ثلاثة أصدقاء وخبّاز
بقلم: د. محمد محسوب- نائب رئيس حزب الوسط
الأول
وقف ضد الانقلاب منذ لحظته الأولى.. فقال عنه الإعلام.. إخوان والإخوان
إرهاب.. استُشهد شقيقه في رابعة.. فقال له الصديقان الآخران في حينه..
البقية في حياتك بس أصل أخوك كان معاه سلاح في رابعة..
بعد عام التقى الثلاثة على مقهى خلف شارع البستان بوسط البلد..
الأول
رغم أنه خرج توا من معتقل.. وأخوه الشهيد مازل ماثلا في مخيلته.. كان وجهه
أكثر بشرا وبدأ يتحدث عن الطقس وعن المستقبل وعن #غزة وعن حق
الفلسطينيين في الدفاع عن أرضهم وعن أن الكهرباء تنقطع بلا انقطاع وأن
الحياة أضحت لا تُطاق بسبب الغلاء وأن تذكرة المترو ارتفعت.. وأن الحكومة
جرفت أموال البنوك حتى شارفت على الفلس.. ومع ذلك اختتم حديثه بقوله: بس
بُكرة أحلى..
بقى الآخران صامتان.. واحتسيا الشاي بوجه شاحب..
قال الأول: لم لا تتحدثان..؟!
قام
الثاني وعيناه تكان تزرف دمعا وترك كوب الشاي على المائدة بيد مرتعشة..
واتجه مباشرة إلى الأول محتضنا إياه وهو يجهش في البكاء ويتمتم: آسف أخي..
آسف أني خرجت مع فلول مبارك.. وآسف أني صدقت أنّ رابعة بها سلاح.. وآسف أني
صدقت أنّ انقلاب يقوده جنرال عسكري يُمكنه أن يحقق حُلمي في الحرية
والرخاء.. وآسف لأخيك الذي قُتل ولم أزرف دمعة عليه.. وآسف لأيام الاعتقال
والتعذيب التي عانيت فيها.. وآسف لأسرتك التي عانت وتعاني.. وآسف لبلدي أن
ساندت في إضاعة حلمها..
قال له الأول: بالرّاحة على نفسك.. كلنا نُخطئ.. وأنت تعرف أنّ "خير الخطائين التوابون"..
قال له
الثاني: أيوة.. التوبة مع الله مُصالحة له بالتزام فعل الخير والإقدام على
العبادات بعد انقطاع والندم على الفعل بنية عدم الرجوع للخطأ.. لكن كيف
تكون توبتي مع بلدي وأشعر أني خنت عهدها وقطعت ودها وساهمت في إضاعة
حلمها..
قال له
الأول: لأ.. حتى التوبة عن خطأ ارتكبته في حق بلدك وشعبك يكون بأن تصحح
الخطأ وأن تقف مع الفريق المظلوم وأن لا تسكت عن ظلم يقع وأن تشارك في
إزالة الضرر كما شاركت خطأ في جلبه..
قال
الثاني ووجهه يتهلل فرحا: يعني يمكنني أن أكون مع المتظاهرين السلميين ومع
الشباب المبدعين في مناهضة الانقلاب..؟! دا ممكن يخفف عني شعوري
بالذنب..ممكن أساهم في استرداد ثورة ساهمت في إضاعتها..
قال له
الأول: بس خللي بالك .. إذا كان الوقوف مع الباطل سهل بأن تصفق له وتردد
أقواله دون فهم.. فإن الوقوف مع الحق مكلف لأن أهل الباطل لا يتحملون أن
يكشفهم أحد وأن يفضحهم الناس أو أن يعارضهم معارض.. ممكن يقولوا عليك
إخوان.. ممكن ينعتوك بالإرهاب.. ممكن أن يلحق بك ضرر ما..
لكن في
النهاية ستشعر أنك ناصرت الحق.. وبالتأكيد ستكون مشاركا في إنهاء العار
الذي يلطّخ جبيننا جميعا من هذا الانقلاب .. اللي بالتأكيد سيسقط لأنه نشاز
في حركة التاريخ.. ولأنه الناس أدركت أنه ذاهب بهم في داهية إن لم يسقطوه
قبل أن يخرب البلد أكثر مما خربها..
قال له الثاني: أنا معك.. بل أنا مع الشعب قابلا أي ثمن ممكن أن يُدفع طالما أن ذلك يكفر عن ذنب وقوفي مع قتلة وفشلة وفاسدين..
كان
الثالث يتابع الحوار وهو يتململ، ثم فجأة تدخل بالحديث مندفعا: لا لا لا ..
ما تتسرعش .. خللي بالك الأمر بقى مختلف.. المعارض بيتقتل أو بيتحبس..
أفضل حاجة نرجع زي زمان "مالناش دعوة" .. نسيب السياسة لأهلها..
قال له
الأول: بسي يا سيدي ماكنتش بتقول كده أيام الثورة.. ووقفت أمام بيت الرئيس
مرسي بالبرسيم وشتمت ولعنت.. وفي الآخر خرجت وشيلت الشرطة على كتافك..
قال له
الثالث: أيوة أخطأت.. بس معدش ينفع إصلاح الخطأ.. أهو بكرة الدنيا تنصلح
لوحدها.. الغلاء ده تراكمات سنين فاتت.. والمشروعات الكبرى هاتحسن أحوال
الناس.. أما المتظاهرين فمفيش قدامهم حاجة يعملوها.. مفيش نتيجة سيصلوا
لها.. العسكر خلاص "ركبوا".. وما نقدرش إلا أننا نماشيهم.. وأهو يمكن
الدنيا تنصلح..
قال له الثاني: ما ينفعش نساهم في الانقلاب على ثورة يناير وما نساعدش في استردادها..
قال
الثالث: ممنوش فايدة.. وبعدين يمكن مكانتش ثورة.. ربما كانت مؤامرة زي ما
بيقولوا.. الأسلم نتكلم في موضوع تاني.. أنا شاكك في إن الجرسون بيتصنت
علينا..
قال له الأول: لا ما تقلقش.. هذه قهوة ضد الانقلاب.. أنا أعرف أصحابها كويس..
قال
الثالث: لأ الأمر ما يسلمش.. أنا ماشي.. أنا حاسس إنه ها يجيب اسمي في
تقرير النهاردة لأمن الدولة.. أنا ماشي.. حاسبوا انتم بقى.. سلام.. سلام
انصرف
في عجلة حتى كادت عجلة خباز على رأسه طاولة خبز مـ الغالي تدهسه.. لكن
الخباز في مناورة مذهلة استطاع أن يتجاوزه لكن توازنه اختل فسقط لاعنا
صاحبنا بينما الآخر لا ينظر للخلف ولا يدري بما جرى من فرط هرولته هاربا
وكأن من خلفه جان..
قام الأول يساعد الخباز في لملمة خبزه الذي غطى الطريق، محاولا أن يخفف عنه: معلهش.. ربك يعوض..
قال الخباز: ياعم يعوض ازاي.. ما الإخوان خدوا كل الخير معاهم وشطفوا البلد قبل ما يمشوا..
قال له الأول: ياراجل دي سنة.. 12 شهرا لحقوا يشطبوا ويشطفوا.. إمال مبارك ونظامه والانقلاب؟!!
قال له
الخباز وهو يبتعد عنه: ياعم انقلاب إيه..؟! هو فيه أحسن من مبارك؟! دي بلد
ما ينفعش معها إلا الكرباج.. أوعى تكونوا مـ الإرهابيين..
عاد الأول إلى مقعده بجوار الثاني، قائلا: آه .. هؤلاء المساكين الذين ندافع عنهم..!!
قال
الثاني: شوف يا صديقي لقد أعدت إلى روحي وبفضلك استعدت طريقي للحرية..
واسمح لي أرد بعض جميلك.. نحن لا ندافع عن هؤلاء بل ندافع عن أنفسنا.. لا
نمن على شعبنا إنما نفتخر بأننا ننتمي له.. ومن لا يدرك منهم ليس إلا ضحية
لقمع طويل وإعلام يصعب على البسطاء أن يقاوموه أو أن يفلتوا من تأثيره..
نحن من أخطأ عندما لم نسارع بتغيرات كبرى تُشعر هؤلاء أنهم شركاء في صناعة
عالم جديد مختلف فيه عدل وحرية ومساواة وليس فيه فساد ولا واسطة ولا
طبقية.. لو شعروا بذلك لتمسكوا به.. مثل هذا الخبّاز يعتقد أن الدنيا
معجونة من قمع وظلم وتفاوت في مقادير الناس.. حقه علينا التوعية..
قال الأول: صدقت.. الآن عاد إليّ صديقي أستنير به ويستنير بي..
قال الثاني: "ثورة تاني من جديد"..
ردد معه الأول: "ثورة تاني من جديد"..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق