الخميس، 1 ديسمبر 2016

الجهادية (التجنيد الإجباري / الخدمة العسكرية / السخرة) بقلم : عباس المنوفي

الجهادية
(التجنيد الإجباري / الخدمة العسكرية / السخرة)
  بقلم : عباس المنوفي

~~~~~~~~~~~~~~~~~~
.
أحدثك اليوم عن موضوع في منتهى الأهمية والخطورة والحساسية... وقد ترددت كثيرا قبل الحديث في هذا الموضوع لما أعرفه من أثر شديد في إلهاب المشاعر وتهييج الأعصاب، خصوصا عند قيادات العسكر... فهذا الموضوع هو الخط الأحمر وراء جميع الخطوط الحمراء... وهو موضوع تسيل دماء ملايين المصريين من أجله فداء... وإعلم أنك عندما تفتح هذا الموضوع فأنت خائن و عميل وتريد هدم الجيش وهدم البلد وتستحق كل ما يجري عليك من إتهامات...
.
وإنما أثير هذا الموضوع لقناعتي أنه أصل معظم البلاء في مصر... وأنه سبب أساسي في معظم التراجع والإنحطاط الذي شهدته مصر خلال القرنين الماضيين حتي وصلت إلي ما عليه الآن من إنهيار في القاع وما دون الحضيض... وتحولت من أم الدنيا إلي أضحوكة الأمم.
.
ومن المفهوم أن هذا الموضوع لم يتناول في دستور ١٩٧١ نظرا لظروف الحرب... ولم يتناول في دستور ٢٠١٢ إو دستور ٢٠١٣ لأسباب عملية واضحة... إلا أنني علي يقين أنه عندما تفيق مصر من كبوتها الحالية وترجع مرة أخري لمصاف الأمم المحترمة... وعندما ينضم الشعب المصري مرة أخري لركب البشرية... فإن هذا الموضوع سيكون في مقدمة الأولويات...
.
أتحدث عن موضوع "الخدمة العسكرية الإلزامية"... أو بالأصح حول ضرورة إلغائها من الدستور المصري...
.
وإذ أدع لك حرية الإختيار فيما إذا كانت الخدمة العسكرية الإجبارية مفيدة أم بغيضة... أعرض عليك بعض الإفكار التي قد تساعدك في صنع القرار:
.
٭٭٭
.
١. الخدمة العسكرية الإجبارية (الجهادية) هي بدعة إبتدعها محمد علي باشا عندما إستهلك معظم جنوده في مغامراته العسكرية الفاشلة... وبعدما فشل في جلب جنود من اليونان أو عبيد من السودان... فلم يجد أمامه مفر إلا من تجنيد "الفيلاهيين" الأغبياء الأقذار الذين كان يحتقرهم جدا... لكنه لم يكن لديه بديل آخر.
.
وعندما فرض محمد علي الخدمة العسكرية الإلزامية فرضها على أهل الصعيد... فرفض الصعايدة الخدمة الإلزامية وقاموا بثورة ضد محمد علي... وفي قمع هذه الثورة قتل محمد علي خمسة آلاف من الصعايدة (في وقت كان كل تعداد مصر خمسة مليون نسمة) حتي قمع الثورة وأجبر الصعايدة (ومن بعدهم فلاحين بحري) علي الجهادية... وإضطر الفلاحون للدخول في الخدمة العسكرية وإن كانوا يقولون عليها "السخرة"... في تعبير دقيق عن مفهومهم لتلك الوظيفة.
.
صحيح أن نظام "السخرة" قد يكون نافع أحيانا... فبه إستهلك الفراعنة ملايين من أبناء الشعب المصري في بناء الأهرامات والمعابد... وبنظام السخرة تمكنت الأسرة العلوية من شق قناة السويس وحفر الترع والمصارف ومد الطرق والسكك الحديدية حتي أن معظم البنية الأساسية للدولة المصرية الحديثة كانت بنظام السخرة... وفي عهد الإمبراطور حسني مبارك الأول إستخدمت السخرة في مد شبكات التليفونات والكهرباء والغاز الطبيعي وفي بناء الكباري وفي إنتاج الخبز وصناعة المربى.
.
لكن نظام السخرة في العقود الأخيرة تحول إلى عبودية صريحة... حيث يعمل "الجندي المجند" على توصيل أبناء الباشا للمدارس... ثم الإنتظار في السيارة بالساعات أمام النادي بينما زوجة الباشا تقضي وقت مسلي مع صديقاتها... هذا غير مهام التنظيف وزراعة حديقة الفيلا وغيرها من الأعمال التي غالبا ما تكون بدون أجر.
.
لقد أصبح نظام الخدمة العسكرية الإجبارية (الجهادية/ السخرة) هو مجرد نظام إستعبادي يعمل علي ترسيخ قيم الذل والدونية والإستسلام في عقلية ووجدان الإنسان المصري.
.
٭٭٭
.
٢. في العقيدة الإسلامية يعتبر "الجهاد" من أعمال العبادة التي يتقرب بها المسلم إلى الله... لكنه ومثل جميع العبادات الأخري يشترط فيه إخلاص النية وإحتساب الأجر عند الله وحده... فالجندي المجند الذي يؤدي الخدمة العسكرية مجبرا لا يعتبر "مجاهدا" وعندما يموت مقتولا بأيدي العدو لا يعتبر "شهيدا"... والضابط المحترف الذي يتقاضى أجر ومكافأت ونياشين نظير عمله لا يعتبر "مجاهدا" وعندما يموت مقتولا (حتي لو بيد الصهاينة) فإنه لا يعتبر "شهيدا"... قتلانا في حروبنا ضد إسرائيل ليسو شهداء... وإنما هم عبيد ماتوا بينما كانوا يخدمون في السخرة.
.
قد يكون هؤلاء "شهداء الوطن" (وما أكثرهم هذه الأيام) ولكنهم ليسوا شهداء بالمفهوم الإسلامي للشهادة ... فالجهاد والشهادة في الإسلام لهما شروط لا تتحقق في الخدمة العسكرية الإجبارية (السخرة) ولا يجوز أن يقال عنها "جهادية".
.
بل أننا أصبحنا نعيش في عصر يعتبر الجهاد فيه جريمة... وأصبح قتال "الجهاديين" و "المجاهدين" من أحد المهام الأساسية للجيش المصري... فكيف لمن يقتل أبناء شعبه ويفجر أدمغتهم برصاص مضاد للدبابات... كيف له أن يتوهم أنه في جهاد وأنه لو مات فسيدخل الجنة مع الشهداء والصديقين ؟؟؟ !!!!!
.
٭٭٭
.
٣. يقوم الفكر الليبرالي علي الحرية الفردية... بل أن "العيب" الأساسي في الليبرالية هي تقديسها المفرط للحرية الفردية ولو كانت على حساب الجماعة..
.
ومن مبادئ الليبرالية عدم إجبار الفرد على أن يفعل ما لا يريد... فلا يجوز إجبار الفرد علي الوقوف في موقف "إما قاتل أو مقتول"... فإجبار الإنسان على أن يقتل غيره هو إنتهاك لحرية هذا الإنسان... وتدمير لجميع قيم الحرية والليبرالية...
.
ولذلك تجد أن جميع الدول الديموقراطية والمجتمعات الليبرالية الحديثة (أمريكا أو فرنسا على سبيل المثال لا الحصر) لا يوجد بها نظام تجنيد إجباري... وإنما الإنضمام للجيش عمل تطوعي... أما في النظم الإستبدادية أو الخارجة من إستبداد (روسيا والصين مثلا) فإنها تحتفظ بنظام الخدمة الإلزامية... ويلاحظ أن جميع تلك الدول ليست في حالة حرب بما يستدعي التجنيد الإجباري... فالتجنيد الإجباري ليس له علاقة بحالة السلم والحرب وإنما هو بالأساس تشخيص لإرداة الدولة (النظام الحاكم) في فرض هيمنهتها علي الأفراد والمجتمع.
.
الخدمة العسكرية الإلزامية ليست فقط نظام سخرة مستبد... وليست مخالفة للشريعة الإسلامية وحسب... وإنما هي أيضا مخالفة لقيم الحرية والمدنية والديموقراطية ولا وجود لها في المجتمعات الحرة أو النظم الليبرالية الحديثة.
.
٭٭٭
.
٤. حتي في إسرائيل (التي تمكنت فى ٣ يوليو ٢٠١٣ من إستعادة لقب "الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط") والتي هي دولة عنصرية والدولة الوحيدة في العالم التي تأسست على مرجعية دينية... إلا أنها لا تمارس الخدمة العسكرية الإلزامية بالمفهوم المصري... صحيح أن معظم الرجال والنساء ينضمون إلي الجيش ولفترات طويلة لكن ذلك يكون بإرادتهم "للدفاع عن بلدهم التي يحيط بها الأعداء من كل جانب".
.
لكنهم مثلا فى إسرائيل يسمحون لليهود الملتزمين دينيا بالإعفاء من الخدمة العسكرية حتي يتفرغوا للعبادة ودراسة التلمود... أو يعفون منها إذا كانت تعاليم مذهبهم ترفض الحرب والقتل...
.
صحيح أنه في جيشنا المصري أيضا "يعفى" من الخدمة الخدمة العسكرية المتدينين (خصوصا الإخوان والسلفية) ولكن ذلك "الإعفاء" لا يكون إحتراما لمعتقداتهم الدينية أو حرياتهم الشخصية... وإنما لأنهم يعتبرون "خطرا على الأمن"... فهناك فرق!!!
.
٭٭٭
.
٥. تعتبر الخدمة العسكرية الإلزامية (خصوصا في غياب حالة الحرب) إرهاقا مبالغا فيه للإقتصاد وللمجتمع المصري... فلو أخذنا في الإعتبار مجندي الجيش والشرطة والأمن المركزي .. إلخ فإننا بصدد قرابة المليون شاب مصري مجند سنويا.
.
وفي التجنيد الإجباري (السخرة) يقضي الشاب ثلاث سنوات من أهم وأفضل سنوات عمره... يضيع ثلاث سنوات من حياته هباء... فيما لا يجلب نفعا له ولا لأسرته ولا لبلدته تلك القرية النائية... مجرد تضييع وقت...
.
فما هو النفع الذي يجلبه الجندي عندما يقف عشر ساعات في عز الحر أو المطر وظهره إلي الشارع في إنتظار تشريفة مرور سيادة الرئيس أو الوزير؟
.
ما النفع الذي يجلبه الجندي لأسرته أو قريته عندما يضرب ويقتل أبناء بلده وأهله دون أن يعرف حتى السبب فيما يفعل؟
.
ما هي التنمية البشرية المستفادة عندما يقضي الجندي (وهذا هو المحظوظ أبو واسطة) ثلاث سنوات من عمرة يكنس ويمسح وينظف في النوادي والفنادق وقاعات الأفراح التابعة لدور القوات المسلحة؟
.
إن الخدمة العسكرية الإجبارية (خصوصا في حالة الإستسلام الحاليه لإسرائيل) ما هي إلا تبديد للطاقات البشرية... وإفساد لحياة الشباب وتدمير لطموحه وهو في مقتبل الحياة.
.
٭٭٭
.
٦. الخدمة العسكرية الإجبارية تشجع الحاكم العسكري على الإستبداد... فعندما يعلم الحاكم أن عنده مئات الآلاف جحافل الجنود الجاهزة لقمع المعارضين والمتظاهرين فإنه يكتسب "شجاعة" أكثر و مزيدا من "الثقة بالنفس"... فهو لا يكترث لأصوات المعارضين لأنه قادر علي قمعها بالقوة...
.
أما في غياب تلك القوة الغاشمة فقد يجد الحاكم نفسه مضطرا للإستماع للمعارضة والتجاوب معها ومع مطالبها.
.
أليس طريفا أنه في جميع الديموقراطيات في العالم... الغنية منها (حتى سويسرا) والفقيرة (حتى الهند) لا يوجد بها قوات أمن مركزي؟؟ قد يكون بها قوات "مكافحة الشغب" محدودة العدد وضعيفة التسليح (خراطيم مياه -- عصي كهربية -- أو بخاخات الفلفل) لأن وظيفتها تهدئة الناس وليس قمعهم أو قتلهم.
.
فالخدمة العسكرية الإجبارية كما أنها ترسخ في وجدان المواطن عقيدة "السخرة" فإنها ترسخ في وجدان الحاكم عقيدة "الإله القادر الذي يريد ويفعل ما يريد دون أن يحاسبه أحد"... فلديه من القدرة على أن يسحق كل معارض.
.
٭٭٭
.
٧. الخدمة العسكرية الإلزامية تعطي القائد العسكري وهم القدرة القتالية... فيظن أن معه جيش جرار قاهر مظفر... في حين أنه في الحقيقة "العدد في الليمون"... وهذه الثقة الزائدة قد تشجع القائد العسكري علي الدخول في مغامرات عسكرية فاشلة... ولا يدرك حجم الوهم الذي كان يعيش فيه إلا بعد وقوع الوكسة أو النكسة.
.
ما فائدة أْن يكون لديك جيش تعداده مليون جندي ومصنف (عدديا) ضمن أكبر ستة جيوش
(عددا) في العالم؟... بينما معظم هؤلاء الجنود لا يقدرون علي حمل السلاح وليسو مؤهلين لخوض حرب نظامية وإنما هم مجرد ليمون يتم عصره حتي يسيل "العصير" الذي يعطي للمعركة "مذاق" مختلف... مذاق أكثر مرارة.
.
مشكلة الخدمة العسكرية الإلزامية هي أن القائد يظن أن عنده جيش يناطح أمريكا (كما كان يظن صدام ومن قبله ناصر) بينما هو في الحقيقة لا يملك (من حيث الكفاءة والخبرة القتالية غير ما يعادل فرقة واحدة... وبدلا من المليون فإنه يكتشف أن ما لديه أضعف من عشرة آلاف مقاتل من الخصم.
.
عندما يكون لدي القائد العسكري هذا العدد الهائل من الليمون فقد يصدق فعلا (وأكيد يتوهم شعبه) أنه قادر علي التصدي لأمريكا أو إسرائيل أو أي جيش نظامي محترف... ويصدق أن أمريكا أرسلت فعلا حاملة طائرات لإحتلال مصر وإعادة مرسي للحكم... لكن الجحش أرسل لهم طائرتين ميج ١٩ (موديل ١٩٥٥) ففر الأمريكان هاربين!!!
.
هذا في وقت تؤكد فيه جميع التقارير العسكرية وحتى المقالات في الدوريات العسكرية وشبه العسكرية... يؤكد جميعها أن الجيش المصري جيش ضخم سمين بدين مترهل وغير قادر علي خوض معركة نظامية حديثة ضد جيش نظامي حديث... ولا يقتصر الأمر على إنعدام الكفاءة القتالية عند الجنود أو رجعية مستوي التسليح وإنما حتي لضعف الخبرة القتالية... فعندك قائد جيش لا يعرف عن الحرب الحقيقية أكثر مما يعرفه المواطن العادي الذي شاهد محمود ياسين وهو يعبر القناة في فيلم "الرصاصة لا تزال في جيبي" !!!
.
الخدمة العسكرية الإجبارية تجعل القائد العسكري يعيش مع وهم الجيوش الجرارة... وهو وهم لا يفيق منه إلا بعد هزيمة ناكسة واكسة.
.
٭٭٭
.
والخلاصة أن الخدمة العسكرية الإلزامية هي مجرد "سخرة" تكرس في وجدان الإنسان المصري قيم الذل والعبودية وتكرس في وجدان الحاكم العسكري قيم الإستبداد والظلم والغرور المدمر: سواء في التعامل مع المعارضة السياسية الداخلية أو مع العدو الخارجي...
.
التجنيد الإجباري ضار بالإقتصاد المصري وبحياة ملايين من الشباب والأسر... وفوق هذا و ذاك فهو مخالف للشريعة الإسلامية ومناقض لعقيدة "الجهاد"... ومعارض صريح للقيم الليبرالية والديموقراطية... ولا يتناسب مع الدولة الحديثة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق