الخميس، 1 ديسمبر 2016

الصحفي أحمد عبد العزيز (أبو حبيبة ) يكتب : حكايتي مع التجنيد الإجباري ..

 الصحفي أحمد عبد العزيز (أبو حبيبة ) يكتب : 
 حكايتي مع التجنيد الإجباري في مصر  ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كنت آخر الواصلين إلى منطقة تجنيد طنطا، في آخر يوم من المدة المحددة، لتجنيد خريجي الجامعات، دفعة 1984 ..
صاح فينا (حا الصول) : اللي كان معتقل يجي الناحية دي ..
فلبيت (الأمر) وجيت الناحية دي ..
وبعد أن تمايز المتقدمون للتجنيد، وجدتني صفا لوحدي ..
جاء أحدهم واقتادني إلى مكتب المخابرات الحربية القريب من منطقة التجنيد، وهناك سألني ضابط شاب :
دخلت المعتقل ليه يا بوحميد ؟
فأجبت : لقد تم اعتقالي يوم 8 أكتوبر 1981 بعد اغتيال السادات بيومين، ولا أجدني ـ حسب اعتقادي ـ قد قمت بعمل يجعلني أمكث في الاعتقال 11 شهرا ..
فعاد الضاط يسأل : يعني مكنش لك نشاط في الجامعة ؟
قلت له : بلى، كان لي نشاط. كنت وزملائي في الجامعة، وفي المدينة الجامعية، نقيم المعارض، ونوجه الدعوة للدعاة والمشايخ لإلقاء المحاضرات، وننظم رحلات وما إلى ذلك من الأنشطة ..
فتبسم قائلا : كل دا، ثم تقول لي أنك لا تعلم سببا لاعتقالك ؟
فأجبته بابتسامة ساخرة في غير إهانة له : وهل هذه أنشطة يُعاقب عليها بالاعتقال، فتفوتني سنة دراسية كاملة ؟
فأشاح بيده وقال : دا مش موضوعنا على كل حال. قل لي، ما رأيك في (الخدمة العسكرية) ؟!
فأجبته بحماس : الخدمة العسكرية التي أتصورها هي الدفاع عن الوطن بعد التأهيل النفسي والبدني والفني ..
فسألني مبتسما بخبث : هذا ما تتصوره، فما الذي تعرفه عنها ؟!
فأجبت : ما أعرفه يندى له الجبين، وتشمئز منه النفوس ..
فاعتدل الضابط في جلسته وانحنى إلى الأمام ليدنو مني أكثر وقال : اشرح لي ..
فأجبته : لي شقيقان أديا الخدمة العسكرية، أحدهما مهندس زراعي، التحق بالجييش بعد هزيمة 67 ولم يخرج من (الخدمة) إلا بعد حرب 73. والثاني مهندس ميكانيكا، التحق بالجيش ضابط احتياط في سلاح المدرعات. وما سمعته منهما كافيا؛ ليجعلني أعتقد أن هذا ليس جيشا، وأن هؤلاء ليسوا جنودا، وأن أي معركة يخوضها هذا الجيش فلا يمكن أن يحقق فيها نصرا إلا بمعجزة !!

فعاد بظهره إلى الوراء ليغوص في الكرسي المتهالك : ها .. كمل يا بوحميد ..
فاستطردت : التفاصيل كثيرة، لكن محصلتها أن هذه الفترة من عمر الإنسان تصنع منه شخصا مهزوما نفسيا؛ بسبب الإهانات التي يتعرض لها على مدار الساعة، وكلها غير مبررة إلا إذا كان الهدف منها هو قهر هذا الشاب المجند، وفي هذه الحالة، فإن النتيجة مبهرة فعلا ..

نهض الضابط واقفا : وقال لي : طيب يا بوحميد، تفضل ..
فنهضت بدوري، وخرجت، لأجد الذي جاء بي في انتظاري، فاصطحبني مرة أخرى إلى منطقة التجنيد ..
وهناك، أدخلت أوراقي من بين أسياخ الحديد إلى الموظف المجند، أو المجند الموظف، فقام بفحص الأوراق، ثم أعادها لي مرة أخرى قائلا : شهادتك مش مختومة ..
فسألته : اليوم هو آخر يوم، فماذ لو لم أتمكن من ختم الشهادة اليوم ؟
فقال لي وهو يشيح بيده : تبقى تيجي الدفعة الجاية ..
.

غادرت مسرعا إلى محطة قطارات طنطا؛ لأستقل أول قطار قادم من الإسكندرية متجها إلى القاهرة ..
بعد أن دفعتني جموع المسافرين خارج (محطة مصر) أخذت أهرول تارة، وأجري تارة أخرى نحو محطة أتوبيسات رمسيس (التي كانت) وبعد عشرين دقيقة - تقريبا - من صعودي الأتوبيس، وصلت إلى الزمالك حيث كليتي (الفنون الجميلة) ..
ومن محطة الأتوبيس إلى الكلية كنت أحث الخطا ..

وصلت إلى الكلية بعد العصر، وأنا على هذا الحال من الإرهاق والشد العصبي، لأجد عميد الكلية - وقتذاك - الدكتور صلاح عبد الكريم الفنان العالمي المعروف ـ رحمه الله ـ واقفا في حديقة الكلية، يروي الزهور بخرطوم في يده، بينما وضع يده الأخرى في جيبه، والسيجار في فمه، ويعيش حالة عجيبة من المتعة والاسترخااااء ..
السلام عليكم يا دكتور ..
بصوت جاء من قرار الحنجرة : مساء النور، أهلا ..
شرحت له الأمر، وبينت مدى حاجتي لوضع ختم الكلية على الشهادة المؤقتة اليوم؛ لكي لا أنتظر موعد تجنيد الدفعة القادمة بعد ستة أشهر ..
لم يخرج الرجل من (المود) رغم أنه كان يصغي إليّ، ثم قال لي : أنا لا أحتفظ في مكتبي بأختام؛ لأن هذا من اختصاص شئون الطلاب، وليس من اختصاص العميد، تعالى بكرا ..
شكرت حضرة العميد على سعة صدره، واعتذرت له عن (التشويش) الذي أدخلته على حالة الصفاء التي كان يعيشها، وغادرت إلى سكني بالقاهرة، وليس إلى قريتي في المنوفية ..
.

في الموعد التالي، كنت أول الحاضرين في منطقة تجنيد طنطا ..
 فقال : " اللي كان معتقل يجي الناحية دي " ..
جيت الناحية دي ..
ولما اقترب مني (حا الصول) قلت له : لقد تخلفت عن دفعتي السابقة ..
فقال لي دون أن ينظر إليّ : طيب استنى. وذهب ..
بعد ساعة إلا قليلا، عاد (حا الصول) وانتزع أوراقي من يدي بطريقة تبدو فيها غلظة وجلافة، إلا أنك تشعر معها بأن هذا هو (العادي) جدا، واصطحبني إلى الداخل، وقال لي : اقعد هنا لغاية ما آجي ..
بعد وقت ليس بالقصير، عاد إليّ وقد أسفر وجهه عن ابتسامة عريضة، وصاح من بعيد : مبرووووك يا بوحميد !!
فنهضت واقفا لأسأله مستغربا : مبروك على إيه ؟
كان قد اقترب مني، فهز كتفيّ بقوة : أخدت (إعفا). وقبل أن أفتح فمي بكلمة، عاجلني بقوله : إيدك ع الحلاوة !!
فقلت في دهشة : حلاوة إيه على إيه ؟! وهل هذا شيء يستحق (حلاوة) ؟!
فخبطني في صدري بقبضته وصاح : إنت عبيط واللا بتستعبط، واللا إنت فقري، واللا نظامك إيه بالظبط ؟ واستطرد : يا بني فيه ناس بتدفع آلافات عشان (الإعفا) دا، وإنت جاتلك من السما ..
إيدك ع الحلاوة ..
شعرت أني في مكان مقطوع رغم الزحام من حولي، وأنني وقعت في قبضة قاطع طريق، وليس موظف يؤدي عمله ..
وضعت يدي في جيبي، وناولته كل ما كان معي إلا إجرة الأتوبيس الذي سيعيدني إلى قريتي، ثم سألته : فين ورقة (الإعفا) ؟
أجابني وهو يفرك ما أغتصبه مني : هتجيلك على بيتكم مع حد من الغفر بعد كام يوم ..

بعد أيام، كنت أجلس وحدي أمام دارنا، ففوجئت بأحد (الغفر) يقتحم عليّ خلوتي ..
سلامو عليكو، مش دا بيت الحاج عبد العزيز رمضان ؟
وعليكم السلام، نعم هو بيته ..
أومال فين أحمد ؟
أنا أحمد ..
فصاح : مبروك يا أحمد بيه، إيدك ع الحلاوة ؟ (صرت بيه في لمح البصر)
فقلت له مستغربا : حلاوة إيه ؟
فقال لي كمن ضبط هاربا : إهييييه، هتعملهم عليا يا أحمد بيه ؟ حلاوة (الإعفا) طبعا ..
فقلت له ضاحكا : أهاااا .. حاضر ..
استأذنت منه لدقيقة، وعدت إليه بما تيسر من (الحلاوة) ..
.

وبعد ،،،
  • لو كان التجنيد في مصر (شرفا) فلماذ يهنئ الناس من لم يصبه هذا (الشرف) حتى لو كان السبب (إعفاءً أمنيا) ؟!
  • لماذا يدفع المقتدرون الرشاوى لـ (يفلت) أبناؤهم من نيل هذا (الشرف) ؟!
  • لماذا يُستثني من نيل هذا (الشرف) كل صاحب موقف أو رأي ؟!
إذا كان الحال بكل هذا البؤس، فهل يليق أن يُطلق على جيش كهذا وصف (خير أجناد الأرض) ؟!
سيكون من أولويات إدارة مصر بعد كسر الانقلاب ـ بحول الله ـ إعادة تشكيل جيش مصر على أسس (إنسانية ومهنية) تجعل الانتساب إليه شرفا بحق ..

أحمد عبد العزيز
28/11/2016

#العساكر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق