«النهضة» الاعتصام المنسي.. محرقة لا تسقط بالتقادم
13 أغسطس 2015 -
أرواح عطرة وشهداء مسالمون ومدنيون عزل مارسوا حقهم الدستوري في الاعتصام السلمي بعيدا عن الكاميرات وفى غفلة من الأضواء أو البث المباشر، قانعين بأن ثورتهم لله واعتصامهم من أجل هدف أسمي ومسيراتهم بحثا عن الحق والشرعية.. إنه الاعتصام المنسي فى ميدان نهضة مصر بالجيزة والذى رضي بالبقاء فى الظل وأكتفي بأن يكون ظهيرا حقيقيا وسندا قويا لمن اعتصم فى رابعة العدوية.
التاريخ 1 يوليو 2013، وربما قبلها بساعات قليلة، والمكان ميدان نهضة مصر فى قلب محافظة الجيزة وعلى بُعد أمتار قليلة من مديرية الأمن، والحدث اعتصام ارتقي بالميدان المنسي فى غرب العاصمة إلى بقعة ثورية، حيث اختلفت الطبقات وتباينت الوجوه وتنوعت اللكنات إلا أنه الجميع انصهر فى بوطقة "الشرعية" فلا يمكن أن تفرق بين وزير فى حكومة الشرعية وفلاح أدي من غياهب الصعيد، الكل فى النهضة سواء، هنا تحلق جمع فى جلسة ذكر وهناك من وقف على أهبة الاستعداد فى انتظار القادم المجهول دفاعا عن الاعتصام، وما بين راكع وساجد وذكر وسمر ولعب وتدبر، خرج المشهد ليقدم صورة المدينة الفاضلة التى بحث عنها الأدباء فى روايات حالمة.
وبعد قرابة 45 يوما من الاعتصام السلمي والمطالب المشروعة والنضال الثوري، تحركت جحافل السيسي مع الساعات الأولي ليوم 14 أغسطس 2013، من أجل فض الاعتصام بالتزامن مع فض مماثل فى الجانب الأخر لميدان رابعة العدوية، مرتكبا واحدة من أبشع المحارق فى القرن الحادي والعشرين ومخلفا الميدان ما بين قتيل وحريق ومصاب ومعتقل رفض حتى مجرد الإعلان عن أعدادهم الحقيقية، التي تخيفه وترعبه من محاكمة جنائية على جرائم لا تسقط بالتقادم.
وفى الذكرى الثانية لمجزرة فض اعتصام رابعة والنهضة، ربما لا يتذكر الكثير اعتصام "النهضة" الذى كان اعتصاما "منسيا"، حيث لم يشهد اهتماما إعلاميا سواء خلال فاعلياته أو خلال عملية فضه، ولكنه بقي شاهدا على جرائم نظام السيسي التى لن تسقط بالتقادم.
المدنية الفاضلة
أعضاء جماعة الاخوان المسلمين، ومؤيدو "الحرية والعدالة" وأعضاء الجماعة الإسلامية وحزب الراية وحازمون مؤيدو الشيخ حازم أبو اسماعيل، وأعضاء الدعوة السلفية بالجيزة، كانت حماية الميدان وإدارة شئون الاعتصام بحكم خبراتهم التنظيمية، وسط عشرات الآلاف من المصريين غير المنتمين لأحزاب أو جماعات، اعتصموا فقط من أجل الحق والشرعية .
اعتصام النهضة بدأ عفويا دون إعداد أو اتفاق مسبق، في الأول من يوليو 2013، عندما تم الإعلان عن مهلة الـ48 ساعة (أعلنها عبدالفتاح السيسي لمختلف القوى السياسية في البلاد)، والتي تزامنت مع مظاهرة أنصار الرئيس محمد مرسي بالجيزة، فقرر المتظاهرون الاعتصام بميدان النهضة.
لماذا ميدان النهضة
وأعلن حزب الحرية والعدالة أن "القوى الإسلامية والوطنية والثورية تنظم مليونيتين لإعلان تأييدها ودعمها للشرعية ولهوية الأمة ولرئيس الدولة المنتخب بإرادة شعبية".
فكان الاختيار للميدان القابع على الضفة المقابلة لنهر النيل وعلى قمته يقف تمثال نهضة مصر، وتدفقت الحشود لتحيط جامعة القاهرة وحديقة الأورمان والحيوان لتتجاوز عدة ملايين حيث امتدت الأعداد لميدان الجيرة وكوبرى الجامعة وبين السرايات فى مليونية، جاءت صادمة للعلمانيين واليساريين والمجلس العسكرى، كما انضمت لها مسيرات أخرى تنطلق من أماكن مختلفة.
وفي المساء نظمت الجماعة الإسلامية والدعوة السلفية وأنصار السنة المحمدية وأحزاب الحرية والعدالة، والبناء والتنمية مليونية ثانية تحمل عنوان "دعم الشرعية والشريعة" بساحة مسجد عمر مكرم بأسيوط بمشاركة محافظات أسيوط وسوهاج وقنا والأقصر وأسوان والبحر الأحمر والوادي الجديد.
محاولة فض الاعتصام مبكرا
ومع توافد الحشود على الميدان حاولت الشرطة مدعومة من القوات المسلحة فض اعتصام النهضة من اليوم الثانى له فى أول يوليو 2013، حيث وقعت اشتباكات استعان خلالها الأمن بالبلطجية للاعتداء على المعتصمين –فيما عُرفت إعلاميا بـ(أحداث بين السرايات)- وسقط فيها أكثر من 15 شهيدا من المعتصمين وأصيب العشرات، ولكن دماء الشهداء كانت حافزا لاستمرار الشهداء، وتوافد أعداد كبيرة على الاعتصام من أبناء محافظات الجيزة والفيوم وبنى سويف وغيرها من المحافظات القريبة لميدان النهضة، وأصبح بالفعل "الاعتصام قويا، كما كان اعتصام رابعة قويا".
وحرض المعتصمون فى النهضة على الخروج بمسيرات يومية بجميع أحياء محافظة الجيزة والأحياء المجاورة لها بالقاهرة مثل المنيل ومصر القديمة وغيرها، حيث كانت المسيرات تبدأ من الاعتصام وتعود إليه لنشر قضية الشرعية بين المواطنين، وكان قوات الأمن الداعمة للانقلاب تقابلها بتعامل "أمني عنيف" وتستعين بالبلطجية فى الاعتداء على المتظاهرين خاصة فى أحياء المنيل وإمبابة والهرم وفيصل وميدان الجيزة وأمام مدينة الانتاج الإعلامي، حتى استطاع الثوار التصدى للبلطجية وتحذرهم إذا استمروا فى دعم الشرطة.
يوم الفض
"في السادسة صباح يوم 14 أغسطس 2013 بدأت عمليات مجزرة النهضة بالهجوم بقتل كافة أفراد التأمين على مداخل الميدان، وتم اقتحام المستشفى الميداني واعتقال جميع ما فيه من أطباء وعاملين وتم الاستيلاء على الأدوية ومنع إنقاذ، عشرات المصابين التى بدأت عملية للنقل بعد بدء المجزرة، والتى طالت مايقرب 500 شهيد، ومما قلل من أعداد الشهداء.
نجح المعتصمون بعد بدأ مجزرة الفض بساعتين، في إيجاد ممر آمن لهم باتجاه ميدان الجيزة ومن ثم شارع الهرم، وتجمعت أعداد كبيرة منهم في ميدان مصطفى محمود بالمهندسين، محاولين بدء اعتصام جديد، إلا أن قوات الشرطة مدعومة بالجيش قامت بارتكاب مجزرة جديدة، أسفرت عن استشهاد العشرات، داخل حرم مسجد مصطفى محمود حيث قامت بإطلاق النار الحى على عمارة مواجهة للاعتصام، يقال أنها ملك لمرتضى منصور.
ورغم أن السلاح المستخدم فى الفض كان واحدًا والضحايا ينتمون لنفس الفصيل ونفس التوقيت إلا أن التغطية السياسية والحقوقية والإعلامية لأحداث فض النهضة كانت ضعيفة مقارنة بفض رابعة، إلا أن مشهد الجثث المتفحمة لبعض المعتصمين فى النهضة فى الساعات الأولى كان مشهدا رهيبا وصادما يكشف استغلال ميلشيات عبدالفتاح السيسى لغياب التغطية الإعلامية فى حرق المصريين بهذه الطريقة البشعة، كما ألقت الشرطة القبض على 400 معتصما خلال مجزرة الفض.
روايات الفض
ومن روايات شهود العيان عن فض النهضة: "أنها كانت أسهل من رابعة، حيث قال أحمد عبد السلام –أحد المعتصمين-: "كان مشهدا صعبا، جاتلنا أنباء عن حدوث فض فى فجر الـ 14 من أغسطس، مكناش متأكدين لحد الساعة 6 الصبح لما لقينا القوات محاوطة المكان، وبعض التحركات أمام مديرية أمن الجيزة".
وتابع:" قوات الأمن كانت تستعد لفض الاعتصام من جهة شارع السفارة الإسرائيلية لدخول ميدان النهضة، وبعدها شاهدنا الجرافات وهى تدخل للميدان"، مضيفا: "قمنا بعمل حائط صد لمنع دخول قوات الأمن، إلا أن الجرافات أزالت كل هذه الأشياء وبعدها تقدمت المدرعات وبدأت فى إطلاق النار.. (تقريبا فى تمام السادسة صباحا).
الأم ورضيعها
المشهد الذى انفطرت عليه أعين المصريين، يدور حول تصدى إحدى المعتصمات وهى تحمل طفلها الرضيع أمام إحدى الجرافات، ما أدى إلى دهسها من قبل السائق بشكل بشع، وجسدته إحدى عدسات المصورين الصحفيين، ليضعنا أمام أحد سيناريوهات تعامل الجيش الإسرائيلى البشع مع نساء وأطفال غزة.
"ندى جمال" مخرجة سينمائية، وأحد شهود العيان، تقول فى الساعة الخامسة والنصف صباحًا بدأ رجال تأمين الميدان بالمرور على خيام المعتصمين لإيقاظهم من النوم، وأمروهم بإخلاء الخيام من الأطفال والسيدات، تحسبًا لأى هجمات تشنها قوات الأمن، وفى نفس الوقت تمكن بلطجية النظام العسكرى من الاستيلاء على حديقة الأورمان ونشروا فيها القناصة وقوات الأمن بالزى المدني بالأسلحة الثقيلة وحصارها من الداخل.
وتابعت ندى: "فى السادسة والنصف وجدنا مدرعات جيش وشرطة تتحرك من أمام مديرية أمن الجيزة، وعددًا من الجرافات تقترب من ميدان النهضة وبالفعل بدأ ضرب أول قنبلة غاز من أمام تمثال النهضة ثم سرعان ما سمعنا وابلاً من الرصاص الحي، وكانت خيمة الاعتصام التابعة لي بجوار بوابة كلية هندسة من اتجاه تمثال النهضة".
وتواصل قائلة: "أسرع الشباب بتجهيز الأدوات اللازمة لإسعاف المعتصمين من جوانتيات الغاز وقناعات واقية من الغاز، وتجهيز سوائل لتخدير الوجه من القنابل السامة، أمثال الميكوجيل وغيرها، فى الوقت الذى كان يتساقط فيه المصابون كأوراق الشجر أمام قصف ميليشيات الانقلاب للقنابل والرصاص الحى والأسلحة الثقيلة لقتل المعتصمين بشكل متعمد. قتل وحصار مستمر".
وتضيف ندا مشهد آخر من مجزرة الفض، قائلة: "كان الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ غير قادرين على مواجهة قنابل الغاز، توجهوا نحو المنصة وبمجرد الوصول لبوابة كلية هندسة حاصرتنا قوات جيش وداخلية الانقلاب بإطلاق الرصاص الحي فى الوقت الذي بدأ الضرب فيه من جهة حديقة الأورمان ومن جهة تمثال النهضة، وأصبح المعتصمون محاصرين من كل الاتجاهات وكأن السماء أمطرت رصاصًا حيًا وقنابل غاز".
وتابعت ندى: "بدأت طيارات تحلق من فوقنا من مسافات قريبة جدًا فى تمام السابعة صباحًا، ولأن المنصة موقعها قريب من الباب الثانى لهندسة قام الآلاف من المتظاهرين بالاحتماء فيها من وابل الرصاص والقناصة والبلطجية، وتوجهنا لأحد المباني بالكلية بالدور الأول".
الطريق الآمن
ولفتت إلى أن المدخل الوحيد الذي كان مفتوحًا ويسمونه بالطريق الآمن هو ميدان الجيزة وكان من معه سيارة كان يحمل كبار السن فى طريقه لخروجهم إلى خارج الميدان فى بداية الفض، ثم بدأ حرق الخيام فى التاسعة، وتم قتل أكثر من 150 شخصًا داخل الخيام وكان الجنود يتعاملون بقسوة مع المعتصمين.
وشاهدت أحد الشباب عند البوابات يقول للجنود أثناء الاقتحام، "إحنا إخوتكم والله إحنا مش إرهاب" فوجه المدفع من أعلى وأطلق عليه الرصاص من على المدرعة وقتله مباشرة من مسافة قريبة جدًا.. رحم الله شهداء النهضة وبقي الميدان شاهدا على محرقة لا تسقط بالتقادم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق