المصريون يعيدون اكتشاف أنفسهم
بقلم: ماهر إبراهيم جعوان
لابد للأمة من ميلاد ولابد للميلاد من مخاض ولابد للمخاض من آلام.
المصريون
يعيدون اكتشاف أنفسهم من جديد، يشكلون ذاتهم ووعيهم وتاريخهم وحاضرهم
ومستقبلهم ومجدهم، فلا شك أن ما يحدث الآن من حراك في الشارع وتمايز بين
الصفوف إنما هو إعادة اكتشاف الذات وإعادة بناء الشخصية المصرية الحقيقية، والتي غابت في طي النسيان بفعل الطغاة أعواما طوال.
فقد تحمل المصريون عذابات ومشقات بلا حدود وبلا نهاية، لاسيما حين تتدخل المؤسسة العسكرية في إدارة شئون البلاد.
غريبة هي حياة المصريين تطورت بشكل متناقض وسريع.
فقبل
ثورة 1952م كانت هناك صفات مميزة للمصريين، من الشهامة والمروءة ومقاومة
المستعمر والتضحية والفداء والجهاد والحرية والكرامة والمشاركة الجماهيرية
واحترام الكبير والعطف على الصغير وكبير العائلة وصلة الأرحام وتقديم الغير
على النفس، فكانت المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة والمصلحة
الجماعية قبل المصلحة الفردية.
وبعد
ثورة 1952م تغيرت الجينات الوراثية للمصريين بفعل أباطيل وأكاذيب العسكر،
فقلبوا الحقيقة وخونوا الأمين وصدَّقوا الكاذب واستذلوا الأحرار وسجنوا
الشرفاء وشوهوا صورة الإسلام والمسلمين فأبعدوا كل ما هو إسلامي وعلمنوا
الحياة وأذلوا العباد سجنا واعتقالا وقتلا ونكسوا راية البلاد فأضاعوا
سيناء وغزة وفصلت السودان وقتل جنودنا في اليمن وفي 56م و67م وفشلت الوحدة
مع السوريين. فتحولت كثير من نفوس المصريين إلى الخوف والجبن والخضوع
والخنوع واللامبالاة والسكوت عن الحق وامشِ جنب الحائط وماليش دعوة والحائط
له ودان وها روح وراء الشمس والجري خلف لقمة العيش وشيء من الأنانية وما
يحتاجه البيت يحرم على الجامع وأنا وأخويا على بن عمي وأنا وابن عمي على
الغريب.
وبعد
ثورة 25 يناير 2011م أسقط رأس النظام، وتنفس المصريون الصعداء وجاهدوا
للوصول إلى استقرار تشريعي ورئاسي، فكانت انتخابات الشعب والشورى والرئاسة،
وبدأت الدولة في الوقوف على قدميها ولكن ظلت خفافيش العسكر تتحرك وتحوم في
الظلام تخرج سمومها. فبعدما سار الشعب في بداية طريق الحرية عادت الأيادي
الخفية لدولة العسكر السحيقة العميقة تتلاعب بالضعفاء تشتت انتباههم وتضعف
عزمهم وتصرفهم عن أهدافهم وثوابتهم وتفتعل أزمات ومشكلات وتضعف المؤسسات
وتعوق النجاحات وتظهر السوءات وتعلي الأنا والذات وتخون الآخر وتقسم
المجتمع وتقدمت المصلحة الخاصة على العامة والفردية على الجماعية.
فحدثت
حالة من فوضى ممارسة الحرية، وحالة من حالات الإسهال اللفظي تنتاب
الكثيرين دون ضبط لعملية الإخراج ندعو لكل من أصيب به بالشفاء العاجل.
وتوج كل ذلك بالانقلاب العسكري 3/7/2013م المقيت البغيض الذي تلاعب بإرادة المصريين وأصواتهم واختياراتهم وقلب الطاولة رأسا على عقب.
وعادت
دولة مبارك الظالمة مرة أخرى بالانتقام والتنكيل والإباحية المطلقة مدعومة
من الكنيسة وحزب الزور العلماني ورؤوس الفساد القديمة، لاسيما بعد فض
اعتصامي رابعة والنهضة 14/8/2013م وقتل وحرق وسجن واعتقال وإصابة الآلاف من
المصريين الذي ينادون بالحرية والشرعية الدستورية والقانونية.
وهب الشعب من جديد يتدفق من كل حدب وصوب يلحق آخره أوله لتنجلي الحقائق رويدا رويدا وتظهر بشاعة الجرم الذي تعرض له الشعب.
ومازلنا
في انتظار أن تخرج الثورة أجمل ما فينا (أخلاقنا الأساسية والإسلامية) بكل
ما فيها من روعة وإخلاص وصدق وحب وانتماء، فأخلاقنا تحتاج إلى ثورة
إنسانية وضمير حي، فكثير من مشكلاتنا مرجعها لقلة الضمير أو انعدامه ببعض
الأحيان، ولكي نغير مصرنا العزيزة فلابد أن نغير أنفسنا أولاً
(إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ).
كم
هي عظيمة هذه الشدائد التي تظهر معادن الرجال وأثر التربية المتكاملة
الشاملة في حياتهم وأهدافهم وتضحياتهم ومبادئهم ليميز الله الخبيث من الطيب
ولتتمايز الصفوف وتظهر رواحل المجتمع الحقيقية (النَّاسُ كإبلٍ مائةٍ لا
تَكادُ تجدُ فيها راحِلةً).
فبعد
ظهور خيانة الخائنين وحقد الحاقدين ومكر الماكرين ومؤامرات المتآمرين
ودموية الانقلابين ونفاق المنافقين وتواطؤ المتواطئين وإجرام المجرمين
سافكي دماء الركع السجود (السلميين المسالمين مطالبي الحرية وإقرار
الشرعية) ومحاصري بيوت الله وحارقي كتابه يحادون الله ورسوله خونة البلاد
والعباد ناكثي العهود والعقود أذلاء العصر.
ورب
ضارة نافعة، فتوحدت الأمة من جديد واستيقظت جينات العزة والكرامة في نفوس
الشعوب الأبية من جديد، فاستعذبت المعاناة وافترشت الشوارع والميادين
وانطلقت من بيوت الله تضحي بوقتها وجهدها وأموالها وأنفسها وكل غال وثمين
فداء لدينها وحريتها وشرعيتها.
تغيرت الجينات الوراثية للمصريين لتعود إلى أصلها بعد إزاحة غبار وغبش الكذابين الأفاقين من عليها.
عادت
الأمة من جديد لتصدع بكلمة الحق عند سلطان جائر خائن. وأظهر الشعب المصري
علامات بارزة ومعاني غاية في الوفاء لهذا الوطن الكريم، فبذل من التضحية
والفداء ما الله به عليم، وبرهن بما لا يدع مجالا للشك أن حب الوطن
والانتماء إليه ليس شعارا أو جنسية أو أرضاً أو عَلماً أو موقعاً أو شهادة
ميلاد فقط، بل الانتماء روح وحب وإحساس وتضحية وفداء والتزام وخلق وسلوك
وأمانة ودعوة ورسالة وقدوة وعلم وعمل وتفوق وتقدم وإجادة وتفاهم وقناعة
وأدب وتسامح وحوار وذوق عال ومسئولية وكرامة وحرية وريادة ومكانة سامية بين
الأمم.
والعمل
للوطن مسئولية الجميع بكل انتماءاتهم الفكرية والثقافية والعقائدية،
والصادق من يشغله العمل والبناء وهموم الوطن عن نفسه، فمن عاش لنفسه عاش
صغيرا ومات وحيدا، ومن عاش لغيره امتد أثره في الحياة وبعد الممات.
(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق