الطلاب يواجهون فاشية العسكر
بقلم: محمود إبراهيم صديق
لا
يمتلكون أجندات سياسية، فلم يكن لديهم مرشحون للرئاسة ولا يخططون للدخول
في قوائم انتخابات برلمانية. أقسموا أن يعيشوا أحرارا بصدورهم العارية وأن
يعيدوا المجد لأوطانهم.
هم
الرجال أقسموا أن يركِّعوا حفنة الجنرالات بصلابة الميادين. يقهرون الظلم
والبطش والفساد. ليسوا ممن يجيدون التفاوض أو الجلوس على المائدة
المستديرة.
لا
تعبثوا معهم أيها الساقطون في الوحل، فهم أشرف من أن يجلسوا معكم. هم
أصحاب القرار، لا تحاولوا مخادعتهم، إنهم أشرف وأنبل من يسير على تراب
الوطن الآن. أقسموا أن يبنوا شراعا لسفينة الوطن بأرواحهم. نفوس لم تلوثها
السياسة، لا تحاول أن تضع تصورا لبيوت تربى فيها هؤلاء من العزة والشرف
والأخلاق وحب الوطن والتضحية.
كذا
لن تفهم كيف يخرج هؤلاء بصدور عارية وهم لم يتجاوزوا العشرين من عمرهم
أمام مصفحات وآليات وقلوب سوداء وعقول مجردة من فهم الحقائق، وأشباه رجال
يحتمون في سلاحهم. استطاعوا أن يقدموا نموذجا في توحد الاتجاه والتحرك ضد
الانقلاب والظلم على اختلاف أيدولوجياتهم وانتمائهم. أعادوا تجميع الكتلة الصلبة داخل المجتمع لمواجهه الانقلاب وكسر القيد والعودة بمصر إلى مكانتها.
هؤلاء
الشباب كانوا أيضا في الماضي يدافعون عن وطنهم، فهم ليسوا نتاج أحداث يمر
بها الوطن. هم أنفسهم امتداد لجيل خرج في السابق بعد النكسة 1967. ساعتها أدرك الطلاب أن هناك احتلالا
لابد من مواجهته، وفي ذات الوقت هناك غياب للحريات السياسية داخل الدولة في
عهد عبد الناصر وتفشٍّ لعلامات الشيخوخة في نظام سياسي يجب مواجهته. ما
دفع الطلاب إلى أن ينادوا بالديمقراطية وإصلاح أوضاع الداخل ومن أجل مواجهة
العدو واسترداد الأرض والكرامة.
ولعل قضية ضباط سلاح الطيران المتهمين بالإهمال عقب نكسة يونيو بمثابة
الشرارة التي أشعلت الغضب المدفون داخل الطلاب. وأظهرت الاحتجاجات مطالب
عاجلة ترمي في اتجاه إصلاح الأخطاء والجرائم التي ارتكبها نظام عبد الناصر.
وبدأت مظاهرات الطلاب بعد الأنباء التي انتشرت تفضح قمع الشرطة لمظاهرات
العمال وصلت إحدى هذه المظاهرات يومها إلى مجلس الأمة.
ولكن
العسكر بالأمس هم نفسهم اليوم لم يفهموا أن الحياة تتغير، وآن لعقولهم
المتوقفة سنين من الزمن أن تتغير وتتفهم وأن عليهم أن يدركوا أن العالم من
حولهم يتقدم بسرعات تعجز عقولهم الضئيلة أن تتفهمها وأن عليهم أن يلزموا
أماكنهم في حماية الدولة بدلا من العبث فيما لا يدركونه.
السادات
يومها أقسم للطلاب بشرفه أنهم لن يتعرضوا للاعتقال إثر تسجيل أسمائهم قبل
انتهاء الاجتماع، وأعطاهم رقم تليفونه الخاص للاتصال به حالة حدوث ذلك.
ولكن تطمينات السادات كانت وهمية، فقد تم اعتقال الطلاب من منازلهم في نفس
الليلة!!!! فقط عليك أن تفهم أنك أمام أناس لا يعرفون الأخلاق أو احترام
كلمتهم أمام أبناء وطنهم.
أعود
إلى ذلك التاريخ محاولا إثبات أن العقلية العقيمة التي تدير الآن لم تتغير
منذ أكثر من أربعين عاما. في اليوم التالي قرر طلاب كلية الهندسة - جامعة
القاهرة - تنظيم اعتصام برغم أن الحكومة قررت تعطيل الدراسة في 25 فبراير.
وحاصرت الشرطة الكلية حيث ألقى الطلاب الحجارة على قوات مكافحة الشغب مما
جعل الشرطة تلجأ إلى الضغط على الطلاب من خلال الأساتذة وأولياء الأمور لفض
الاعتصام.
قد
تجدون شيئا من الدهشة لو أني ذكرت لكم مطالب طلاب كلية الهندسة يومها،
لأدركتم أن العقول التي تحكم مصر الآن لم تتحرك خطوة واحدة في اتجاه
التفكير للأمام، فقد كان على رأس مطالبهم: الإفراج الفوري عن الطلاب – حرية
الرأي والصحافة – إبعاد المخابرات والمباحث عن الجامعات – إلغاء القوانين
المقيدة للحريات ووقف العمل بها – التحقيق الجدي في حادث العمال في حلوان –
التحقيق في انتهاك حرمة الجامعات واعتداء الشرطة على الطلاب.
وجد
عبد الناصر أن نظامه مستهدف وأنه يفقد شرعيته يوما بعد يوم. ولم يعبأ هؤلاء
الرجال يومها بصحافته، وعلى رأسها الأستاذ هيكل الذي أخذ يرد أن احتجاجات
الطلبة ضد أحكام الطيران فقط ليست إلى عبد الناصر ونظامه ولا حديث عن حريات
غائبة وديمقراطية في القبر وشرعية باتت تختفي شيئا فشيئا. هو نفسه هيكل
الكاهن الأكبر وبقايا صنم عبد الناصر من يدير لهم معركتهم بعد أكثر من
اثنين وأربعين عاما.
السؤال
الآن: هل تجد مطلبا من مطالب الطلاب بالأمس تحقق إلى اليوم بعد أكثر من
أربعين عاما في ظل عقليات عقيمة وحفنة من العجائز تحكم مصر؟!
الفارق
هو أن الطلاب يومها كانوا ساخطين على هزيمة الجيش وعندهم عدم رضا عن أسلوب
كامل في الحكم. واليوم هم ساخطون أيضا على هزيمة القيم ونظرة الشعب لجيشه
في الشوارع والميادين.
نخرج
إلى العالم.. ظل سوهارتو متسلطا ومستبدا بحكم إندونيسيا لمدة 32 عاما
متصلة، كان فيها رجل إندونيسيا وحاكمها المطلق. خرجت مظاهرة طلابية في إحدى
الجامعات الإندونيسية بالعاصمة جاكرتا تهتف ضد رئيس الجمهورية، كان
سوهارتو يومها في زيارة القاهرة لحضور مؤتمر دول الـ15. لم يكن يدرك تلك
الطاقة الكبيرة التي تحرك الطلاب لنيل حريتهم والتحرر من عبودية الحاكم
الأوحد، وانضم إليهم عدد كبير من الشعب، وعاد سوهارتو ليجد البرلمان تحت
الحصار، والجيش يستعد للهجوم على الطلاب، هذه القوى التي أصبحت مليونية لم
يكن لها برنامج محدد، لكن هذا لم يمنع أنه كان لهم هدف واحد: هو إسقاط
سوهارتو.
في
اليوم التالي خرج سوهارتو ليعلن استقالته أمام الجميع ويكلف بحر الدين يوسف
بإدارة البلاد أمام صمود طلاب لا يعبئون بحسابات القوى ولا ألاعيب السياسة
ولا ما يدور في الغرف المغلقة إلا أن ينادوا بالحرية.
من هنا
أقول: إن الطلاب في فرنسا ليسوا أكثر منا منطقا وفهما للحريات أو لمطالب
الشعوب والأحرار، وكان للطلاب دور آخر في مايو 1968 في قرار شارل ديجول
إجراء استفتاء حول بقائه في الحكم، وكان وراء ذلك مطالبات باستقالته رغم أن
ديجول صاحب تاريخ سياسي طويل، ومن رواد وقادة الثورة الفرنسية فهو أول
رئيس فرنسي في الجمهورية الخامسة، إلا أنه لم يحصل على نسبه تأييد أسقطته
عن الحكم، في وقت كان فيه أيقونة فرنسا وبطلها في معركتها في الحرب
العالمية الثانية.
يومها
قال (بول سارتر) - الذي كان يوزع بيان الطلاب داخل الحي اللاتيني في باريس -
: هؤلاء هم فرنسا القادمة وأن الامه الفرنسية لن تموت.
أيها
الأباة، أيتها الحرائر، الطلاب والطالبات، بثبات وإقدام تصنعون وجها جديدا
لمصر، وتفرضون واقعا آخر غير الذي يعرفه المتنطعون وأنصاف الرجال ممن
يؤيدون الانقلاب ولا يتفهمون أن الشرف في رفض الظلم والقهر. صمودكم رغم
العنف والحصار والرصاص الحي إنما هو التاريخ يكتب الآن.
بغير
صمودكم لتحول الشعب إلى عبيد عند قادة الانقلاب. أنتم على ثغر الوطن،
ولولاكم لما عادت المعادلة إلى الثوار. لقد كنتم بحق رقما صعبا لم يتوقعه
القاصرون من قادة الانقلاب ورعاع السياسة وأرباب الحانات والساقطون على
صدور العاهرات، ومن يدعمونهم ويرضون الذل والعيش تحت أقدامهم.
ينظر
العالم الآن لمصر بعين أخرى بعد إصراركم وصمودكم. لقد سطرتم وما زلتم ملحمة
من الرجولة والعزة بصدور عارية وسلمية أمام قنابل مسيلة للدموع ورصاص حي
وخرطوش.
الشعب
الآن يستمد من عزمكم الصمود والقوة والغلبة في الحق. شرف لنا عندما ترتقون
أنتم المكانة أمامنا لنتعلم منكم الصمود وحياة الأحرار. يعجز اللسان عن وصف
مسيراتكم. نحن من نعاهدكم أننا على العهد خلف خطاكم نسير. لن نترك
الميادين حتى نحاكم قتلة الشعب ونعود بمصر إلى أبنائها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق