أزمة أعراف وأخلاق
بقلم فهمي هويدي
أحدث فضائح البطش السياسى وقعت فى جامعة القاهرة هذا الأسبوع. إذ أصدر رئيس الجامعة قرارا بفصل اثنين من الأساتذة، أحدهما رئيس مجمع اللغة العربية الدكتور حسن الشافعى البالغ من العمر ٨٥ عاما، وأحد أبرز أساتذة الفلسفة والتوحيد وعلم الكلام فى مصر والعالم العربى. أما الثانى فهو الدكتور محمد حماسة عبداللطيف أستاذ النحو ووكيل كلية دار العلوم الأسبق ونائب رئيس مجمع اللغة العربية فى الوقت الحاضر. الحجة التى استند إليها رئيس الجامعة فى فصل الدكتور الشافعى أنه جمع بين وظيفتين بالمخالفة للقانون، وأنه انقطع عن العمل. وهما سببان كل منهما أغرب من الآخر. إذ ادعى الرجل أن رئيس مجمع اللغة العربية بدرجة وزير، وأنه يتقاضى عن ذلك راتبا إلى جانب عمله أستاذا بكلية دار العلوم وعضوا بهيئة كبار العلماء كما أنه عمل رئيسا للمكتب الفنى لشيخ الأزهر، واعتبر ان هذه وظائف لها رواتبها التى حصلها الدكتور الشافعى فخضع للقانون الذى يحظر الجمع بين وظيفتين من وظائف الدولة.
لم ينتبه رئيس جامعة القاهرة إلى أن الدكتور حسن الشافعى شغل موقعه فى مشيخة الأزهر وأمضى ثلاث سنوات فى خدمة المشيخة مستشارا لشيخها، دون أن يتقاضى عن ذلك مليما واحدا. واعتذر عن عدم قبول المكافآت التى عرضت عليه. فاته أيضا أن يدرك أن المهام الأخرى التى يقوم بها ليست وظائف لأنه لا يعين فيها ولكنه ينتخب لها. وما يتقاضاه منها ليس راتبا ولكنه مكافآت ترتبط باستمرار العضوية وبحضور الجلسات. أما ما يتقاضاه عن عمله أستاذا بكلية دار العلوم فبدوره ليس راتبا، ولكنه مكافأة تغطى الفرق بين معاشه وبين ما يتقاضاه زملاؤه فى الكلية.
الذى لا يقل غرابة عما سبق ان مجمع اللغة العربية الذى يضم نخبة متميزة من علماء مصر جميعهم من أساتذة الجامعات المصرية عدا ثلاثة فقط، وقرابة نصفهم من أساتذة جامعة القاهرة، إلا أن رئيس الجامعة استثنى من الجميع العالمين الكبيرين حسن الشافعى وزميله محمد حماسة، وادعى عليهما دون غيرهما أنهما يجمعان بين وظيفتين. فى الوقت ذاته فإن الرجل تجاهل أن رؤساء المجمع السابقين جمعوا بين هذا المنصب وبين عضوية هيئة التدريس بالجامعات دون أن ينكر أحد عليهم ذلك. ومن هؤلاء الدكتور طه حسين والدكاترة إبراهيم بيومى مدكور وشوقى ضيف ومحمود حافظ. والأخير كان رئيسا للمجمع العلمى المصرى إلى جانب رئاسته لمجمع اللغة العربية وعضويته لهيئة التدريس بالجامعة.
إذا كان الاتهام الأول شاذا وغريبا، فإن الثانى كان أشد غرابة. ذلك ان رئيس الجامعة كان قد أصدر قرارا بوقفه عن العمل فى ٧/٦/٢٠١٥ للتحقيق معه فيما نسب إليه، ثم أصدر قرار فصله مستندا إلى القانون الذى يسمح بذلك فى حالة الانقطاع عن العمل لأكثر من شهر دون إجازة رسمية. والصحيح أن الدكتور الشافعى لم يذهب إلى الكلية، لا لأنه منقطع عن العمل ولكن لأنه موقوف عن العمل. وحين يصدر قرار الفصل بناء على ذلك فإنه يصبح مما يتعذر تفسيره بحسن نية، لانه يعد قرينة قوية على المدى الذى ذهب إليه الكيد والبطش.
بقيت عندى أربع ملاحظات. الأولى إن رئيس الجامعة أصدر قراره بفصل الأستاذين وهى عقوبة قصوى. دون احالتهما إلى مجلس للتأديب كما تقضى النظم والأعراف الجامعية، ولم تكن تلك هى المخالفة الوحيدة التى ارتكبها لانه انفرد بشطب اسمه من بين خمسة آخرين تم انتخابهم لمجلس إدارة كلية دار العلوم، وقام من جانبه بتعيين آخرين مكانه فى ازدراء للتقاليد واستهانة بأعضاء هيئة التدريس الذين انتخبوه.
الأمر الثانى أن رئيس الجامعة ادعى فى قراره أن الدكتور الشافعى اعترف بالجمع بين وظيفتين فى حين أخفى أنه تظلم من قرار ايقافه عن العمل، إلا أنه رفض البت فى التظلم طوال أربعة أشهر، كما ان رئيس الجامعة حجب نتيجة التحقيق الذى أجرى مع الدكتور الشافعى بخصوص ما نسب إليه. وانتهز فرصة صدور قانون الخدمة المدنية الجديد لإصدار قراره الجائر. لأن الفصل من الخدمة أو إنهاءها ليس من سلطات رئيس الجامعة إلا حسب القانون الجديد.
الأمر الثالث ان رئيس الجامعة اطلع فيما يبدو على تقارير الأجهزة الأمنية ولم يطلع على شىء من سيرة ومواقف الدكتور الشافعى المشرفة. لا أتحدث فقط عن عطائه الغزير وأبحاثه فى الفلسفة والتوحيد وعلم الكلام والتصوف. وإنما أتحدث أيضا عن زهده وسمو أخلاقه الإنسانية والعلمية. وإذا كنت قد أشرت إلى أنه عمل مستشارا لشيخ الأزهر بالمجان طوال ٣ سنوات، فإن كثيرين يعلمون أنه عمل بالمجان أيضا رئيسا للجامعة الإسلامية فى باكستان، طوال سنتين استجابة لرغبة رئيس الجمهورية هناك بعد انقطاع راتبه من مصر. كما أنه ظل يؤدى واجبه فى جامعة القاهرة بعد عودته لقاء ١٧٠ جنيها شهريا، لم تكن تكفى أجرة المواصلات. ومشهور عنه أنه يرفض تلقى أية مكافآت عن مساهماته العلمية فى العالم العربى وحين ضغط عليه فى ذلك فإنه قبل المكافآت وتبرع بها لطلاب الأزهر. علما بأنه يقدم كتبه بالمجان لطلاب الدراسات العليا تقديرا لظروفهم.
الأمر الرابع أن الإساءة أو الإهانة الكبرى فى قرار رئيس الجامعة وجهت إلى نظم الجامعة وتقاليدها أيضا، ذلك ان التنكيل بهذه الصورة الفظة بإحدى القامات العلمية الشامخة وهو فى ثمانينيات عمره ورغم عطائه المعرفى الغزير طوال ستين عاما، هذه الخطوة ما كان يمكن إجراؤها إلا بعد العصف بما لا حصر له من الأعراف والقيم الجامعية المهنية والأخلاقية. وهو ما يكشف عن مدى التردى الذى أصاب الحياة الجامعية فى الوقت الراهن.
بقلم فهمي هويدي
أحدث فضائح البطش السياسى وقعت فى جامعة القاهرة هذا الأسبوع. إذ أصدر رئيس الجامعة قرارا بفصل اثنين من الأساتذة، أحدهما رئيس مجمع اللغة العربية الدكتور حسن الشافعى البالغ من العمر ٨٥ عاما، وأحد أبرز أساتذة الفلسفة والتوحيد وعلم الكلام فى مصر والعالم العربى. أما الثانى فهو الدكتور محمد حماسة عبداللطيف أستاذ النحو ووكيل كلية دار العلوم الأسبق ونائب رئيس مجمع اللغة العربية فى الوقت الحاضر. الحجة التى استند إليها رئيس الجامعة فى فصل الدكتور الشافعى أنه جمع بين وظيفتين بالمخالفة للقانون، وأنه انقطع عن العمل. وهما سببان كل منهما أغرب من الآخر. إذ ادعى الرجل أن رئيس مجمع اللغة العربية بدرجة وزير، وأنه يتقاضى عن ذلك راتبا إلى جانب عمله أستاذا بكلية دار العلوم وعضوا بهيئة كبار العلماء كما أنه عمل رئيسا للمكتب الفنى لشيخ الأزهر، واعتبر ان هذه وظائف لها رواتبها التى حصلها الدكتور الشافعى فخضع للقانون الذى يحظر الجمع بين وظيفتين من وظائف الدولة.
لم ينتبه رئيس جامعة القاهرة إلى أن الدكتور حسن الشافعى شغل موقعه فى مشيخة الأزهر وأمضى ثلاث سنوات فى خدمة المشيخة مستشارا لشيخها، دون أن يتقاضى عن ذلك مليما واحدا. واعتذر عن عدم قبول المكافآت التى عرضت عليه. فاته أيضا أن يدرك أن المهام الأخرى التى يقوم بها ليست وظائف لأنه لا يعين فيها ولكنه ينتخب لها. وما يتقاضاه منها ليس راتبا ولكنه مكافآت ترتبط باستمرار العضوية وبحضور الجلسات. أما ما يتقاضاه عن عمله أستاذا بكلية دار العلوم فبدوره ليس راتبا، ولكنه مكافأة تغطى الفرق بين معاشه وبين ما يتقاضاه زملاؤه فى الكلية.
الذى لا يقل غرابة عما سبق ان مجمع اللغة العربية الذى يضم نخبة متميزة من علماء مصر جميعهم من أساتذة الجامعات المصرية عدا ثلاثة فقط، وقرابة نصفهم من أساتذة جامعة القاهرة، إلا أن رئيس الجامعة استثنى من الجميع العالمين الكبيرين حسن الشافعى وزميله محمد حماسة، وادعى عليهما دون غيرهما أنهما يجمعان بين وظيفتين. فى الوقت ذاته فإن الرجل تجاهل أن رؤساء المجمع السابقين جمعوا بين هذا المنصب وبين عضوية هيئة التدريس بالجامعات دون أن ينكر أحد عليهم ذلك. ومن هؤلاء الدكتور طه حسين والدكاترة إبراهيم بيومى مدكور وشوقى ضيف ومحمود حافظ. والأخير كان رئيسا للمجمع العلمى المصرى إلى جانب رئاسته لمجمع اللغة العربية وعضويته لهيئة التدريس بالجامعة.
إذا كان الاتهام الأول شاذا وغريبا، فإن الثانى كان أشد غرابة. ذلك ان رئيس الجامعة كان قد أصدر قرارا بوقفه عن العمل فى ٧/٦/٢٠١٥ للتحقيق معه فيما نسب إليه، ثم أصدر قرار فصله مستندا إلى القانون الذى يسمح بذلك فى حالة الانقطاع عن العمل لأكثر من شهر دون إجازة رسمية. والصحيح أن الدكتور الشافعى لم يذهب إلى الكلية، لا لأنه منقطع عن العمل ولكن لأنه موقوف عن العمل. وحين يصدر قرار الفصل بناء على ذلك فإنه يصبح مما يتعذر تفسيره بحسن نية، لانه يعد قرينة قوية على المدى الذى ذهب إليه الكيد والبطش.
بقيت عندى أربع ملاحظات. الأولى إن رئيس الجامعة أصدر قراره بفصل الأستاذين وهى عقوبة قصوى. دون احالتهما إلى مجلس للتأديب كما تقضى النظم والأعراف الجامعية، ولم تكن تلك هى المخالفة الوحيدة التى ارتكبها لانه انفرد بشطب اسمه من بين خمسة آخرين تم انتخابهم لمجلس إدارة كلية دار العلوم، وقام من جانبه بتعيين آخرين مكانه فى ازدراء للتقاليد واستهانة بأعضاء هيئة التدريس الذين انتخبوه.
الأمر الثانى أن رئيس الجامعة ادعى فى قراره أن الدكتور الشافعى اعترف بالجمع بين وظيفتين فى حين أخفى أنه تظلم من قرار ايقافه عن العمل، إلا أنه رفض البت فى التظلم طوال أربعة أشهر، كما ان رئيس الجامعة حجب نتيجة التحقيق الذى أجرى مع الدكتور الشافعى بخصوص ما نسب إليه. وانتهز فرصة صدور قانون الخدمة المدنية الجديد لإصدار قراره الجائر. لأن الفصل من الخدمة أو إنهاءها ليس من سلطات رئيس الجامعة إلا حسب القانون الجديد.
الأمر الثالث ان رئيس الجامعة اطلع فيما يبدو على تقارير الأجهزة الأمنية ولم يطلع على شىء من سيرة ومواقف الدكتور الشافعى المشرفة. لا أتحدث فقط عن عطائه الغزير وأبحاثه فى الفلسفة والتوحيد وعلم الكلام والتصوف. وإنما أتحدث أيضا عن زهده وسمو أخلاقه الإنسانية والعلمية. وإذا كنت قد أشرت إلى أنه عمل مستشارا لشيخ الأزهر بالمجان طوال ٣ سنوات، فإن كثيرين يعلمون أنه عمل بالمجان أيضا رئيسا للجامعة الإسلامية فى باكستان، طوال سنتين استجابة لرغبة رئيس الجمهورية هناك بعد انقطاع راتبه من مصر. كما أنه ظل يؤدى واجبه فى جامعة القاهرة بعد عودته لقاء ١٧٠ جنيها شهريا، لم تكن تكفى أجرة المواصلات. ومشهور عنه أنه يرفض تلقى أية مكافآت عن مساهماته العلمية فى العالم العربى وحين ضغط عليه فى ذلك فإنه قبل المكافآت وتبرع بها لطلاب الأزهر. علما بأنه يقدم كتبه بالمجان لطلاب الدراسات العليا تقديرا لظروفهم.
الأمر الرابع أن الإساءة أو الإهانة الكبرى فى قرار رئيس الجامعة وجهت إلى نظم الجامعة وتقاليدها أيضا، ذلك ان التنكيل بهذه الصورة الفظة بإحدى القامات العلمية الشامخة وهو فى ثمانينيات عمره ورغم عطائه المعرفى الغزير طوال ستين عاما، هذه الخطوة ما كان يمكن إجراؤها إلا بعد العصف بما لا حصر له من الأعراف والقيم الجامعية المهنية والأخلاقية. وهو ما يكشف عن مدى التردى الذى أصاب الحياة الجامعية فى الوقت الراهن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق