الأحد، 8 يونيو 2014

"التفريغ".. تحدٍّ خطير وآلية مواجهة بقلم: فجر عاطف صحصاح

 "التفريغ".. تحدٍّ خطير وآلية مواجهة

بقلم: فجر عاطف صحصاح
عندما يستعصى بناء ما على الهدم نظرا لثباته وصلابته؛ هنا تصبح كافة محاولات تحطيمه قشرية فقط؛ تنال إذا نالت من الملمس الخارجى فتصيب منه بحجم وشكل ليس بعسير معه الترميم السريع؛ ولذا يلجأ الهادمون إلى المناطق المجاورة للبنيان بحيث يجعلون همهم منصبا على إبقاء المنطقة حوله خاوية مزعزعة فيصبح وكأنه يستند على فراغ، ولا يحتاج بعد ذلك سوى قليل من الوقت ومع أقل المحاولات سيسقط؛ لأن مساحة الركائز من حوله باتت مفرغة؛ فينحر الفراغ فى الأعمدة الراسخة؛ وكأن غربة تسربت إلى الراسيات فجعلت لها عينين يستوحشان يزيغان، وهنا ينقض عدو من ريح عاتية منتظرة، فلا تجد سوى زيغ وقلق ووحشة واضطراب، فيكون لها ما أرادت وتبيد ما كان عصيا من قبل على الهدم.
*******
أسلحة استبداد.. وقوى تحصين
شدة الاحتياج + العوالم الموازية الذاتية + التسرب إلى البناء
فى كتاب نقدى صدر حديثا تحت عنوان "الأدب ومقاومة الطغيان"، وللوهلة الأولى يظن القارئ أن الكتاب سيتناول بالتحليل والنقد نماذج من أعمال أدبية كُتبت لتصوير الحياة وسط الحروب ومقاومة الفساد والطغيان ومواكب الإمبريالية والاستعمار على اختلاف تبعاتهم وضرباتهم الموجعة بين دولة وأخرى، وبالفعل ورغم أن بعض فصول الكتاب تناولت هذا؛ إلا أن اللافت أن فصولا أخرى تناولت نماذج ستقف مشدوها أمام ربطها بفكرة المقاومة؛ كان من بينها مثلا روايات تتحدث عن الحياة الضحلة الهشة شديدة الفقر؛ والتى تثير أنهار العيون دمعا على آلام الجوع والاحتياج و مد اليد وغيرها من أنات الفقر وأهواله ومراراته، البعض الآخر من النماذج تناول بالتحليل نماذج أدبية مختلفة تماما، نماذج حاولت أن تبنى عالما موازيا للحياة كلها، لا يتحدث عن الحياة وصخبها ومشكلاتها، بل يصنع لها نموذجا آخر ويصوره ويتتبع الحياة فيه.
وبتأمل النموذجين واللذين يبدوان بعيدين عن عالم المقاومة، ولكن بعد قليل من التأمل؛ فالواضح أن الربط يسير، فالمقاومة لن تكون إلا لظلم فادح، والاستبداد والقهر سواء كان من استعمار خارجى أو طاغية داخلى لابد له من أرض خصبة ينمو عليها ويتغلغل فيها، أرض تساعده على رسوخ القدم وطول البقاء، لأنه فى النهاية يعلم أنه زائل لا محالة، وهذه هى البيئة التى تحدث عنها "الكواكبي" فى "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، وكذلك هى نفسها "القابلية للاستعمار" فى فكر "مالك بن نبي".. بيئة حاضنة قوامها الفقر والجهل، ينشغل فيها أصحابها بهموم عاجلة ملحة، هموم اليوم والساعة واللحظة، هموم البطن الجائعة والحاجة المعوزة، ومن جهة أخرى يظل الجهل حائلا وحاجزا صلبا يسد منافذ تمدد المعانى القيمية العليا والفهوم الحقيقية التى تربط بين الحالة المزرية وبين قضايا الحرية والفكر والمقاومة وكراسى الحكم.
ولا ينكر أحد أن عقودا طويلة من الاستبداد على أرض مصر قد شكلت تلك الأرضية الخصبة لاحتضان الاستبداد، وهو ما لا يستعصى على الملاحظة داخل مؤيدى الانقلاب من تلك الفئات المهمشة البسيطة إما جهلا وإما فقرا، نفسها هى الوجوه التى كنا نراها إبان انتخابات مجلس الشعب فى عصر المخلوع مبارك، وهى تُساق لتركب سيارات النقل لتذهب لإعطاء صوتها فى صندوق انتخابى تبيع فيه مستقبلا وحرية وطن، فى مقابل وجبة غذاء أو غطاء قد لا يفى كثيرا من برد الشتاء. نجح الانقلاب فى مصر فى أن يرث سنين عددا كانت حصيلتها بيئة حاضنة لمقومات الفساد ومن ثم الاستبداد.
أما النموذج الآخر الذى تحدثت عنه الأعمال الأدبية المستدل بها هنا، فهو نموذج الفرار من المقاومة ومن أمراض المجتمع واحتياجاته؛ الفرار بالعقل لا بالجسد، صناعة النموذج الخيالى الذى تطيب فيه الحياة، أو حتى لا تطيب المهم أنه حالة دفاعية سلبية تأخذ الفرد فى حيوات أخرى قد يكون فيها فاعلا بشكل أكبر.
وبتطبيق هذا على النموذج الانقلابى فى مصر؛ نلحظ وجود تلك الفئة الكبيرة التى يحلو لنا أحيانا أن نطلق عليها الكتلة الصامتة أو "حزب الكنبة" فهى فئة فى أكثرها تكون غير فاعلة فى مجتمعاتها وتجيد صناعة الملائمة الغريبة مع كافة الظروف وتحت أية ضغوط، وإلى حد كبير تكون شديدة الانشغال بعالم ذاتى خاص، تبنيه هى فى الحياة أو يُفرض عليها، المهم أنه عالم ذاتى، وليس جمعيا.
والحقيقة أنه ليس غريبا أن يضيف الانقلاب الممثل فى مصر لقوى الفساد والاستبداد؛ أن يضيف إلى بيئته الحاضنة فى المجتمع بيئة ثالثة قوامها النحر فى البنيان الصامد القوى، ويعنى هذا محاولة بث بذور الوقيعة والفتن بين المنظومة القوية المتماسكة، فتظهر أقوال مثل على الشيوخ أن يعتزلوا وعلى الشباب أن يقودوا، وتتداعى خطابات تبادل الاتهامات والتلاوم. والجميع فى ذلك حتى وإن كان يتحرك بحسن نية؛ ولكن قد يفوته بعض الوعى والحذر والحيطة فى أنه قد يكون مطية لتنفيذ مخطط تفتيت ألقى آخرون شراراته، وينتظرون بعيدا يراقبون لهيب النيران التى تحرق غيرهم.
*******
ورغم أن البنى الثلاث السابقة والتى هى آليات التثبيت لأركان الانقلاب؛ فهى فى الوقت نفسه قد تكون أسلحة القوة لمؤيدى الشرعية ومقاومة الطغيان؛ والتحول فى ذلك ليس عسيرا؛ بل هو يتبع نفس الآلية؛ وهى "التفريغ"؛ أى هدم كافة الركائز التى تثبت أركان الاستبداد؛ وهذا يتأتى إلى حد كبير حين نوقن أن المعركة ليست بنت اليوم وتنتهى وترحل وإنما هى المعركة القديمة –الجديدة، بنت الأمس واليوم والمستقبل، ولذا فالحراك الثورى المباشر لابد أن يوازيه حراك اجتماعى تثقيفى توعوى، لا تدور محاوره فقط حول الانقلاب بمفرداته الملحة والحالّة؛ وإنما يلقى بذورا من المعرفة والعلم الحقيقى بين طبقات وفئات المجتمع، ليظل مؤيدو الشرعية وحاملو عبء الحرية يدا ممدودة بالخير للجميع - باستثناء من أصاب دما حراما - أما ما دون ذلك فالجميع أهل وإخوة وأحباب؛ بينهم المشغولون بسد الرمق، والآخرون الفارون لعوالم أخرى، ليحل إذن الجميع ضيفا فى مأدبة الوطن الكبيرة وليُقدم فيها مؤيدو الشرعية للجميع حبا وسكينة وعلما واحتواء. وهو عطاء ليس المقصد منه جنى ثمرة سريعة وتحول مضاد بين تأييد ورفض للانقلاب؛ ولكن الأمر أكبر من ذلك؛ و يعنى إسقاط محاضن الانقلاب وهدم بنياته وركائزه، كذلك فهو استمرار لبذور الإصلاح؛ التى قد لا يفى الحراك الثورى بمتطلباتها جميعا، وقد يعاقب مؤيدو الشرعية أنفسهم على انحسارهم السريع عن الفعل الثورى بعد ثورة يناير، فيركنوا الآن تصحيحا للخطأ إلى الاكتفاء بالثورى فقط، وهجر الإصلاحى، فى حين أن المجتمع مازال فى حاجة إلى المسارين معا، وغفل أحدهما يعنى التكئة فى سير المجتمع على قدم واحدة قد لا تكفى.
وتبقى بعد ذلك مهمة أخرى وهى "التحصين" ضد معاول "التفريغ"؛ فلن تظل معارك التفريغ دائرة بمظهر واضح وبيّين بين الطرفين؛ لكن لابد لطرف من التغلغل والمباغتة بين صفوف الطرف الآخر، وهنا لابد من حيطة لا تستكثر الوقت فى السير بين الأعمدة الراسخة للاطمئنان من متانتها وقوتها، وترميم ما قد يصاب منها، وهى مهمة لا تحتاج إلى فراغ ووقت فقط؛ وإنما لأصحابها لابد من مهارات خاصة فى السعة والعمق والمعرفة، وقبل كل ذلك الإيمان بأن فردا واحدا يستحق التعب والكدر والاهتمام والبذل؛ فالبنى المجتمعية الكلية هى فى أصلها مجموعة أفراد، وإذا زهدنا فى تلك المكونات واحدا تلو الآخر؛ فقد لا يكون للغد نصيب من بزوغ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق