في ذكرى استشهاد "مفخرة العلماء" سيد قطب...
بقلم: سعيد مولاي التاج
في مثل
هذا اليوم، أي في 29 أغسطس من سنة 1966 ارتقى إلى منازل الشهداء العالم الفذ
مفخرة العلماء سيد قطب رحمه الله تعالى، صاحب "في ظلال القرآن" وصاحب
المواقف الجليلة والمشاهد النبيلة. تحل بنا ذكرى إعدام الشهيد سيد قطب هذه
السنة في ظروف خاصة والشعب المصري ومعه جماعة "الإخوان المسلمون" يزفون
جموعا من العرسان والعرائس في موكب الشهادة ملتحقين بمن سبقوهم بإيمان في
مشهد يصل الحاضر بالماضي، ويؤكد أن هذا الدين يحفظ بحفظ الله تعالى، ويسقى
بدماء أبنائه وتضحياتهم وثباتهم في الشدائد. فمهما كانت التحديات
والمؤامرات والتخذيل وجسامة التضحيات، فالأمة موعودة بالنصر والنصر آت آت
وإن المستقبل لهذا الدين. فلحكمة ما يشاء ربك وقد كتب لجماعة الإخوان
المسلمين المباركة أن تكون لها سابقة التأسيس لصحوة إسلامية عمت العالم في
بداية هذا القرن أن يكتب لها ثانية من جديد فضل وسابقة أن يجعل تجربتها
اليوم بداية انخراط جديد في بعث إسلامي على مشارف خلافة ثانية موعودة.
ويظل
سيد قطب رحمه الله بمواقفه أيقونة مجابهة الفرعونية الناصرية العسكرية
المسيطرة في مصر إلى الآن، وأيقونة قول كلمة الحق والثبات عليها أمام
الطغاة والطواغيت، فقد خط بدمائه الزكية الطاهرة منهج ومعالم الطريق
للمجاهدين وللعلماء من بعده: "ليس بيننا وبين النصر في أي زمان وفي أي
مكان، إلا أن نستكمل حقيقة الإيمان. ونستكمل مقتضيات هذه الحقيقة في حياتنا
وواقعنا كذلك. ومن حقيقة الإيمان أن نأخذ العدة ونستكمل القوة. ومن حقيقة
الإيمان ألا نركن إلى الأعداء؛ وألا نطلب العزة إلا من الله".
رحم الله سيد قطب الشهيد السعيد وشهداء المسلمين في كل مكان وكل زمان، ورحم العلماء العاملين الصادقين المجاهدين.
وتجاوز
عن المثبطين الخانعين المخذلين. فإن "الذلّ لا ينشأ إلا عن قابليّة للذلّ
في نفوس الأذلّاء. وهذه القابلية هي التي يعتمد عليها الطغاة".
أذكر
أني كنت صبيا في سني الدراسة الأولى حين أعطاني أحد أقاربي مجموعة من
الكتب، كان من بينها كتاب "أيام من حياتي" للداعية المجاهدة زينب الغزالي
رحمها الله تعالى. كان الكتاب من المقروءات التي أثرت في بشكل كبير جدا
لدرجة أني قرأته مرارا حتى ترسخت في مخيلتي الصغيرة مشاهد منه بقوة، ولم
يكن قلبي الصغير يتحمل ما في الكتاب من فضائع وفجائع فتسيل دموعي على خدي
غزارا، وكم كنت أسأل نفسي بفطرة طفولية هل يمكن أن يصل التجبر والطغيان
والظلم بالبشر إلى هذا الحد؟وهل يمكن أن تجمح الوحشية بالإنسان إلى هذا
المدى؟
كانت
تلكم بداية تعرفي على جماعة الإخوان المسلمين في مصر وعلى الحركة الإسلامية
عموما في العالم الإسلامي وتوالت قراءتي في مذكرات الإخوان وغيرهم من
الساسة على عهد فاروق وعبد الناصر والسادات، واقتربت من محنة الإخوان
وغيرهم، وعرفت سجون مصر، ليمان طره والقناطر والقلعة والسجن الحربي وأبو
زعبل، وتعرفت على جلادي مصر، حمزة البسيوني وشمس بدران وصفوت الروبي، كما
تعرفت على قيادات الدعوة في مصر وشهدائها الإمام حسن البنا وسيد وحميدة قطب
والهضيبي والتلمساني، وقد أسهمت أشرطة الشيخ كشك رحمه الله -التي كانت
تدخل المغرب سرا- ببلاغته وحرقته وجرأته في تقريب الصورة، عن حقبة كانت
تعرف فيها مصر مخاض ما أطلق عليه "صحوة إسلامية" فيما بعد.
بعد ذلك
تقدم العمر وتوسعت المدارك، وانفتحت الآفاق فقرأت عن سجون تونس وسوريا
والعراق وليبيا والمغرب فعلمت أن ليس في قنافذ العرب أملس، وأننا "كلنا في
الاستبداد شرق" كما يقال. وأن السجون مشرعة الأبواب والمشانق معلقة لكل من
يقول ربي الله أو يخالف أنظمة الاستبداد الجاثمة على البلاد والعباد. وبقدر
ما كان الظلم طاغيا ومنتشرا كانت الأخبار والمعلومات عن ذلك نادرة، تتداول
سرا في ظل واقع حديدي يقبر المعلومة كما يقبر الناس، اللهم ما كان يرشح عن
بعض وكالات الأنباء والإذاعات الدولية.
في
أواخر التسعينات دخل المغرب حقبة أخرى - أو هكذا قيل على الأقل- وتكشفت
الحقائق، وكانت المعطيات والمعلومات صادمة كما وكيفا؛ اختطافات واعتقالات
وتعذيب بالجملة ومقابر جماعية ومناف ومجهولو المصير وأجهزة سرية ومراكز
ونقاط للتفتيش وللتعذيب معروفة وأخرى مجهولة، شهادات ومذكرات دامية فظيعة
ممزوجة برائحة الرصاص و"الأسيد" من مغرب الستينيات والسبيعنيات وحتى
الثمانينات أبكت الملايين، وما سيأتي من شهادات في المستقبل لا شك سيكون
أفظع.
ومع ذلك
لست أدري لماذا كلما قرأت عن التعذيب والمعتقلات - وإن كانت لا تقل بشاعة
عن سجون الناصرية ووحشيتها - كانت صور معتقلات مصر وجلاديها تطفو إلى السطح
كأنها صارت المرجع لكل مقارنة. وكان من أهم ما انطبع في ذاكرتي عن جلادي
مصر أمران أولهما العداء الشخصي للمعتقلين والسجناء المبني على عداء
إيديولوجي، وثانيهما الجرأة على دين الله تعالى والعداء للإسلام قبل
للإسلاميين، وهما أمران كنت أحمد الله دائما على عدم وجودهما في معظم
معتقلات المغرب. حيث إنه حتى في أحلك الفترات والأوضاع كما هو الشأن في
تزممارت تتحدث شهادات المعتقلين عن تعاطف ورحمة من بعض السجانين رغم صرامة
التعليمات، غير أنه يبدو أن هذه الميزة قد داسها جلادو المخزن الجدد
بأقدامهم مع باقي القيم الجميلة في هذا البلد. فلكم كانت صدمتي كبيرة حينما
قرأت ما ورد في شهادات الإخوة المختطفين بفاس حين يشهد الأخ عز الدين
السليماني: "قاموا برفسي بأرجلهم، ثم أوقفوني وصبوا الماء في الأرض وقالوا
لي اضرب برجلك الأرض، وعندما أرفض بداعي الإنهاك أصفع وقاموا بغصبي على هذا
الأمر مرات متتالية وعندما تفوهت بكلمة حسبنا الله ونعم الوكيل قالوا لي
لن ينفعك الله هنا". نعوذ بالله كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا
كذبا، أي نبت شيطاني بذروا بذوره في أبناء هذا الشعب المؤمن المسالم
المتسامح بالفطرة الذي تعتبر مثل هذه السلوكيات بعيدة عنه وعن أخلاقه وعن
تربيته، ولكن أحد الضباط يجلي السبب لأخينا المعتقل الدكتور السليماني -
وإذا عرف السبب بطل العجب- "إن كنت تعتقد أن أيام التعذيب في زنازن جمال
عبد الناصر قد انتهت فإنك واهم".
نعم نحن
أمام تجربة مستوردة وممنهجة جعلت سجون فرعون الناصرية نموذجا وقبلة، نحن
أمام زبانية من طينة حمزة البسيوني الذي كان يقول: "لو نزل ربكم لجعلته في
الزنزانة رقم 14"، ردا على كل من يصرخ من شدة التعذيب: "يا رب يا رب" -
نستغفر الله من حكاية كلمة الكفر – ولعل الضابط المسكين لم يطلعوه على بقية
الرواية وخاتمة الحكاية، ولم يخبروه عن مصير صفوت الروبي وحمزة البسيوني
وغيرهم من الزبانية. ألم يحاكم صفوت بجرائم التعذيب عشرات السنوات في عهد
السادات ويزج به في ليمان طره سنة 1981 ويترك عرضة لانتقام المعتقلين
يضربونه ويفعلون به الأفاعيل وهو من هو؟ أما حمزة البسيوني بعبع السجن
الحربي وفرعون عصره فيحكي الشاعر محمد فؤاد نجم عنه: "وكان معانا من فرقة
المشير عبد الحكيم عامر اللواء حمزة البسيوني مدير السجن الحربي على أيام
صلاح نصر الرهيب وما تعرفش بقى دا ترتيب ربنا ولا ترتيب أمن الدولة إنهم
يعتقلوه مع مجموعة من ضحاياه أيام السلطة والجاه والجبروت، فبقى يتعامل فى
المعتقل ومن زمايله المعتقلين معاملة الكلب الأجرب"، وأنقل عن موسوعة
ويكبيديا خاتمته للعبرة والاعتبار: "مات حمزة البسيوني ميتة شنيعة إذ
اصطدمت بسيارته شاحنة لنقل أسياخ الحديد المخصص للبناء، فمزقت ضلوعه ودخل
سيخ قي رقبته وأخذ يخور كما يخور الثور المذبوح ولم يستطيعوا أن يخرجوا
قضبان الحديد من رقبته إلا بعد قطعها وعندما ذهبوا به لصلاة الجنازة عليه
وقف النعش خارج المسجد ولم يدخل. "عقاب إلهي معجل في الدنيا وفي الآخرة خزي
وعذاب أليم، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى.
رحل
الطغاة فاروق مصر وعبد الناصر والسادات تلاحقهم لعنة الله والملائكة والناس
أجمعين، "ألا لعنة الله على الظالمين"، إلى مزبلة التاريخ مسربلين بخزي
الدنيا والآخرة، ورحل الشهيد حسن البنا وسيد قطب وزينب الغزالي، وقد دخلوا
التاريخ من أعظم أبوابه، فقد أحيوا أمة من موات وجددوا في الروح والوجدان
سيرة الأنبياء وقدموا بدمائهم وأرواحهم المثال على نصرة دين الله ودعوة
الإسلام، تطوف بهم دعوات أجيال الصحوة الإسلامية بالرحمة والغفران إلى قيام
الساعة .
وما الله بغافل عما يعمل الظالمون
============================
============================
============================
============================
في ذكرى استشهاد قطب.. مواقف منسية
بقلم: هبة زكريا
تزينت
صفحات فيس بوك بصور الشهيد بإذن الله سيد قطب.. وتواترت الروايات عنه..
والاقتباسات من أقواله الرائعة.. ولكني أروي لكم في هذه الذكرى موقفا لن
تقرءوه إلا هنا.
تلقي
نظرة حنون على وجهيهما الوادعان وقد تمددا في فراشهما الصغير في سكينة،
تنسحب تغلق الباب في هدوء حتى لا يوقظ طفليها.. وبخطوات عجلى تدخل المطبخ
لتعد طعام الإفطار لوالد زوجها وأخيه اللذين وصلا لتوهما من قريتهما إلى
العاصمة ليطمئنا على أحوال كنتهما الشابة، وكيف تواجه الحياة وحيدة في غياب
الزوج الرابض خلف قضبان الظلم والطغيان...
وقبل أن
تنتهي من إعداد الطعام ترتفع موجات الأثير عبر الراديو الصغير بكلمات يبدو
بعدها الزمن وقد توقف للحظات.. وتجمدت الأشياء في الفراغ اللامتناهي أمام
عينيها.. حتى بدا أن ذرات الهواء نفسه قد تجمدت في مداراتها..
"تم في وقت مبكر من صباح اليوم تنفيذ حكم الإعدام في الشقي يوسف هواش...".
ولكن
الزوجة والمربية الفاضلة فاطمة عبد الهادي ما تلبث أن تتمالك نفسها سريعا..
وتتم إعداد الطعام على خير ما يكون.. وتخرج لتقدمه لوالد زوجها الشهيد
وأخيه، تتوقف لهنيهة قبل أن تغادر المطبخ، حيث تطمئن أنها تمكنت من إخفاء
كل أثر لهذه الدمعة المارقة التي فرت من ركن عينيها..
تقدم
لهما الطعام.. وتتبعه بكوب الشاي المصري الأصيل.. وتتبادل معهما أطراف
الحديث.. إلى أن يطرق أحدهم الباب.. فتنهض لتفتح.. فإذا به عسكري من القسم
يدعوها لتسلم متعلقات زوجها الشهيد.. توقع الإخطار بثبات.. وتغلق الباب
لتنتحي بأخ زوجها وتخبره بما حدث وتطلب منه أن يرافقها لقسم الشرطة..
وترجوه ألا يخبر الوالد الآن حتى لا تقضي عليه الصدمة.. لحين أن يتحينا
الفرصة المناسبة والأسلوب الأمثل...
ترتدي
ملابسها.. وتلقي نظرة شفوق على طفليها اللذين لا يزالان ينعمان باللهو في
دنيا الأحلام، وتتوجه إلى القسم حيث يقدم لها الضابط ورقة بيضاء وقلما
ويطلب منها أن تكتب ما يمليه عليها...
وتتناثر الكلمات من فمه كرصاصات تخترق قلبها الواحدة تلو الأخرى..
"إنه في
يوم 29 من أغسطس عام 1966، وبناء على القرار الصادر من محكمة.... برقم...
في القضية المتهم فيها الشقي يوسف هواش بـ... قد تم تنفيذ حكم الإعدام شنقا
حتى الموت في الشقي يوسف هواش.. وقد تسلمت أنا زوجته فاطمة عبد الهادي
كافة متعلقاته من قسم.... في تمام الساعة... وأتعهد بعدم إقامة جنازة
للمذكور... وهذا إقرار مني بذلك..".
هل انعكس ارتجاج فؤادها خلف الضلوع على يديها فارتعشت أصابعها التي تحمل القلم غضبا وسخطا على الظلم والطغيان؟!...
هل خانتها دموع القهر ومرارة الظلم فغافلتها وتملصت من قيود إرادتها الفولاذية وثباتها الإيماني واستعلاء الحق...؟!!...
لم يحدث..
فقط "حسبنا الله ونعم الوكيل" كانت قذيفتها الأشد تدميرا في وجوه الظلّام القتلة الطغاة المجرمين..
........
ضمت
متعلقاته في حنان جارف وهي تتشمم كل جزء فيها بشوق قد ولد للتو ولن ينتهي
إلا بانتهاء الأجل.. تتلمس بقايا من روحه.. بعضا من أنفاسه.. نسمات من
عرقه.. عبق من دمائه الحارة.. وفجأة تتسمر نظرتها على هذه المتعلقات.. إن
مصحف أحمد ليس بينها...
فما حكاية مصحف أحمد...؟!
في ليلة
ليلاء من أغسطس عام 1965.. وبينما بدأت تستشعر مؤخرا بأن زوجها قد عاد
إليها حرا بعد سنوات من المطاردة والسجن منذ العام 1954.. كانت تغسل في
وعاء بلاستيكي بعض ملابس الصغيران سمية وأحمد اللذين ركنا للنوم بعد يوم
طويل من اللعب مع أطفال القرية.. وغير بعيد يتسامر زوجها وإخوته ووالده وقد
زارهم للمرة الأولى في دارهم هو وزوجته وأولاده بلا تخف أو مطاردات..
وفجأة
هبت عاصفة سوداء من جنود الطاغية ليختطفوه مجددا من بينهم.. فيهب إليها
راجيا أن تمنحه مصحفا يصطحبه معه.. فتقول له ليس لدي سوى مصحف صغيرك أحمد
الذي أهديته أنت له في ذكرى مولده وأنت في السجن وعليه إهداؤك له.. فيقول
لها ملحا: أعطيني إياه وأعدك أن يعود إليكم...
ويرحل هو عن الدنيا شهيدا.. ويختفي مصحف أحمد من بين المتعلقات التي تسلمتها زوجة الشهيد من قاتليه..
وتمر 19
عاما.. وبينما هي في الحرم المكي إذا بمن يناديها ليحيها ويعرفها بشخص
آخر.. وما يكاد هذا الآخر يسمع اسمها حتى يهتف: أنت زوجة الشهيد يوسف
هواش.. لك عندي أمانة منذ 19 عاما.. لا تذهبي رجاء وانتظريني للحظات...
ويعود الرجل بعد دقائق ليعطها مصحف الدكتور أحمد يوسف هواش.. الطبيب المشهور في بريطانيا حاليا
ويروي
الرجل القصة أن الشهيد هواش قبل أن يتم تنفيذ الحكم فيه قد استودع المصحف
هذا الرجل الذي كان أحد زملائه في السجن، خشية أن يضيع وسط باقي
المتعلقات.. ولكنه في الحقيقة لم يكن استودعه هو إياه.. بل استودعه الله..
واستودع معه زوجه وطفليه..
فبقيت
الزوجة في معية الله ثابتة على الدرب وقد اقتربت من عامها المائة.. وأصبحت
الابنة طبيبة والابن طبيب.. ورزقهما الله الأبناء والأحفاد.. وبارك في ذرية
يوسف هواش وفاطمة عبد الهادي حتى اليوم..
ذهب الطاغية.. والفكرة باقية.. فقوافل الشهداء لا تمضي سدى.. إن الذي يمضي هو الطغيان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق