وائل قنديل :
مصر "بتقلش"
وائل قنديل
مع بداية حملة الهلوسة القومية، قلت إن عبد الفتاح السيسي لم يطلق وهما اسمه مشروع حفر قناة سويس جديدة فقط، بل أطلق، منذ اليوم الأول لسنة حكمه التعيسة، مشروعا لحفر قنوات من الدجل والشعوذة السياسية، يهيمن بها على بسطاء المصريين.
هذا هو النجاح الحقيقي للسيسي: تدمير خلايا الوعي والتفكير لدى المواطن، بحيث يقبل بكل ما يقوله الجنرالات، من دون أن يكلف نفسه مشقة التساؤل أو المعرفة، ويعتبر كل ما يأتي على لسان معارضيه الشر المطلق.
قبل يومين، كتبت عن صحيفة إلكترونية ساخرة، تمارس جنونا إعلاميا، فتنشر أخبارا أقرب للخيال منها إلى الواقع، وتعترف بذلك، أي لا تخدع قارئها، بقدر ما تحاول أن تحاكي الهذيان الطافح في جنبات الإعلام المصري هذه الأيام.
وعلى الرغم من أنني نبهت، في المقال، إلى أن الصحيفة التي أشرت إليها تؤكد أن ما تنشره ليس أخبارا، بل ما يشبه الأخبار، إلا أن تآكل المساحات بين الخرافة والحقيقة في مصر جعل كثيرين يأخذون ما تنشره مأخذ الجد.
أمس، نشرت الصحيفة المتخصصة في ممارسة "القلش"، بلغة شباب هذه الأيام، خبرا عن هروب صحافي مصر مطرود حديثا من جنة السيسي إلى المكسيك لتولي رئاسة تحرير "الأهرام المكسيكية" التي تسخر من هلوسة الواقع، بالتعبير عنه بنوع من الهلوسة المهنية.
المفاجأة الحقيقية أنني بعد ما نشرت هذه النكتة المكسيكية، وجدت زملاء صحافيين يلفتون نظري إلى أن "الخبر الذي وضعته كمشاركة على صفحتي الشخصية غير صحيح، كمان أن "الأهرام المكسيكية" اعتادت الفبركة"، بل هناك من امتشق قلمه وتناول ما تنشره هذه الصحيفة من نكات لاذعة، باعتبارها أخبارا مغلوطة تعبر عن انهيار في مهنة الإعلام.
بصرف النظر عن أن تعاطي صحافيين مع هذا المزاح الإلكتروني على هذا النحو، بحد ذاته، نكتة، فإن دلالة ذلك مخيفة حقا، فالجمهور يقترب حثيثا من فقدان القدرة على التمييز بين الحقيقي والزائف، بين الدولة وما يشبه الدولة، بين الدولة والمشروع القومي والهلوسة القومية.
وبالطبع، لا يوافق أحد على العبث بالمهنة، غير أن إدانة العبث ينبغي أن تكون مبدأ ثابتا، بحيث لا تتلون المواقف، أو تتبدل، حسب الأهواء، وبمسطرة قياس موضوعية، فإن ما يطفو فوق مياه الإعلام المصري، حاليا، لا نظير له في كل عصور العبث.. أو "القلش" باللغة الجديدة.
عبد الفتاح السيسي ورجاله، عسكريين ومدنيين، هم الأكثر "قلشا" والأشد عبثا، مما تقدمه صحيفة ساخرة، أو برنامج فكاهي على "يوتيوب"، ومنذ بداية الانقلاب، وحتى الآن و"قلشات السيسي" لا تعد ولا تحصى، من السياسة إلى الاقتصاد، إلى الإعلام. وهل أكثر قلشا من "مسافة السكة"، ومن الأحلام المفبركة ببلادة مهنية، ومن قائمة طويلة من المشروعات الوهمية، ومن خطاب إعلامي لا يناسب عقل طفل في مقتبل تعليمه الابتدائي؟
مصر كلها" تقلش" فلماذا يعتبر بعضهم "القلش الرسمي"، إبداعا وإعجازا، بينما غير الرسمي جرائم مهنية؟
الإصرار على مسمى" قناة السويس الجديد" أيضا إمعان في القلش، مع سبق الإصرار والترصد، ولا معنى له سوى أن هذه السلطة تسلك، وهي مطمئنة تماما، إلى نجاح عملية استئصال غدد الفهم وخلايا الوعي، خصوصا مع انهمار التقارير والدراسات من الداخل والخارج، تقول إن حجم تفريعة السيسي أقل من تفريعات أخرى عديدة سبقت، ومع اضطرار الحكومة إلى لعق تصريحاتها السابقة عن مئات المليارات التي ستغرق المصريين، ومع شهادات عالمية تقول إن التوسعة لن تفيد كثيراً حركة التجارة الدولية، وفائدتها الوحيدة أنها توفر أجواء بروباغندا احتفالية هوجاء، يبحث عنها الحكم العسكري في البلاد.
ويبقى أن الازدواجية في التعامل مع تيار القلش في مصر لا تختلف عن الازدواجية في التعامل مع الإرهاب، فبينما تساق الدنيا بأسرها إلى الحرب على "دواعش التنظيمات"، يصاب المجتمع الدولي بالخرس أمام إرهاب أسوأ صادر من "دواعش الأنظمة".. لتصل إلى قمة "القلش" مع استخدام أنظمة انقلابية في محاربة مشاريع انقلاب أخرى، أو أن تتحول جامعة الدول العربية من كيان عربي جامع إلى غرفة ملحقة ببيت عبد الفتاح السيسي، تشمر عن ساعدها، وتدين العملية التركية ضد الإرهاب في سورية، وقبل ذلك تصفق لقصف الطائرات المصرية ليبيا.
--------------
العربي الجديد
في 6 أغسطس 2015
مصر "بتقلش"
وائل قنديل
مع بداية حملة الهلوسة القومية، قلت إن عبد الفتاح السيسي لم يطلق وهما اسمه مشروع حفر قناة سويس جديدة فقط، بل أطلق، منذ اليوم الأول لسنة حكمه التعيسة، مشروعا لحفر قنوات من الدجل والشعوذة السياسية، يهيمن بها على بسطاء المصريين.
هذا هو النجاح الحقيقي للسيسي: تدمير خلايا الوعي والتفكير لدى المواطن، بحيث يقبل بكل ما يقوله الجنرالات، من دون أن يكلف نفسه مشقة التساؤل أو المعرفة، ويعتبر كل ما يأتي على لسان معارضيه الشر المطلق.
قبل يومين، كتبت عن صحيفة إلكترونية ساخرة، تمارس جنونا إعلاميا، فتنشر أخبارا أقرب للخيال منها إلى الواقع، وتعترف بذلك، أي لا تخدع قارئها، بقدر ما تحاول أن تحاكي الهذيان الطافح في جنبات الإعلام المصري هذه الأيام.
وعلى الرغم من أنني نبهت، في المقال، إلى أن الصحيفة التي أشرت إليها تؤكد أن ما تنشره ليس أخبارا، بل ما يشبه الأخبار، إلا أن تآكل المساحات بين الخرافة والحقيقة في مصر جعل كثيرين يأخذون ما تنشره مأخذ الجد.
أمس، نشرت الصحيفة المتخصصة في ممارسة "القلش"، بلغة شباب هذه الأيام، خبرا عن هروب صحافي مصر مطرود حديثا من جنة السيسي إلى المكسيك لتولي رئاسة تحرير "الأهرام المكسيكية" التي تسخر من هلوسة الواقع، بالتعبير عنه بنوع من الهلوسة المهنية.
المفاجأة الحقيقية أنني بعد ما نشرت هذه النكتة المكسيكية، وجدت زملاء صحافيين يلفتون نظري إلى أن "الخبر الذي وضعته كمشاركة على صفحتي الشخصية غير صحيح، كمان أن "الأهرام المكسيكية" اعتادت الفبركة"، بل هناك من امتشق قلمه وتناول ما تنشره هذه الصحيفة من نكات لاذعة، باعتبارها أخبارا مغلوطة تعبر عن انهيار في مهنة الإعلام.
بصرف النظر عن أن تعاطي صحافيين مع هذا المزاح الإلكتروني على هذا النحو، بحد ذاته، نكتة، فإن دلالة ذلك مخيفة حقا، فالجمهور يقترب حثيثا من فقدان القدرة على التمييز بين الحقيقي والزائف، بين الدولة وما يشبه الدولة، بين الدولة والمشروع القومي والهلوسة القومية.
وبالطبع، لا يوافق أحد على العبث بالمهنة، غير أن إدانة العبث ينبغي أن تكون مبدأ ثابتا، بحيث لا تتلون المواقف، أو تتبدل، حسب الأهواء، وبمسطرة قياس موضوعية، فإن ما يطفو فوق مياه الإعلام المصري، حاليا، لا نظير له في كل عصور العبث.. أو "القلش" باللغة الجديدة.
عبد الفتاح السيسي ورجاله، عسكريين ومدنيين، هم الأكثر "قلشا" والأشد عبثا، مما تقدمه صحيفة ساخرة، أو برنامج فكاهي على "يوتيوب"، ومنذ بداية الانقلاب، وحتى الآن و"قلشات السيسي" لا تعد ولا تحصى، من السياسة إلى الاقتصاد، إلى الإعلام. وهل أكثر قلشا من "مسافة السكة"، ومن الأحلام المفبركة ببلادة مهنية، ومن قائمة طويلة من المشروعات الوهمية، ومن خطاب إعلامي لا يناسب عقل طفل في مقتبل تعليمه الابتدائي؟
مصر كلها" تقلش" فلماذا يعتبر بعضهم "القلش الرسمي"، إبداعا وإعجازا، بينما غير الرسمي جرائم مهنية؟
الإصرار على مسمى" قناة السويس الجديد" أيضا إمعان في القلش، مع سبق الإصرار والترصد، ولا معنى له سوى أن هذه السلطة تسلك، وهي مطمئنة تماما، إلى نجاح عملية استئصال غدد الفهم وخلايا الوعي، خصوصا مع انهمار التقارير والدراسات من الداخل والخارج، تقول إن حجم تفريعة السيسي أقل من تفريعات أخرى عديدة سبقت، ومع اضطرار الحكومة إلى لعق تصريحاتها السابقة عن مئات المليارات التي ستغرق المصريين، ومع شهادات عالمية تقول إن التوسعة لن تفيد كثيراً حركة التجارة الدولية، وفائدتها الوحيدة أنها توفر أجواء بروباغندا احتفالية هوجاء، يبحث عنها الحكم العسكري في البلاد.
ويبقى أن الازدواجية في التعامل مع تيار القلش في مصر لا تختلف عن الازدواجية في التعامل مع الإرهاب، فبينما تساق الدنيا بأسرها إلى الحرب على "دواعش التنظيمات"، يصاب المجتمع الدولي بالخرس أمام إرهاب أسوأ صادر من "دواعش الأنظمة".. لتصل إلى قمة "القلش" مع استخدام أنظمة انقلابية في محاربة مشاريع انقلاب أخرى، أو أن تتحول جامعة الدول العربية من كيان عربي جامع إلى غرفة ملحقة ببيت عبد الفتاح السيسي، تشمر عن ساعدها، وتدين العملية التركية ضد الإرهاب في سورية، وقبل ذلك تصفق لقصف الطائرات المصرية ليبيا.
--------------
العربي الجديد
في 6 أغسطس 2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق