سامح راشد :
قانون "كل مواطن إرهابي"
24 أغسطس 2015
*سامح راشد
في 24 يوليو/تموز 2013، دعا عبد الفتاح السيسي المصريين إلى منحه تفويضاً لمواجهة ما سماه "العنف والإرهاب المحتمل". وبعد 750 يوماً من تلك الدعوة، أصدر قانوناً لمكافحة الإرهاب. للوهلة الأولى، يبدو الأمر وكأن التفويض لم يكن كافياً، وأن الإرهاب المحتمل تحول إلى واقع واستفحل، بحيث استلزم قانوناً صارماً لمواجهته.
غير أن القانون الذي صدر بعد عامين من التفويض، ظهر للمرة الأولى، عقب التفويض بأسابيع قليلة، على الرغم من أن ذريعة الإرهاب وشواهد العنف التي اتخذت مبرراً لإصدار القانون، أخيراً، لم تكن وقتئذ قد تبلورت بعد. في ما يدل على أن الهدف الأصلي من ذلك القانون ليس مواجهة إرهاب أو أعمال عنف، حيث نية إصداره مُبيَّتة وسابقة على دواعي إصداره المعلنة. الأمر الذي يبطل حجية تبريره بأحداث وقعت بعد بدء العمل عليه قبل عامين.
واستمراراً لمنطق "المحتمل" و"الافتراضي"، انطلق القانون ككل من فكرة قمع النيات والوقاية من الأفكار، وليس تنظيم العقاب على جرائم محددة. ربما كان هذا المنهج الوقائي مطلوباً في الشق الجنائي للأمن العام، حماية الأفراد والمجتمع من الجرائم والتعديات على الممتلكات والأرواح، غير أن الأمر يختلف، حين يتعلق التشريع بجرائم ذات طابع سياسي، ففضلاً عن غموض توصيف "الإرهاب" والتباسه، ومدى انطباقه على ما تشهده مصر من أعمال عنف، المؤكد أن البعد السياسي هو العلامة المميزة الأساسية لتلك الأعمال، بغض النظر عن مرتكبيها أو الطرف المستفيد منها. وفي هذا السياق، يصبح القانون، بما تضمنه من تجريم وعقوبات لنيات وتوجهات وأفكار ومقولات، أداة تكميم للمجتمع ككل. وليس وسيلة وقاية، أو استباق لجرائم "إرهابية" قد تهدد أمن المجتمع. صرّح القانون بمراقبة الاتصالات والمراسلات الشخصية بإذن النيابة، وليس بحكم قضائي، وفتح الباب مجدداً لإدامة حال الطوارئ وتقنينه، وشرع القانون تهجير المواطنين وتقييد حركتهم (مادة 37).
وذلك كله للوقاية ضد أي نية أو غرض "قد" يهدد سلامة المجتمع أو الأمن والنظام العام (مادة 53).
ومن هذا المنطلق، لم يقدم القانون تعريفاً متماسكاً، مفهومياً أو إجرائياً، لأي من التوصيفات والمصطلحات التي تضمنها، فاتسمت توصيفات القانون وتعريفاته كلها بالعمومية، سواء للشخص "الإرهابي"، أو للجريمة الإرهابية وأركانها. فربط تجريم الإقدام على تصرفات أو إعلان آراء أو الدعوة إلى أفكار، بأنها تحرّض على "عمل إرهابي" من دون توضيح لماهية أو معيارية تحديد ذلك التحريض وحيثية اعتباره "إرهابياً". وبذلك، يمكن إدخال كل ما يدعو إليه أي فرد من أفكار أو آراء "علنياً أو غير علني" في نطاق الجرائم الإرهابية (المادتان 6 و 28).
أما عن نطاق وقوع "الجريمة" فحدث ولا حرج، إذ وفقاً لعدد كبير من مواده، يمتد نطاق اختصاص القانون إلى كل ما يدخل تحت سيادة الدولة من أرض وماء وفضاء، فضلاً عن العالم الافتراضي من شبكة المعلومات الدولية ومواقع التواصل ووسائل الإعلام، وكل ما هو قائم أو يستحدث لاحقاً من مجالات ووسائط التواصل العام، أو الخاص (مادة 29) ليس بغرض ارتكاب جريمة أو التحضير لها، بل أيضاً نقل الأخبار وبثها (مادة 35).
لم يكتف القانون بذلك التعميم، بل منح رأس السلطة التنفيذية حق اتخاذ إجراءات استثنائية ستة أشهر، تمدد مرات غير محددة، بعد موافقة البرلمان (مادة 53).
ويتوج القانون ابتداعاته بتحصين الأفراد المنوط بهم تنفيذ القانون، وحمايتهم من المساءلة على ما يرتكبونه من أفعال، بما في ذلك استخدام القوة (مادة 8).
أما درة التاج في ذلك القانون، فأنه لا يعاقب على المقاومة أو الاعتداء على منفذي القانون وحدهم، بل يجَرِّم ويعاقب بالعقوبات نفسها، ويعتبره إرهابياً أيضاً، من يعتدي على أزواجهم أو عائلاتهم! (مادة 27). إنه قانون يقرر، مسبقاً، أن كل مواطن إرهابي. ولا حاجة، بل لا مجال، لإثبات العكس. ---------------
العربي الجديد
*سامح راشد :
باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية. يعمل خبيراً في الشؤون الإقليمية ومديراً لتحرير فصلية "السياسة الدولية"
قانون "كل مواطن إرهابي"
24 أغسطس 2015
*سامح راشد
في 24 يوليو/تموز 2013، دعا عبد الفتاح السيسي المصريين إلى منحه تفويضاً لمواجهة ما سماه "العنف والإرهاب المحتمل". وبعد 750 يوماً من تلك الدعوة، أصدر قانوناً لمكافحة الإرهاب. للوهلة الأولى، يبدو الأمر وكأن التفويض لم يكن كافياً، وأن الإرهاب المحتمل تحول إلى واقع واستفحل، بحيث استلزم قانوناً صارماً لمواجهته.
غير أن القانون الذي صدر بعد عامين من التفويض، ظهر للمرة الأولى، عقب التفويض بأسابيع قليلة، على الرغم من أن ذريعة الإرهاب وشواهد العنف التي اتخذت مبرراً لإصدار القانون، أخيراً، لم تكن وقتئذ قد تبلورت بعد. في ما يدل على أن الهدف الأصلي من ذلك القانون ليس مواجهة إرهاب أو أعمال عنف، حيث نية إصداره مُبيَّتة وسابقة على دواعي إصداره المعلنة. الأمر الذي يبطل حجية تبريره بأحداث وقعت بعد بدء العمل عليه قبل عامين.
واستمراراً لمنطق "المحتمل" و"الافتراضي"، انطلق القانون ككل من فكرة قمع النيات والوقاية من الأفكار، وليس تنظيم العقاب على جرائم محددة. ربما كان هذا المنهج الوقائي مطلوباً في الشق الجنائي للأمن العام، حماية الأفراد والمجتمع من الجرائم والتعديات على الممتلكات والأرواح، غير أن الأمر يختلف، حين يتعلق التشريع بجرائم ذات طابع سياسي، ففضلاً عن غموض توصيف "الإرهاب" والتباسه، ومدى انطباقه على ما تشهده مصر من أعمال عنف، المؤكد أن البعد السياسي هو العلامة المميزة الأساسية لتلك الأعمال، بغض النظر عن مرتكبيها أو الطرف المستفيد منها. وفي هذا السياق، يصبح القانون، بما تضمنه من تجريم وعقوبات لنيات وتوجهات وأفكار ومقولات، أداة تكميم للمجتمع ككل. وليس وسيلة وقاية، أو استباق لجرائم "إرهابية" قد تهدد أمن المجتمع. صرّح القانون بمراقبة الاتصالات والمراسلات الشخصية بإذن النيابة، وليس بحكم قضائي، وفتح الباب مجدداً لإدامة حال الطوارئ وتقنينه، وشرع القانون تهجير المواطنين وتقييد حركتهم (مادة 37).
وذلك كله للوقاية ضد أي نية أو غرض "قد" يهدد سلامة المجتمع أو الأمن والنظام العام (مادة 53).
ومن هذا المنطلق، لم يقدم القانون تعريفاً متماسكاً، مفهومياً أو إجرائياً، لأي من التوصيفات والمصطلحات التي تضمنها، فاتسمت توصيفات القانون وتعريفاته كلها بالعمومية، سواء للشخص "الإرهابي"، أو للجريمة الإرهابية وأركانها. فربط تجريم الإقدام على تصرفات أو إعلان آراء أو الدعوة إلى أفكار، بأنها تحرّض على "عمل إرهابي" من دون توضيح لماهية أو معيارية تحديد ذلك التحريض وحيثية اعتباره "إرهابياً". وبذلك، يمكن إدخال كل ما يدعو إليه أي فرد من أفكار أو آراء "علنياً أو غير علني" في نطاق الجرائم الإرهابية (المادتان 6 و 28).
أما عن نطاق وقوع "الجريمة" فحدث ولا حرج، إذ وفقاً لعدد كبير من مواده، يمتد نطاق اختصاص القانون إلى كل ما يدخل تحت سيادة الدولة من أرض وماء وفضاء، فضلاً عن العالم الافتراضي من شبكة المعلومات الدولية ومواقع التواصل ووسائل الإعلام، وكل ما هو قائم أو يستحدث لاحقاً من مجالات ووسائط التواصل العام، أو الخاص (مادة 29) ليس بغرض ارتكاب جريمة أو التحضير لها، بل أيضاً نقل الأخبار وبثها (مادة 35).
لم يكتف القانون بذلك التعميم، بل منح رأس السلطة التنفيذية حق اتخاذ إجراءات استثنائية ستة أشهر، تمدد مرات غير محددة، بعد موافقة البرلمان (مادة 53).
ويتوج القانون ابتداعاته بتحصين الأفراد المنوط بهم تنفيذ القانون، وحمايتهم من المساءلة على ما يرتكبونه من أفعال، بما في ذلك استخدام القوة (مادة 8).
أما درة التاج في ذلك القانون، فأنه لا يعاقب على المقاومة أو الاعتداء على منفذي القانون وحدهم، بل يجَرِّم ويعاقب بالعقوبات نفسها، ويعتبره إرهابياً أيضاً، من يعتدي على أزواجهم أو عائلاتهم! (مادة 27). إنه قانون يقرر، مسبقاً، أن كل مواطن إرهابي. ولا حاجة، بل لا مجال، لإثبات العكس. ---------------
العربي الجديد
*سامح راشد :
باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية. يعمل خبيراً في الشؤون الإقليمية ومديراً لتحرير فصلية "السياسة الدولية"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق