ويلٌ لقاضٍ ظالم من قاضى السماء
بقلم: عامر شماخ
جُعل
القضاء لإقامة العدل، وتطبيق الشرع وتنفيذ القصاص، فهو حياة الخلق، وميزان
تنضبط به البشرية وتتميز عن عالم الحيوان والغاب، حتى عُدَّ ضمن أبواب
الإمامة فى المسلمين، ما يتطلب أن يكون القاضى عالمًا بأمور الحكم
والسياسة، فقيهًا مفتيًا، خبيرًا بأمور الدنيا والآخرة، ورعًا تقيًا نقيًا.
وما
استثنى الله تعالى نبيًا من أنبيائه أو وليًا من أوليائه، إلا أوصاه
بإقامة العدل والحكم بالحق، ونبذ الهوى وعدم الجور، وإلا صبّ عليه اللعنات،
وخيب سعيه وأبعده عن رحمته، يقول الله تعالى مخاطبًا داود عليه السلام: {يَا دَاوُودُ إنَّا
جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ
ولا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إنَّ الَّذِينَ
يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا
يَوْمَ الْحِسَابِ} [سورة ص: 26].
والقاضى
العادل القائم بالحق بين الناس له جزاؤه الذى يليق به؛ لاجتهاده وصبره فى
تأدية دوره الذى أوكله الله إليه، يقول النبى صلى الله عليه وسلم: «إن
المقسطين عند الله تعالى على منابر من نور، على يمين الرحمن، الذين يعدلون
فى حكمهم وأهليهم وما ولوا» [رواه مسلم].. ومع ذلك فإن كثيرًا من هؤلاء
الورعين على خطر من أمرهم يوم القيامة، يوم الفصل بين العباد، لخطورة تلك
الوظيفة وكثرة الشبهات حولها، يقول النبى صلى الله عليه وسلم: «يؤتى
بالقاضى العدل يوم القيامة، فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أن لم يقض بين
اثنين فى تمرة قط».
هى
إذًا مهمة خطيرة، لا يقدر خطرها ويهرب من حملها إلا عالم بالكتاب والسنة،
يدرك معانى الحق والظلم، والعدل والجور، ويدرك أن هناك إلهًا يحصى عليه
الصغير والكبير والفتيل والقطير، يقول النبى صلى الله عليه وسلم: «من ولى
القضاء أو جعل قاضيًا فقد ذبح بغير سكين» [الترمذى، ابن ماجة]، ويقول
أيضًا: «القضاة ثلاثة: واحد فى الجنة واثنان فى النار؛ فأما الذى فى الجنة
فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار فى الحكم فهو فى النار، ورجل
قضى للناس على جهل فهو فى النار» [أبو داود].
وللأسف،
مازالت عُرى الإسلام تنقض عروة عروة حتى طال القضاء ما طال الحكم
والإمارة، فصار جبريًا، ظلمه أكثر من عدله، وضرره أكثر من نفعه، ومازالت
المظالم تنتشر وتسود بيد قضاة السوء حتى عمّ البلاء والغلاء والرشا
والرذيلة والمحسوبية، فليس لها من دون الله كاشفة..
وإن
كثيرًا من القضاة لا يعلمون ما يحملونه من مسئوليات وأمانات، وأن بإمكانهم
أن يصلوا بشعوبهم إلى قمم التقدم والحضارة -إن هم أقاموا فيهم العدل
والحق، كما أن بإمكانهم أن ينشروا الفوضى ويقسموا الأمة ويجعلوها غابة
يحكمها شياطين الإنس- إن هم مالوا وبغوا وانحازوا وقلبوا موازين العدالة
التى أمر الله بالأ تميل.. وهذا ما جعل الإمام ابن تيمية يقول: «إن الله
ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت
مؤمنة».
فهل
يعلم القاضى أنه يمكن أن يكون مفتاحًا للخير؟، ويمكن أن يكون - فى المقابل
- مفتاحًا للشر؟! وعليه أن يختار لنفسه الدور الذى يحبه، فيمكن أن يدعو له
المتقاضون ويتمنون له الخير، ويمكن أن تظل الأكف مرفوعة بالدعاء عليه حتى
يأخذه الله أو يصب عليه المصائب صبًا استجابة لدعوة مظلوم ليس بينها وبين
الله حجاب.. وقد جاء فى الأثر القدسى: «أن يا عبادى: الخير بيدى والشر
بيدى، فطوبى لمن قدرت على يده الخير، والويل لمن قدرت على يده الشر».
إنه
إذا ضل القاضى يجرى عليه ما يجرى على الظالمين من سوء العاقبة والنكال فى
الدارين، يقول النبى صلى الله عليه وسلم: «إن الله مع القاضى ما لم يجر،
فإن جار تخلى الله عنه ولزمه الشيطان» [رواه الترمذى]، ويقول صلى الله عليه
وسلم: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه
الجنة، فقال له رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟! قال: وإن قضيبًا
من أراك».
إنه
لا ظلم أبشع من ظلم القاضى لأحد المتقاضين، وتبرئة خصمه أو إعطائه ما لا
يستحقه؛ إذ يستوجب ذلك تدخل العناية الإلهية لدفع هذا القبح، فتحل على مثل
هذا القاضى لعنات الله وغضبه وإبعاده من رحمته التى وسعت كل شىء، وهو ما
لخصه الأثر الشعرى الشهير:
إذا خان الأمير وكاتباه
وقاضى الأرض داهن فى القضاء
فويل ثم ويل ثم ويل
لقاضى الأرض من قاضى السماء
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق