أن تتحول سلطة الأمر الواقع إلى عصابة حاكمة، تروج أنها تمثل الدولة وجوهر كيانها، وهي، في حقيقة سياساتها، تهدم جوهر وظائف الدولة وتقوضها، وترضى بشرذمة المجتمع وفرقته، وانقسامه واستقطابه، بدعاوى زائفة، تحاول تسويق الكراهية بين فئات الشعب الواحد وقواه، دعوات الإرهاب المحتمل والعنف المنتظر الذي لم يكن إلا من صناعة نظم الاستبداد، لتسويغ بطشه وطغيانه، حينما تقبل هذه النخبة بنفي جزء من المجتمع "فكرة"، ومن الاستبعاد "مبدأً" ومن الاستئصال "سياسة"، فإنها تفقد معنى النخبة، وأهم وظائفها، كرافعة لعدل الدولة وتماسك المجتمع.
نخبة الرضا بالعسكر استعداء واستدعاء، حينما ترضى نخبة تصف نفسها بالمدنية، وتجعل من مدنية الدولة مشروعا لها، وأحد مطالب ثورة يناير، والتي تعني، فيما تعني، ألا تكون دولة العسكر وحكم العسكر، ولكن، تظل، في خطابها، ليل نهار، مدعية أنها ضد حكم الإخوان، ثم تستدعى العسكر، بل وتستعديهم ضمن خطتها السياسية التي لا تستنكف أن تحكم من على ظهور الدبابات، فتصير من أدوات الفاشية العسكرية، وتشكل هذه النخبة مساراً للرضا بالاستبداد والطغيان، تسوغ القتل وترضى بإراقة الدماء، وبكل القوانين المقيدة للحريات، فإن طالتها قامت ولم تقعد، ترضى بقمع غيرها، وتطالب بعدم المساس بها، وترضى بما يناقض وينقض مشروعها، فإنها بذلك تعبر عن نفاق وانتهازية، يجعل من وصفها بالنخبة أمرا ينتمي إلى دائرة الاستخفاف والتسطيح، وتجعلها بيادة من بيادات العسكر فى خدمتهم، ورهن إشارتهم تمارس النفاق والانتقائية، بما يعنى انفصام الشخصية وازدواج المعايير، فتخرج مسوخا تتزيا بثوب النخبة، وهي من أحط الخلق وأبعدهم عن نفع الناس وتمثيلهم. "
آن الأوان أن نقدم للثورة "نخبة جديدة" من شبابها الناهض"
نخبة تنزيل الخلافات والصراعات للمجتمع والأمة والجماعة الوطنية من أخطر الأدوار التي قامت بها هذه النخبة التي سميت بذلك زورا وبهتانا، لأنها مارست على الأرض أشد الأدوار انحطاطاً، حينما أنزلت، عن عمد وقصد، لمنافع شخصية ومصالح دنيئة، فإنها قد لا ترى بأسا فى هدم المجتمع وأركانه، وترضى بتمزيق الأمة وكيانها، وتفكك نسيج الجماعة الوطنية وتماسكها، بل وترضى بالدماء، بل وتحرض على إراقتها، وتطالب بالمزيد منها، متجردة من أدنى درجات إنسانية، مستهينة بحرمة النفوس واستباحة حرماتها. تفعل ذلك كله، على أمل أن تجد بعضا من فتات الكعكة، فتكون من نصيبها، حتى وإن كانت مغموسة فى دماء الآخرين، والأخطر أن تنزلق نخبة من الأقباط إلى انضمامها إلى ركاب السلطة، متصورة أن حمايتها، في سلطة قائمة أو عابرة، وتنسى، أو تتغافل، أن حمايتها الحقيقية في المجتمع ومحاضنه الحقيقية. امتهن هؤلاء مشروع الجماعة الوطنية، وضربوه في مقتل، فانحازوا إلى طغمة انقلابية، لا إلى جماعتها الوطنية ومحاضنها الحقيقية، تخلوا عن مشروع عملنا عليه عقود، هدموه ونقضوه، وبدلاً من ترشيد خطى كنيستهم، صمتوا أو انساقوا واختاروا أسوأ خيار يبدد أسس الجماعة الوطنية، ويمزق نسيجها ويفرق لحمتها.
تمارس هذه النخبة التي تسري العنصرية في دمائها تمارس، وهي نخبة مجازاً، بل زيفا وتزويرا، أحط خطاب، فلا تجد في خطابها إلا احتقارا للشعوب، والزعم بعدم أهليتها، تعتبر نخبويتها الزائفة لا يأتيها الباطل من بين يديها أو خلفها، أما الاتهام فيكون للشعب الجاهل الأمي الذى لا يقدر على الاختيار، وأن خياراته التي أوصلت الإسلاميين إلى السلطة هي سبب هذا البلاء، فليدعونا نحن للاختيار والقرار بالنيابة عنهم، فإن قلت إن ذلك يكون بما تفرزه الانتخابات، قالوا ما لهؤلاء بالخيارات والاختيارات، ومن ثم تكون وصاية هؤلاء العصابة، ولا بأس مع احتقارها للشعب أن تضع هذه النخبة منصبةً نفسها زورا لاحتكار الحديث باسم الشعوب وإرادتها، تفر من الشعوب، ولا ترضى بالانتخابات وما تفرزه، وتدعي أنها الأدرى بإرادة الشعوب، هل رأيت بجاحة وتناحة ووساخة أكثر من ذلك.
من أحقُّ بوصف "الزبالة"، الشعب الذي لم ينهض بمصالحه أحد، وتواطأت عليه نخبته الدنيئة أهدافاً وخساسة، أم نخبة دولة العواجيز التي تمترست على كراسيها، فارضة نفسها على شعبها ومقاليده، نخبة الشهرة والسمعة، نخبة النط في الحلل، قبل نضوج الطبخة، وانتهاز الفرصة لتحقيق المنافع الأنانية والمصالح الدنيئة الذاتية، نخبة القفز وامتطاء صهوة الثورات الثائرة والقائمة، واحتراف النفاق والأكل على كل الموائد، نخبة التبرير والتزوير والتمرير، نخبة النفاق والإفك، إعلامية كانت أو رياضية، مثقفة أو فنية، أكاديميون كانوا أم ترزية قوانين، نخبة الوقاحة والتجرؤ على الدين والتعامل معه بالاستخفاف والعدوان على الثقافة السائدة بكل مسالك الاستهتار والاستفزاز، نخبة الفنكوش القائمة على الرضا المشوش والمشوه، يبيعون الأوهام، ويسوقون الأحلام، طاردين الحقيقي من المصالح، وشعارهم "انفد بجلدك"، نخبة الدوامة واختلاق حالة الحيرة، نخبة لا تحاسبوه و"غوروا"، تبريرا للاستبداد وإعفاءه من الحساب، ألا ترى معي أن الشعب ليس "زبالة"، لكن النخبة أحق بذلك الوصف "نخبة زبالة".
بعد كل هذه الحيثيات التي أكدت، وبلا مواربة، أن النخبة المصرية كانت إحدى الأدوات لتكريس تغول الدولة، وزحفها غير المقدس على المقدس، ومساحات مصالح الناس ومعاشها، وأعانت سياسات القمع، بعد أن ادعت أنها في مواجهتها، وأتت باستبداد أقبح وأفسد. قبحهم الله، أماتوا السياسة، ووافقوا على اغتصابها، وأسهموا في حصارها. ووقفوا يصفقون لاغتصابها والتمثيل بجثتها، ثم الآن يطالبون بإحياء السياسة على طريقتهم، ليس لمن أسهم في غصبها وقتلها أن يطالب بإحيائها، فإن السياسة نفسها تلعنهم من جراء ممارسات منحطة وممارسات دنيئة، لا يستحقون بها إلا وصف "الزبالة"، آن الأوان أن نقدم للثورة "نخبة جديدة" من شبابها الناهض. ----------------
العربي الجديد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق