درس من الديمقراطيات الراسخة ..هل أمريكا هي أصل الداء؟؟
بقلم محمد جعفر
كاتب وباحث - مركز الديمقراطية ودعم حقوق الإنسان - القاهرة
حدثني أحد السفراء المصريين المخضرمين، قد
التقيته عندما كنت أراقب انتخابات مجلس الشعب في عام 2005 كمراقب معتمد من
اللجنة العليا للانتخابات بوزارة العدل عن المنظمة المصرية لحقوق الإنسان،
عن أنه كان يشعر بالحرج عندما كانت توفده الدولة المصرية لمراقبة
الانتخابات في دول أخرى، وبيان إذا تمتعت تلك الانتخابات بالنزاهة
والشفافية حتى يتسنى لحكومتنا الرشيدة رسم سياستها الخارجية نحو تلك الدول
بناء علي التقارير الواردة عن مدى احترامها لقواعد الديمقراطية كحرية
التعبير والتداول السلمي السلطة؛ إذ إن باقي المراقبين كانوا ينظرون للعرب
على أنهم آخر من يتكلم عن حقوق الإنسان لما يقترفونه من فظاعات في هذا
المجال.
تلك المفارقة كانت محل حرج؛ إذ إن التقارير
التي غالبا ما كانت تتسم بالدقة والموضوعية كانت في الأساس موجهه إلي
حكومات تدير واقعا حقوقيا مأزوما خارج نطاق المعايير الدولية وما نصت عليه
المواثيق والاتفاقيات والعهود..
واليوم يمر العالم الغربي بذات المأزق بعد
التقرير الذي أعده الكونجرس في خمسة أعوام، وبلغ عدد صفحاته ستة آلاف صفحة
أفرج منها عن 480 فقط، رصدت خلالها اللجنة المكلفة بالإعداد وقائع التعذيب
ضد المتهمين بالإرهاب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 فقد جاء
التقرير صادما ومخزيا.
ولعل السياحة في النذر اليسير من التقرير
يخبرك بمدى فداحة ما تم إخفاؤه عن الباحثين في سجلات الدول صاحبة
الديمقراطيات "العريقة والراسخة".
فقد أعطى الرئيس جورج بوش الابن بحسب
التقرير لوكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أيه) سلطة ملاحقة، واعتقال،
وقتل عناصر تنظيم القاعدة حول العالم بموجب أمر تنفيذي وقعه بوش في فبراير
عام 2002 أقر بموجبه أن المادة 3 لاتفاقية جنيف الخاصة بحظر التعذيب،
والتشويه، والمعاملة القاسية لا تنطبق على معتقلي طالبان أو القاعدة وفي
نفس العام أصدر رئيس مكتب الاستشارات القانونية بوزارة العدل مذكرة أعطى
بموجبها «سي آي أيه» حق استخدام أساليب التعذيب القاسية ضد خصوم الولايات
المتحدة وهي رخصة للتعذيب والتنكيل وصلت فيما بعد إلى حد الانتقام والتشفي
نقل "المفرج عنه من التقرير" جانبا منه وهو يصور عدة وسائل قاسية استخدمتها
وكالة الاستخبارات الأمريكية أثناء التحقيق مع المتهمين بالإرهاب أو
الانتماء إلى تنظيم القاعدة، كان من بينها: الإيهام بالغرق، والمنع من
النوم لمدة تصل إلى أسبوع، والتهديد بالقتل، والإطعام القسري عبر فتحة
الشرج، ونزع الملابس عن المعتقلين، والتحرش الجنسي بهم مما أدي إلي مقتل
أحد المعتقلين، وفقدان أخر لعينه ووصف التقرير إصابة الكثير من المحتجزين
إلى اضطرابات نفسية وسلوكية، كالهلاوس، وجنون الاضطهاد، والأرق، والنزعات
الانتحارية وتعذيب النفس.
أورد التقرير أيضا أن وكالة الاستخبارات
الأمريكية فرضت نوعا من التكتم والسرية والتضليل عن برامج الاستجواب واخفت
بعض المعلومات وشوهت بعضها بل وقفت حجر عثرة في طريق الوصول إلي معلومات
صحيحة ومدققة عندما تنصلت من الإجابة عن التساؤلات الموجهة إليهم عن طبيعة
وكيفية وأماكن الاستجواب وعدد الموقوفين.
كما أكد التقرير تورط عدد من الدول الغربية
والعربية في تلك الانتهاكات ضد المعتقلين وأكد أيضا أن هذا البرنامج لم
ينجح في انتزاع معلومات هامه و مؤثرة الأمر الذي يعني فشله في الغرض الذي
تشكل من أجله.
والخلاصة في تقديري أن الدول الغربية
"الراسخة ديمقراطيا" وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية تبدوا انتقائية
في تطبيق قيم حقوق الإنسان إذا تقاطعت مع مصالحها وهي خلاصة باتت واضحة
ويمكن حشد مئات الأدلة والشواهد التاريخية والآنية علي صحتها يأتي في هذا
السياق تشجيع الغرب والولايات المتحدة تحديدا للأنظمة الدكتاتورية وغض
الطرف عن سجلاتها السوداء في مجال حقوق الإنسان طالما أنها مخلصة في تنفذ
المطلوب منها , سائرة في ركاب المشروع الغربي وتحقيق أهدافه . وقد كان دور
تلك الدول واضحا فيما يخص التعذيب بالوكالة عن العم سام في سجون سرية علي
أراضيها وصفها التقرير بـ "المواقع السوداء".
غير أن التقرير رغم فداحة الانتهاكات التي
كشفها لم يتطرق إلى إدانة إدارة بوش أو توجيه الاتهام لمن مارسوا تلك
الجرائم علي غرار التقارير الرسمية المصرية والإسرائيلية التي تأتي ذرا
للرماد في العيون.
بالطبع لا أعرف على وجه التحديد من الذي علم
الآخر والراجح عندي أن الاستخفاف بالإنسان وانتهاك حقوقه وممارسة التمييز
ضده قيم سلبية ناجمة عن الاستبداد والفساد "أصل الداء" وقيد حاكم في سياسات
تلك الدول مهما تغلفت بغلالات رقيقة من "الإجراءات الديمقراطية المصطنعة"
التي تتكشف من وقت لآخر عن وجه قبيح من الازدواجية والتمييز.
على الغرب إذا أن يتحسس إنسانيته أولا عند
الحديث إلي الآخرين عن قيم مثالية مثل الصدق والعدل والمحاسبة والشفافية
واحترام الحقوق والحريات وعلي الأمم المتحدة وهيئاتها الكف عن العمل كوزارة
للخارجية للقوي الكبرى والقيام بالحد الأدنى من مسؤولياتها أو إعلان فشلها
في توفير السلام للإنسان أو حتى الحد من انتهاك آدميته وعلي الشعوب القيام
بثورة عالمية علي الاستبداد والفساد الكامن في كل زاوية من زوايا الأنظمة
البالية والمؤسسات الدولية المنحازة للوصول إلي نظم محلية وإقليمية وعالمية
عادلة تلبي أشواق الإنسان في احترام إنسانيته وتوفير الأمن والسلام
والحرية والمساواة والشفافية والمحاسبية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق