الأحد، 29 يونيو 2014

الانقلابيون.. لحوم نبتت من حرام!! بقلم: نبيل فولي



الانقلابيون.. لحوم نبتت من حرام!!

بقلم: نبيل فولي


مع إيماننا بوجوب العمل بكل وسيلة مشروعة لإسقاط الحكم العسكري الغاصب في مصر ودحره، والأخذ بالأسباب في هذا الجانب أخذا كاملا، فإنه لابد - قبل ذلك وتأسيسا وتأصيلا للمسألة - من أن نأخذ بعُدَّة الإيمان كاملة، ونجعل منه وقودا يغذي معنوياتنا، وأساسا نطمع من خلاله في أجر الله وثوابه، فالمؤمن في معادلة العمل لله رابح - في كل حال - نصرًا أو شهادة؛ قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ} [التوبة: 52].

سنن الله:

إن حقيقة الحال في الخلاف بيننا وبين الانقلاب – لمن لا يعلم ولمن يسيء الفهم - ليست دنيا أو مناصب نصارعه عليها، ولا حظوظا مادية نريد أن ننزعها من بين أنيابه لنضعها بين أنيابنا، وإنما هو حق الله الذي ينبغي أن يقوم به المؤمن في مقاومة الظالم والأخذ على يديه، وحقوق العباد المسلوبة التي يجب أن يكون للمسلم سعي وعمل في استردادها، وحقوق الأوطان التي عَمَرها الإسلام دهورا طويلة وخربها الظلم والاستبداد عقودا مديدة، فصارت - بعد أن كانت مآذنها وعلماؤها وجامعاتها وكتبها منارات للدنيا - مواخير لأهل الفن الرخيص، ومراقص للعاهرين والعاهرات، ومراتع لأرباب التجارات الحرام.

ومما يرتبط بقضية الإيمان في مجري الصراع القائم أن يوقن المسلم أن لله تعالى في خلقه سننا جارية لا يمنعها مانع ولا يحول دونها حائل، ومن ذلك أن البركة منزوعة من أكلة الحرام الذين استمرءوا السطو على أقوات العباد، والسيطرة على ثروات البلاد، فإذا كان اللحم النابت من حرام ضيفا من أخس ضيوف النار يوم القيامة، فأنى له أن ينال توفيق الله في الدنيا؟! ومن لم يعجِّل الله به من أمثال هؤلاء، فعادة ما تكون له أسباب أخرى للبقاء ضمن السنن نفسها، لكنه يكون حلقة في انحدار قومه وحزبه نحو الهاوية.

وهذه القاعدة من أكثر القواعد والسنن انطباقا على الانقلابيين، فالمال الحرام أنبت لحومهم، وشكّل أبدانهم، وبنى جسومهم منذ التحقوا بجامعاتهم، أو حصلوا على فرص عمل مرموقة بدون كفاية سبقوا بها غيرهم، أو تفوق علمي أو مهاري فاقوا به أضرابهم.

البداية.. رشوة:

الرشوة معدودة عند علمائنا من كبائر الذنوب، وعظائم الآثام، واستدلوا على هذا بالآثار الكثيرة الواردة؛ قال ابن حجر الهيتمي في "الزواجر عن اقتراف الكبائر": "أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِي"، وَابْنُ مَاجَه وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ: "لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي"، وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ: "الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي فِي النَّارِ"، وَأَحْمَدُ: "مَا مِنْ قَوْمٍ يَظْهَرُ فِيهِمْ الرِّبَا إلَّا أُخِذُوا بِالسَّنَةِ، وَمَا مِنْ قَوْمٍ يَظْهَرُ فِيهِمْ الرُّشَا إلَّا أُخِذُوا بِالرُّعْبِ"، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَاجَه وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ فِي الْحُكْم... وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ كُفْرٌ، وَهِيَ بَيْنَ النَّاسِ سُحْتٌ".

فالرشوة عمل خطير، وأداة إخلال كبير بتكافؤ الفرص بين أبناء المجتمع الواحد، خاصة حين تكون وسيلة لنيل وظيفة وعمل يسترزق الإنسان منه أكله وشربه وملبسه ومسكنه وركوبته في الحال أو في المآل. وإن كان للاضطرار موضعه هنا، فهو فيما ينتزع فيه الإنسان حقا من حقوقه التي لا يستغني عنها، ولا يقدر على استخلاصه بالوسائل المشروعة.

ولعلنا نلاحظ في المجمل أن المعاصرين من العلماء والكتَّاب والخطباء أكثر تشنيعا على الراشين والمرتشين من القدماء، والسبب في هذا هو أن باب العمل بهذه الكبيرة قد اتسع في زماننا اتساعا كبيرا، حتى دخلت الرشوة في أمور كثيرة لم يكن يعرفها القدماء الذين كان أشهر ما عرفوه من الرشوة هو دفعها للحاكم أو القاضي لكي يقضيا لهم في الخصومات، في حين أننا - أهل هذا العصر - قد تفننا فيها واتسعنا بصورة كبيرة، فقدمناها لنيل الوظائف، وإلحاق الطلاب بالجامعات، والحصول على تراخيص السيارات، وإرساء الصفقات في المناقصات علينا، وتمرير ما نشاء من المطارات والمواني، وتهريب المخدرات، وشراء أصوات الناخبين، بل استُخدمت دوليا في صفقات السلاح، واللعب بنتائج المسابقات الرياضية، وتحسين صورة جهة ما في الإعلام، أو تبييض وجه دولة ما في أوساط الرأي العام هنا أو هناك، وهكذا.

ورجال الانقلاب الأثيم في مصر، وأدواتهم القمعية والقضائية الفاسدة غاصت وترعرعت في ألوان شتى من هذا الوحل، حتى صار عماد حياتها، ونقطة انطلاقها إلى أوضاع السيطرة والقفز إلى المناصب الحساسة، وقد عاشوا هذا المسلسل أدوارا ومراحل بدأت بأيامهم الأولى في كلياتهم العسكرية وشبه العسكرية وفي وظائفهم القضائية والوزارية.

لقد علم أهل مصر قاطبة ومنذ زمن أن أكثر طلاب الكليات العسكرية وكلية الشرطة وموظفي السلك القضائي والإعلام الحكومي بدءوا حياتهم بالرشوة أو المحسوبية أو بهما معا؛ لكي يصبحوا جزءا من هذه الأجهزة المهيمنة على مقوِّمات الوطن. وكم دفع المواطنون المصريون لوزراء أو مسئولين أو لواءات أو مستشارين من أموال كي ينفتح الطريق السحري أمام أبنائهم نحو الكليات العسكرية أو كلية الشرطة أو سلك القضاء وما شابهها، وهم يعلمون أن ما سيجنونه من أرباح هذه المناصب فيما بعد يتجاوز كثيرا تلك الرشوة التي دفعوها في بداية المسيرة.

وكان من الطبيعي أن ينشأ عن هذا سقوط رهيب لقيم الأمانة والفضيلة عموما عند شريحة كبيرة من أصحاب الوظائف العسكرية والشرطية والقضائية، ولا يعدم أحد في مصر – حتى قبل الانقلاب المشئوم - أن يرى ويعرف بشكل شخصي في سلك القضاء والجيش والشرطة نماذج شائهة للإنسان، فهذا قاض معروف بين الناس بإدمان المخدرات، وذاك يستغل منصبه في الاستيلاء على أموال الخلق بدناءة عجيبة، وهذا شرطي لم تمر على مسمعه كلمة الشهامة والرجولة أو حسن الخلق، فضلا عن التقوى والتدين، وهذا ضابط بالجيش راتبه يساوي راتب مئات المجندين، ولكنه مصرّ على أن يقتطع من نصيبهم من التغذية ما يطعم به نفسه وزوجته وأولاده!!

بل كان من الطبيعي في هذا الجو المظلم أن نرى على الضفة الأخرى للمجتمع آلاف المحرومين ممن كانوا أجدر من أولئك في شغل المناصب المحترمة، وأن نعايش جانبا من مآسي هؤلاء المحرومين، ويكفي أن تنزل قرية من قرى مصر فترى شابا – كما حكى لي بعض الأصدقاء - قد مسه الجنون من الهول النفسي الذي عاشه، وخبأت ملامحه حزنا عميقا برغم ابتسامة الجنون التي ترتسم على وجهه، فإذا سألت ماذا أصابه، حكوا لك أنه كان في كلية الحقوق من أذكى الطلاب وأحسنهم تحصيلا وأعلاهم درجة، وكان الحلم الذي يراوده أن يجد فرصته للتعيين وكيلا للنيابة، لكن الصدمة النفسية التي قتلت عقله جاءت من بيت القاضي الذي يسكن في القرية أو ترجع أصوله إليها، فقد استطاع أن يعين قريبا له وكيلا للنيابة مع ما هو فيه من ضعف القدرات وقلة التوفيق في دراسته بالكلية نفسها.

لقد وجد الشاب المتفوق نفسه بعد التخرج عاطلا، وأن قرينه الأقل منه فهما وعلما وتفوقا في الجامعة قد بدأ يسلك طريقه اللاحب الواضح نحو منصة القضاء ومناصبه ورواتبه المغرية، فأنى لإنسان ملأ نفسه بهذا الأمل، حتى عده كل رجائه؛ يرفع به منزلته ومنزلة والده الفقير الذي أعطاه الكثير، أنى لمثل هذا أن يحتفظ بعقله بعدها؟!!

لقد تأسس أمر الانقلابيين على السطو على حقوق من هم أجدر منهم، وافتتحوا رحلة الحياة المستقلة عن الوالدين برشوة تسببت في حصولهم على الوظائف التي تسلطوا من خلالها على الناس، ومن هنا كان مطعمهم مشبوها، ومشربهم مشبوها، وملبسهم مشبوها، وغذوا بطعام مشبوه بل حرام، فهل يحق لنا أن نتوقع منهم خيرا؟! وهل لنا أن نستغرب من إصرارهم على اختطاف مصر من أهلها؟!

رشاوى أخرى:

لم تتوقف الرشوة عن تسيير مراكب القوم ومواكبهم في طرق معوجة وسبل غير قويمة، بل بقيت هذه الكبيرة تلازمهم في مختلف أدوار حياتهم، حتى رسمت المأساةَ الحالية التي يقتل فيها الجيش والشرطة والقضاء المصري حرية المصريين، ويهدرون حقوقهم الأساسية في الحياة، ويرفعون البلطجية والمجرمين ويسجنون الشرفاء والوطنيين، ويكافئون القتلة وينكلون بالمصابين وعائلات الشهداء؛ في صور للحياة مقلوبة وصارخة، ولا أحسب أن شؤم الحرام الذي ملأ بطونهم بريء منها.

إنني لا أستطيع أن أفهم إغراق قادة الجيش بالأموال ومنحهم رواتب خيالية خلال العقود الأخيرة، مع امتيازات للضباط لا مثيل لها في كل قطاعات الدولة، إلا على أنه رشوة حقيقية تدفع هؤلاء القادة إلى الصمت، وعدم الاعتراض على القيادة السياسية مهما بلغ فسادها.

كذلك تنتج مصانع القوات المسلحة بهدير آلاتها عشرات الأنواع من السلع غير العسكرية، وتتاجر فيها بلا رقيب ولا محاسب، وبأيدي عاملة من المجندين الذين لا يكادون يكلفونهم أكثر من طعامهم الرديء وزيهم العسكري البسيط، ولا تسل أين تذهب الأموال الطائلة التي تجنيها هذه المشروعات، فجيوب الجنرالات وكروشهم أوسع مما تظن؟!

أضف إلى هذا أن المعونة الأمريكية التي ولدتها معاهدة السلام المشئوم مع إسرائيل، وتتجاوز المليار ونصف المليار دولار سنويا، كانت لا تنفق على التسليح والأعمال العسكرية إلا قليلا، والأساس فيها أنها رشوة أمريكية تدجِّن الجيش وقادته، وتضمن ولاءهم للولايات المتحدة بما يصب في مصلحتها ومصلحة حلفائها، وليس بعيدا أن تكون هي السبب في تضخم رواتب القادة.

وقل مثل ذلك عن رواتب ضباط الشرطة وقضاة المحكمة الدستورية ومكافآت القضاة الموالين للنظام عموما، ثم اختيار هؤلاء أو أولئك للمناصب الخطيرة – كالنائب العام ووزير العدل ورئيس المحكمة الدستورية - حيث يقبضون الأموال الطائلة مقابل أن يحرسوا النظام ويسدوا الثقوب التي تنفتح في بدنه المتهالك.

أيها الثوار:

إن اليد التي تطلق عليكم الرصاص في مسيرات الحرية، والأخرى التي ترتفع بالسياط لتلهب ظهور المعتقلين الأبطال، واليد التي توقع على الأحكام الجائرة ضد الأحرار، كلها وأشباهها أياد ناولت الرشوة أو تناولتها؛ صريحة أو مقنَّعة، وبطون امتلأت بالسحت وتقاتل من أجل أن يبقى لها حظها من السحت.. لحوم نبتت من حرام، وتغذت بالحرام، فأنى لها أن تجد التوفيق من الله؟!

ثقوا – أيها الثوار الأحرار - أن الله سيرفعكم باللقمة الحلال التي تأكلونها ويستجيب دعاءكم وينصركم، وأن اللقمة الحرام التي يملأون بها أجوافهم ستكون نارا عليهم في الدنيا، ونارا في الآخرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق