اغتصاب السياسة رأس كل خطيئة، وهو مقدمة لانقلاب
الأخلاقيات والقيم
بقلم: د.سيف الدين عبد الفتاح
بقلم: د.سيف الدين عبد الفتاح
تحويل
المشاهد السياسية إلى مشاهد احتفالية صنعة تجيدها النظم الاستبدادية ضمن
عمليات تشكيل الرضا الكاذب، الشرعيات المعبرة عن رضا المحكومين عن حكامهم
لا يمكن نيلها بعمليات احتفالية، والمشاهد الاحتفالية المقترنة بمشاهد
التعبئة فى نظم اعتادت تصنيع الزيف والتضليل حتى تزين أحوال استبدادها
ومسارات فسادها، اغتصاب السياسة رأس كل خطيئة، وهو مقدمة لانقلاب
الأخلاقيات والقيم، الانقلاب فى جوهره انقلاب على القيم السياسية
والأخلاقية، ذلك أن العلاقة بين المنظومة السياسية والمنظومة الأخلاقية
القيمية علاقة شديدة التركيب، وتضيف الحالة الانقلابية والحالة الثورية
إلى تلك العلاقة تعقيداً على تركيبها فى حالة تدافع حقيقى بين قيم الثورة
الحقيقية فى الخامس والعشرين من يناير وقيم الثورة المضادة التى عادت الى
الواجهة بعد الانقلاب العسكري فى الثالث من يوليو.
لا زلت أتذكر أستاذنا
المرحوم الدكتور حامد ربيع حينما درّسنا ما أسماه آنذاك بـ" الظاهرة
الجماهيرية " والمجتمع الجماهيري والسلوك الجمعي والحشدي والمجتمع
الجماهيري وما يرتبط بذلك من ظواهر الهياج الجماهيري والذعر الجماعي،
درسنا ذلك على هامش دراستنا لظواهر الرأى العام، قد تكون ظواهر جانبية أو
عرضية إلا أنها لها من الدلالات المجتمعية والسياسية فضلاً عن ارتباطها
بالمجال العام والمجال السياسي، وكانت أهم قاعدة تعلمناها وتوقفنا عندها
فى الظاهرة الجماهيرية "أن هذه الظاهرة يمكن إثارتها كما يمكن تحريكها من
سلطات وسلطان السياسة ولكن لا يمكنه بل يصعب وربما يستحيل التحكم بها أو
السيطرة عليها في تأثيراتها، أو توابعها أو آثارها الجانبية، أي أن
إمكانات التحريك لا تعني استمرارية إمكانات التحكم والسيطرة.
سيقول بعض الناس
مالكم تحاولون أن ترموا سلطة الأمر الواقع بكل نقيصة، وتحاولون أن تجعلوا
من الأحداث والحوادث الفردية ظاهرة عامة وكأنها تمثل مسارات فى السلوك
العام، إن الظواهر تبدأ فى إرهاصاتها ثم تتصاعد وربما تضطرد وتزيد مساحات
وجودها وتكرارها، التوقف عند هذه المؤشرات لا يعني اقتناصها لإثبات موقف
مسبق ولكن المسار التى تسير الظاهرة في اتجاهها ربما يستند إلى التصورات
الذهنية المسبقة التي تم تصديرها وتمريرها ما أسهم فى تكريسها.
ومن أهم الظواهر
المصاحبة للظاهرة الجماهيرية تقع عمليات أخرى تحت عناوين التعبئة والظاهرة
الاحتفالية، من المهم إذاً استدعاء حوادث احتفالية تكررت، كان مسرحها
ميدان التحرير الذى صيرته الثورة المضادة ميدانا للاحتفالات لا ميدانا
للاحتجاجات، الميدان صار علامة احتكار لسلطة الانقلاب أحاطته ببوابات
ومدرعات وبوابات وقوات متحفزة من قريب، والشباب المحتج يحاول الدخول أو
الاقتراب من المكان، فى السادس من أكتوبر وفى الاحتفال بثورة يناير قتل
على بعد أمتار أعداد ليست بالقليلة، وفى الميدان "ميدان التحرير" نصبت
مشاهد المراقص والاحتفالات واستعراض الطائرات، وفى كل مرة مُورست فى زوايا
الميدان بعض أعمال التحرش التي مررت لتمرير الاحتفالات المقصودة
والمصنوعة، ظل هؤلاء ينظرون للأمر كأعراض جانبية، تكرست الصورة شعب يحتفل
وشعب يُقتل ويُعتقل، اهتمام بالأمن السياسي، ميدان الاحتجاجات يجب أن يختفي
وميدان الاحتفالات يجب أن يبرز ويدشن، الشعب المحتج ليس منا والشعب
المحتفل هنا فى التحرير ومنا، وصارت الشفرة الاحتياطات الأمنية لتأمين
المشاهد الاحتفالية، الانشغال بالسياسي والضبط له والتحكم فيه وتمرير
اللاأخلاقيي في ظاهرة جماهيرية احتفالية اتخذت مشاهد التحرش بدرجاته
المختلفة.
إلا أن أخطر من كل
ذلك أن يتحرك الأمر صوب صناعة الصورة، الصورة الذهنية أخطر ما تكون بعد أن
مثلت القابلية للتفلت الأخلاقي ومن أهم مظاهره التحرش، إن سلوكاً تولد في
الآونة الأخيرة في إطار طقس سياسي يتعلق بالذهاب إلى الصناديق، يجب أن
يحتفظ بجوانبه الاستعراضية، إلا أنه ألحق بسلوك احتفالي "بالرقص" والتنافس
في أداء الرقصات بين الرجال والنساء، بينما اكتفى بعض الشباب الذى ضل
طريقه إلى الصناديق الانتخابية بتكوين مجتمع الفرجة لاعتبارات الفسحة
المكانية والزمانية، والجو العام، فمُورس ما يشبه التحرش، مُورس التحرش في
إطارعملية تواطؤ فيما أسمي "العرس الديموقراطي"، إن المرأة التى ارتدت
علم مصر ثم وقفت أمام باب لجنة انتخابية تتلقى القبلات من المصوتين
انتخابياً في حال تحرش تمت تحت ستار الرضا غُض الطرف عنها في مكوناتها
ووقائعها.
لا أكتمكم القول أن
واحداً من أسباب الامتناع عن التصويت والمقاطعة الشعبية والممانعة من بعض
الجماهير إنما تمثل فيما أطلق عليه البعض مشاهد المسخرة الراقصة التي زادت
عن حدها حتى اعتبرها البعض مصنوعة، ومشاهد القبلات العابرة أمام اللجان
الانتخابية في إطار موسيقى صاخبة لا يليق بالمقام المتعارف عليه في
الأغاني الوطنية والحماسية بين "تسلم الأيادي"، و"بشرة خير" وفى مشهد أصبح
ينتمي للأفراح والأداء الراقص، الصورة الذهنية صناعة سابقة على الحدث
التحرشي ووقوعه.
على الجميع أن يفهم
أنني أحلل الحدث، لا أمرره ولا أبرره، لأن منطق القيم ومرجعية الأخلاق
تؤكد على موقف ثابت سأنهي به هذا المقال، مشاهد الاحتفالات في ميدان
التحرير، المشهد الاحتفالي التعبوي المصنوع في شواهده، المزيف في
استدعاءاته، والقيام بأعمال احتفالية متواترة، وصورة ذهنية سابقة صنعت على
أعين النظم الاستبدادية التعبوية التى لها باع في الاحتفالات المصنوعة
والمصبوغة، وهي تمرر كل حدث تابع أو فرعي أو جانبي حتى لو هدم قيمة أو
انتهك خُلق أو تحرش بجسد، تشويه الميدان وإغلاقه دون الاحتجاج واحتكاره
لمشاهد احتفالية، هذه الصناعة الجديدة لسرقة رمزية الميدان وتأميمها لمصلحة
دولة الفساد العميقة شُوهت فيه ومعه الثورة بعمل ممنهج ومقصود ومصنوع
صناعة الصورة الزائفة للميادين صارت صنعة الثورة المضادة بأجنحتها في دولة
الفساد العميقة.
إن السياقات والأدوات
الإعلامية التي اتخذت مسارات الترويج لحالات من التفلت والفوضى وتثبيت
العشوائية في إطار تقنينها بل وتبرير بعض هذه الظواهر وتمريرها في إطار
التغرير بالمجتمع والتزوير، يبدأ الأمر بمنطق لا تهولوا ولا تبالغوا ولا
تسرفوا في الاتهام، الأمر يقع في منطقة الاستثناء، إلى خطاب مثير للغرائز "
خليهم يفرحوا"، "كفاية جوامع بقه خليهم يفرفشوا" "والكباريهات موجودة"
خطاب فسق وترويج للفجور، الأم المثالية والاحتفاء بالراقصات، الإسلام
الجميل الذي يسوغ لحالة من الرقص العام في الطريق العام.
فماذا عن المشهد
الحقوقي والقانوني والعمل التحرشي؟، إن المشهد الحقوقي خاصة المجلس القومى
للمرأة والذى قامت رئيسته بطرد الفريق المراقب من الاتحاد الأوربي
للانتخابات الهزلية والذي أشار إلى رصد حالات التحرش في العملية
الانتخابية، وقالت أنه مغرض لتمرير يوم العرس المشار إليه فى سياقات
التواطؤ، بل ومواصلة الكذب على الظاهرة في تشخيصها والوقوف على أسبابها إن
هؤلاء الذين لهم مصلحة في إفساد العرس هم السبب في هذه المشاهد التحرشية
ولا بأس بتسمية الإخوان لإلباسهم مسؤولية ما حدث لممارسة تضليل من هؤلاء
الذين ملأوا الدنيا عويلا وضجيجا حول التحرش وضرورات مواجهته، وصمتوا عن
تحرش السلطات الأمنية ببنات اعتقلوا بل واعتُدي عليهم جنسياً فى السجون، لم
تعد المرأة الخط الأحمر في ضوء الاستهانة بكل الأعراف والحدود المتعارف
عليها في هذا المقام، وكذا فإن التوجه القانوني لن يكون رادعا طالما بقي
هذا السياق الخطير الذى يحرك ويبرر ويمرر ويغرر.
المشهد السياسي
الانقلابي القائم على اغتصاب السلطة والسياسة بل والمجال العام ومساحاته،
تحرشات السياسة كمقدمات لاغتصابها والانقلاب على منظومة القيم السياسية
كمقدمة للتواطؤ على منظومة القيم الأخلاقية أو تمرير انتهاكها من أجل
تبرير وتمرير مشاهد التعبئة الجماهيرية خاصة المصنوع منها ضمن صورة ذهنية
شديدة القبح تمهد لسلوكيات التحرش الأخلاقي، الأمر ليس بعيداً عن مجموعات
البلطجية الذين يتلمسون هذه المناسبات لممارسة كل سلوكياتهم الشاذة، إن
تنظيم البلطجية من صناعة الدول المستبدة ذات المسارات الأمنية، البلطجي
تثار غرائزه بأسوأ ما فيها، فيقتل حينما يُؤمر بذلك، ولكنه حينما يُطلب
منه تكثير السواد في مظاهر التعبئة والعمليات الاحتفالية فإن غرائزه
الدفينة والدنيئة وحالتهم المخدرة تدفعهم لممارسة التحرش وماهو في حكمه وفي
إطار تهيئة نفسية لمهام قذرة يقومون عليها ويؤمرون بها.
ننهي هذا المقال
بالحديث عن الموقف الأخلاقي الثابت الذي لا تجوز فيه الشماتة أو التشفي،
وقد يغلب على بعض المواقف ضغوط الآني على الثابت الأخلاقي والوقوع فريسة
للاستقطاب السياسي الذي أثقل القلوب والعقول وضغط على المواقف، أيها
السادة إلا الأعراض والشرف، ليس هناك مبرر للخروج على الثابت الأخلاقي
والثابت السياسي، لأن المهم أن الاغتصاب السياسي هو أصل تمرير التحرش
الأخلاقي، دعونا ندافع وبكل قوة عن حرمة الانسان وجسده في مواجهة ترويعه
وتعذيبه وانتهاكه، ومحاولة قتله وقبره وحرقه وخنقه، أو العبث بالجسد
وانتهاكه تحرشا واستهتارات بالعدوان الأخلاقي والتحرشي، إنها حرمة الانسان
فى الكيان والبنيان، والمواقف القيمية الثابتة هي التي تنتصر فى النهاية،
والقيم لا تتجزأ ومعركة القيم لا انتقاء فيها ولا ازدواج، والحرمات واحدة
ثابتة لا تتعلق بنفس دون نفس حتى اختلفت عن بعضها من أي جهة، ولا يصح إلا
الصحيح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق