مرض الهزيمة
راسلني أحد الصحفيين المحسوبين على نظام الاستبداد في مصر طالبا إجراء حوار صحفي!
علامة التعجب تعبر عن حالتي حين قرأت الرسالة على بريدي الإلكتروني، ممهورة بتوقيعه (فلان الفلاني ... من قسم الكذا في جريدة كذا)!
الفضول يقتلني ... لماذا يراسلني هذا الصحفي الآن؟
لم أتمكن من منع نفسي من الرد عليه، فقلت له :
ما الهدف من الحوار؟ وما المحاور الرئيسة فيه؟ وما الضمانات بعدم تحريف كلامي أو تشويهه؟!
رد عليّ بأن الحوار يهدف إلى إظهار وجهات النظر المختلفة في (معارضة الخارج).
حين أرسل الأسئلة، وجدت أن الحوار سيكون مجرد محاولة لخلق بلبلة، ولتشويه معارضي الاستبداد وخاصة من اضطر منهم للخروج من مصر نظرا للتهديدات الحقيقية التي يتعرض لها المعارضون في ظل حكم "سيسي".
المؤلم في هذه القصة أن الأسئلة التي أرسلها هي الأسئلة نفسها التي يسألها غالبية المذيعين والصحفيين في القنوات والصحف والمواقع التي تعمل (أو هكذا يفترض) لمقاومة نظام الاستبداد.
في "إعلام اسطنبول" محاور أي حوار تعتمد على عدة نقاط خلافية، والإجابة فيها إما أن تلتزم بما يعجب (ألتراس) هذه القنوات، أو أن يتم قصف الضيف بالمدفعية الثقيلة من أدعياء الثورة الذين لم نرهم حين كانت الثورة مشتعلة في شوارع مصر، ولكن رأيناهم حين أصبحت الثورة مغنما في البرلمانات والوزارات والتلفزيونات، وبعد ذلك تصدروا الصفوف لجمع غنائم الانقلاب.
وهل هناك غنائم للانقلاب؟
للأسف الشديد هناك غنائم لكل شيء، وكما أن هناك أغنياء حروب ومجاعات وزلازل وكوارث، فهناك من يتصدر صفوف مقاومي الانقلاب اليوم وهم ليسوا أكثر من جامعي غنائم، وتراهم يزايدون على المناضلين الحقيقيين الذين أفنوا أعمارهم في العمل من أجل قضية التغيير في مصر!
أستغرب من حالة المعارضة المصرية، ألم يصل المعارضون (والإعلاميون والمشاهدون) إلى حالة تشبع من الأسئلة المتعلقة بالشرعية؟ وحقيقة ما جرى في الثالث من يوليو؟ والثلاثين من يونيو؟ وحقيقة التيار الفلاني؟ وتحالف التيار العلاني مع العسكر؟ الخ الخ..
ألم يمل الناس من هذه الأسئلة التي تتكرر للعام الرابع بلا انقطاع؟ من أخطأ أولا؟ ومن سال دمه أولا؟ ومن سُجن أولا؟ من تسبب في الانقلاب؟ ومن وقف ضد الانقلاب؟ ومن تغير رأيه؟ الخ الخ..
ألا توجد أي رغبة عند أي عاقل في مختلف مواقع المعارضة في طرح أسئلة المستقبل بدلا من إشعال معارك الماضي؟
حين وصلتني أسئلة ذلك الصحفي (الفلولي الانقلابي) وجدت أنني قد أجبت عن هذه الأسئلة مائة مرة في قنوات تقاوم الانقلاب، رغم أنني قليل الظهور في الإعلام.
ألهذه الدرجة أصبحنا أعداء أنفسنا؟
خطاب الثوريين للثوريين (فَكَّرْهُم ونَكِّدْ عليهم)، وخطاب الثوريين (باختلاف توجهاتهم الفكرية) للشعب مزيج من (عبيد بيادة) أو (شعب جاهل).
خطاب الدولجية لفصائل الثوريين لا يخرج عن نطاق خطاب الثوريين للثوريين، وخطاب الدولجية للشعب ليس ببعيد عما يقوله الثوريون للبسطاء أيضا.
أزمتنا ليست أزمة خطاب ... بل هي أعمق من ذلك، وخطابنا عَرَضٌ من أعراض المرض الذي يترسخ يوما بعد يوم ... إنه مرض الهزيمة!
في عام 1967 وبعد الهزيمة الساحقة التي تسبب فيها حكم العسكر آنذاك أمام إسرائيل ترسخت الهزيمة داخل النفوس، ترسخت لدرجة لا يمكن تجاوزها، حتى حين جاء نصر رمزي في عام 1973 تعامل الجميع معه بنفسيه وعقلية المهزوم.
لذلك حين تفاوضنا سلمنا النصر الذي حققناه بأيدينا للعدو بدون أي مبرر، لقد كنا مهزومين من داخلنا، وأثر الهزيمة بادٍ علينا، لقد أصبح وجه الوطن وكأنه وجه امرأة جميلة ولكنها غسلت وجهها بماء النار!
حين قامت ثورة يناير، كان الجيل المصري العظيم الموجود حينئذ يشبه قوم بني إسرائيل بعد أن تاهوا أربعين عاما، وقد مر على الهزيمة أكثر من أربعين عاما بالفعل، وتغير وجه الوطن، وأصبح وجها ريفيا بشوشا جميلا، صحيح أنه جمال مرهق بأعباء الحياة، ولكنه ليس ذلك الوجه المحترق بماء النار، إنه وجه جميل، يحمل قلبا فيه حياة وأمل.
لماذا نحاول اليوم استزراع اليأس؟ لماذا يحاول البعض التنظير للهزيمة؟ لماذا لا يراجع هؤلاء تاريخ الثورات؟
نحن في ثورة منذ يناير 2011، رأينا فيها مدا وجزرا، انتصارات وانكسارات، شروقا وغروبا ... رأينا فيها إمكانية أن نتحد فننتصر، وأن نزرع فنحصد، وأن نعمل فنرتقي.
جيل يناير هو جيل النصر لا جيل الهزيمة، وكل من يزرع الهزيمة فيه اليوم بالزور يحاول أن يحوِّل جيل الثورة ... إلى جيل النكسة ... وهي حماقة كبرى، وجريمة تاريخية.
ليس صعبا أن تُشَخِّصَ مرض الهزيمة، بل هو توصيف سهل، كل "حلاق صحة" يستطيع أن يخبر المريض أنه مريض، ولكن الطبيب هو من يستطيع أن يشخص المرض الحقيقي، وأن يعرف أسبابه، وأن يصف العلاج الصحيح الذي يجلب الشفاء في أقصر وقت.
لماذا يعشق بعضنا أن ينتصر فيروس الهزيمة؟ لماذا يحاربون كل طبيب يحاول – مجرد محاولة – أن يقاوم هذا المرض؟
لو بذل بعضنا عشر معشار جهده في تمكين المرض من أجل مقاومته لما وصلنا لهذا الحال.
لم يحدث أن جمعت المعارضة المصرية في تاريخها كله هذا الزخم الكبير، وهذا الظهير الشعبي المتشوق للتغيير، ولم يحدث أن بلغ النظام الحاكم في مصر هذا الحد من الضعف، وهذه العزلة الإقليمية والدولية، ولكن مقاومي الاستبداد للأسف الشديد يفتقدون الرؤية المستقبلية، وينكفئون على الماضي، وهم منشغلون بخلافات شديدة السطحية، وبمعارك تمد في عمر نظام مصاب بألف مرض.
نحن نملك فرصة كبيرة للانتصار، ومن هذا المنطلق هناك محاولة جادة من مجموعة وطنية محترمة تحاول تأسيس الجمعية الوطنية المصرية، على أن تمتد هذه الجمعية في داخل مصر وخارجها، لكي ينضم لها آلاف المصريين الراغبين في التغيير.
هذه المجموعة أسست الهيئة التحضيرية للجمعية الوطنية المصرية، وهي هيئة من الناس، وللناس، وبالناس، لها تواصلها مع جميع المصريين، ولا هدف لها إلا أن يتغير الوضع القائم في مصر، من تمكن الاستبداد ... إلى دولة القانون.
لا بد من جمع رموز وطنية من اتجاهات شتى لتأسيس هذا العمل الكبير.
لا بد من وثيقة تشكل الحد الأدنى من التوافق الوطني، ولا بد من وسائل ناجحة لمقاومة الانقلاب، ولا بد من تشكيل رؤية واضحة لمستقبل المعارضة في الداخل والخارج، ورؤية واضحة لمستقبل الدولة المصرية الثائرة، دولة يناير، بعد أن تسقط دولة يوليو، دولة الانقلابات العسكرية، دولة الأسياد والعبيد.
على جميع المصريين اليوم أن يساهموا في تكوين ذلك الكيان، وتحقيق تلك الرؤية، وفي العمل من أجل إقامة دولة يناير.
بالعمل ... وبالعمل فقط ... سوف تشفى مصر من مرض الهزيمة !
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين. ---------------- للتواصل مع الكاتب: arahman@arahman.net
علامة التعجب تعبر عن حالتي حين قرأت الرسالة على بريدي الإلكتروني، ممهورة بتوقيعه (فلان الفلاني ... من قسم الكذا في جريدة كذا)!
الفضول يقتلني ... لماذا يراسلني هذا الصحفي الآن؟
لم أتمكن من منع نفسي من الرد عليه، فقلت له :
ما الهدف من الحوار؟ وما المحاور الرئيسة فيه؟ وما الضمانات بعدم تحريف كلامي أو تشويهه؟!
رد عليّ بأن الحوار يهدف إلى إظهار وجهات النظر المختلفة في (معارضة الخارج).
حين أرسل الأسئلة، وجدت أن الحوار سيكون مجرد محاولة لخلق بلبلة، ولتشويه معارضي الاستبداد وخاصة من اضطر منهم للخروج من مصر نظرا للتهديدات الحقيقية التي يتعرض لها المعارضون في ظل حكم "سيسي".
المؤلم في هذه القصة أن الأسئلة التي أرسلها هي الأسئلة نفسها التي يسألها غالبية المذيعين والصحفيين في القنوات والصحف والمواقع التي تعمل (أو هكذا يفترض) لمقاومة نظام الاستبداد.
في "إعلام اسطنبول" محاور أي حوار تعتمد على عدة نقاط خلافية، والإجابة فيها إما أن تلتزم بما يعجب (ألتراس) هذه القنوات، أو أن يتم قصف الضيف بالمدفعية الثقيلة من أدعياء الثورة الذين لم نرهم حين كانت الثورة مشتعلة في شوارع مصر، ولكن رأيناهم حين أصبحت الثورة مغنما في البرلمانات والوزارات والتلفزيونات، وبعد ذلك تصدروا الصفوف لجمع غنائم الانقلاب.
وهل هناك غنائم للانقلاب؟
للأسف الشديد هناك غنائم لكل شيء، وكما أن هناك أغنياء حروب ومجاعات وزلازل وكوارث، فهناك من يتصدر صفوف مقاومي الانقلاب اليوم وهم ليسوا أكثر من جامعي غنائم، وتراهم يزايدون على المناضلين الحقيقيين الذين أفنوا أعمارهم في العمل من أجل قضية التغيير في مصر!
أستغرب من حالة المعارضة المصرية، ألم يصل المعارضون (والإعلاميون والمشاهدون) إلى حالة تشبع من الأسئلة المتعلقة بالشرعية؟ وحقيقة ما جرى في الثالث من يوليو؟ والثلاثين من يونيو؟ وحقيقة التيار الفلاني؟ وتحالف التيار العلاني مع العسكر؟ الخ الخ..
ألم يمل الناس من هذه الأسئلة التي تتكرر للعام الرابع بلا انقطاع؟ من أخطأ أولا؟ ومن سال دمه أولا؟ ومن سُجن أولا؟ من تسبب في الانقلاب؟ ومن وقف ضد الانقلاب؟ ومن تغير رأيه؟ الخ الخ..
ألا توجد أي رغبة عند أي عاقل في مختلف مواقع المعارضة في طرح أسئلة المستقبل بدلا من إشعال معارك الماضي؟
حين وصلتني أسئلة ذلك الصحفي (الفلولي الانقلابي) وجدت أنني قد أجبت عن هذه الأسئلة مائة مرة في قنوات تقاوم الانقلاب، رغم أنني قليل الظهور في الإعلام.
ألهذه الدرجة أصبحنا أعداء أنفسنا؟
خطاب الثوريين للثوريين (فَكَّرْهُم ونَكِّدْ عليهم)، وخطاب الثوريين (باختلاف توجهاتهم الفكرية) للشعب مزيج من (عبيد بيادة) أو (شعب جاهل).
خطاب الدولجية لفصائل الثوريين لا يخرج عن نطاق خطاب الثوريين للثوريين، وخطاب الدولجية للشعب ليس ببعيد عما يقوله الثوريون للبسطاء أيضا.
أزمتنا ليست أزمة خطاب ... بل هي أعمق من ذلك، وخطابنا عَرَضٌ من أعراض المرض الذي يترسخ يوما بعد يوم ... إنه مرض الهزيمة!
في عام 1967 وبعد الهزيمة الساحقة التي تسبب فيها حكم العسكر آنذاك أمام إسرائيل ترسخت الهزيمة داخل النفوس، ترسخت لدرجة لا يمكن تجاوزها، حتى حين جاء نصر رمزي في عام 1973 تعامل الجميع معه بنفسيه وعقلية المهزوم.
لذلك حين تفاوضنا سلمنا النصر الذي حققناه بأيدينا للعدو بدون أي مبرر، لقد كنا مهزومين من داخلنا، وأثر الهزيمة بادٍ علينا، لقد أصبح وجه الوطن وكأنه وجه امرأة جميلة ولكنها غسلت وجهها بماء النار!
حين قامت ثورة يناير، كان الجيل المصري العظيم الموجود حينئذ يشبه قوم بني إسرائيل بعد أن تاهوا أربعين عاما، وقد مر على الهزيمة أكثر من أربعين عاما بالفعل، وتغير وجه الوطن، وأصبح وجها ريفيا بشوشا جميلا، صحيح أنه جمال مرهق بأعباء الحياة، ولكنه ليس ذلك الوجه المحترق بماء النار، إنه وجه جميل، يحمل قلبا فيه حياة وأمل.
لماذا نحاول اليوم استزراع اليأس؟ لماذا يحاول البعض التنظير للهزيمة؟ لماذا لا يراجع هؤلاء تاريخ الثورات؟
نحن في ثورة منذ يناير 2011، رأينا فيها مدا وجزرا، انتصارات وانكسارات، شروقا وغروبا ... رأينا فيها إمكانية أن نتحد فننتصر، وأن نزرع فنحصد، وأن نعمل فنرتقي.
جيل يناير هو جيل النصر لا جيل الهزيمة، وكل من يزرع الهزيمة فيه اليوم بالزور يحاول أن يحوِّل جيل الثورة ... إلى جيل النكسة ... وهي حماقة كبرى، وجريمة تاريخية.
ليس صعبا أن تُشَخِّصَ مرض الهزيمة، بل هو توصيف سهل، كل "حلاق صحة" يستطيع أن يخبر المريض أنه مريض، ولكن الطبيب هو من يستطيع أن يشخص المرض الحقيقي، وأن يعرف أسبابه، وأن يصف العلاج الصحيح الذي يجلب الشفاء في أقصر وقت.
لماذا يعشق بعضنا أن ينتصر فيروس الهزيمة؟ لماذا يحاربون كل طبيب يحاول – مجرد محاولة – أن يقاوم هذا المرض؟
لو بذل بعضنا عشر معشار جهده في تمكين المرض من أجل مقاومته لما وصلنا لهذا الحال.
لم يحدث أن جمعت المعارضة المصرية في تاريخها كله هذا الزخم الكبير، وهذا الظهير الشعبي المتشوق للتغيير، ولم يحدث أن بلغ النظام الحاكم في مصر هذا الحد من الضعف، وهذه العزلة الإقليمية والدولية، ولكن مقاومي الاستبداد للأسف الشديد يفتقدون الرؤية المستقبلية، وينكفئون على الماضي، وهم منشغلون بخلافات شديدة السطحية، وبمعارك تمد في عمر نظام مصاب بألف مرض.
نحن نملك فرصة كبيرة للانتصار، ومن هذا المنطلق هناك محاولة جادة من مجموعة وطنية محترمة تحاول تأسيس الجمعية الوطنية المصرية، على أن تمتد هذه الجمعية في داخل مصر وخارجها، لكي ينضم لها آلاف المصريين الراغبين في التغيير.
هذه المجموعة أسست الهيئة التحضيرية للجمعية الوطنية المصرية، وهي هيئة من الناس، وللناس، وبالناس، لها تواصلها مع جميع المصريين، ولا هدف لها إلا أن يتغير الوضع القائم في مصر، من تمكن الاستبداد ... إلى دولة القانون.
لا بد من جمع رموز وطنية من اتجاهات شتى لتأسيس هذا العمل الكبير.
لا بد من وثيقة تشكل الحد الأدنى من التوافق الوطني، ولا بد من وسائل ناجحة لمقاومة الانقلاب، ولا بد من تشكيل رؤية واضحة لمستقبل المعارضة في الداخل والخارج، ورؤية واضحة لمستقبل الدولة المصرية الثائرة، دولة يناير، بعد أن تسقط دولة يوليو، دولة الانقلابات العسكرية، دولة الأسياد والعبيد.
على جميع المصريين اليوم أن يساهموا في تكوين ذلك الكيان، وتحقيق تلك الرؤية، وفي العمل من أجل إقامة دولة يناير.
بالعمل ... وبالعمل فقط ... سوف تشفى مصر من مرض الهزيمة !
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين. ---------------- للتواصل مع الكاتب: arahman@arahman.net
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق