الأربعاء، 11 يناير 2017

مصر من "الضيعة" إلى الشخصنة


بقلم: فهمى هويدي

نحتاج إلى مراجعة ضرورية تنقذ مصر من ذكرى ضيعة الحاكم وتجنبها مصير "شخصنة" الحكم.

(١)
حين قال رئيس لجنة القوى العاملة بالبرلمان إن عبدالفتاح السيسى يعمل وحده وإننا ينبغى أن ندعو الله لأن يعينه، فإن كلامه لم يكن تعبيرا عن رأى خاص به، وإنما كان ترديدا لمقولة شائعة تبثها وسائل الإعلام بصياغات مختلفة. فتلك هى الرسالة التى توجهها وسائل الإعلام فى مواجهة كل أزمة تتعلق بقصور أداء السلطة. وأحيانا يعبر عن الموقف ذاته بالإشارة إلى أنه يتحرك بسرعة الصاروخ فى حين أن الحكومة تلاحقه بسرعة السلحفاة، وهو ما لا يستغربه المرء حين يجد أنه لا شىء يتحرك فى بر مصر إلا بتوجيهات منه.

وقد صار ذلك معلنا على الملأ، حتى عبرت عنه صحيفة الأهرام (عدد ٦ يناير) حين أبرزت فى عناوين صفحتها الأولى ما ذكره الرئيس فى حفل افتتاح مشروعى تطوير ميناء سفاجة ودمياط أن طلب "عدم التعاقد مع شركات أو مستثمرين لتنفيذ مشروعات إلا بعد العرض عليه".

وكان وزير الأوقاف سريع التجاوب مع هذه الرسالة، حتى قرأنا فى اليوم التالى بيانا أصدرته الوزارة ذكرت فيه أنه تم إعداد قوائم خطب الجمعة للسنوات الخمس المقبلة، وأن اللجنة المختصة بالأمر سترفع هذه الخطة إلى رئيس الجمهورية.

القرائن التى تؤيد هذه الفكرة تتزايد حينا بعد حين، الأمر الذى ربط مقدرات البلد ومصيرها بشخص رئيس الجمهورية، وهى الخلفية التى دعت وكيل لجنة الخطة والموازنة إلى القول فى تصريحات منشورة بأنه إذا لم يترشح الرئيس السيسى لانتخابات الرئاسة المقبلة "فإننا سننتحر".

(٢)
كنت قد تطرقت فى الأسبوع الماضى إلى موضوع التوجيهات الرئاسية التى باتت تنقلها إلينا وسائل الإعلام كل صباح، وأرجعت ذلك إلى اهتمام السيسي بالتفاصيل، وذكرت أن الحضور المكثف للرئيس فى الفضاء العام له جذور فى دستور عام ٢٠١٤ الذى أضعف سلطات رئيس الوزراء فى حين أنه وسع من سلطات رئيس الجمهورية، استشهدت فى ذلك بأن دستور ٢٠١٢ نص على اشتراك الحكومة مع رئيس الجمهورية فى وضع السياسة العامة للدولة والإشراف على تنفيذها (المادة ١٦٧)، وهو ما تم إلغاؤه فى دستور عام ٢٠١٤. وكان ذلك استدلالا خاطئا نبهنى إليه بعض المختصين، الذين ذكروا أن المادة التى أشرت إليها فى دستور ٢٠١٢ لم تلغ فى الدستور الجديد.

وحين رجعت إلى مؤلف المستشار ماجد شبيطة الذى رجعت إليه تأكدت من صحة خطأ التدليل الذى وقعت فيه. ذلك أن الذى ألغى نص آخر أهم وأبعد أثرا أوردته المادة ١٢٢ فى دستور عام ٢٠١٢ قضت بأن "يتولى رئيس الجمهورية مهامه من خلال رئيس الوزراء"، وبمقتضى ذلك لا يحق لرئيس الجمهورية أن يباشر مهامه التنفيذية، باستثناء عدد قليل من الاختصاصات المحددة حصرا إلا بواسطة رئيس مجلس الوزراء، وذلك إعمالا لقاعدة "التوقيع المجاور"، التى فى ظلها يصبح الأصل ألا ينفرد الرئيس بالقرار، وإنما يتعين أن يكون القرار ثنائيا بحضور رئيس الحكومة.

ذكر المستشار شبيطة فى مؤلفه حول سلطات رئيس الجمهورية أنه حين ألغيت المادة ١٢٢ فى اجتماعات لجنة الخمسين التى بحثت تعديلات دستور ٢٠١٢، فإن عضو اللجنة الدكتور خيرى عبدالدايم، علق على ذلك قائلا إن الإلغاء يعنى أنه أصبح بمقدور رئيس الجمهورية تنفيذ ما يريد قفزا فوق رئيس الوزراء والوزراء، كما أن بوسعه تعيين الموظفين العموميين وإقالتهم دون إخطار أو تشاور، الأمر الذى يعنى أن تركيز السلطة فى يد الرئيس له جذوره فى الدستور الحالى.

(٣)
فى ٩ يوليو عام ٢٠١٥ أصدر عبدالفتاح السيسى قرارا بقانون أجاز لرئيس الجمهورية إعفاء رؤساء وأعضاء الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية من مناصبهم. وكانت تلك إشارة إلى أن استمرار رؤساء تلك الأجهزة فى مناصبهم بات معلقا على رضا رئيس الجمهورية رغم أن الدستور نص على استقلالها، وبقية القصة معروفة، لأن ضحية هذا التعديل التشريعى كان المستشار هشام جنينة رئيس جهاز المحاسبات الذى عزل لأنه لم يكن مرضيا عنه.

الذى لا يقل خطورة عن ذلك أن جهدا موازيا بذل من جانب السلطة التنفيذية لإضعاف المجتمع وإخضاع منظماته المدنية لسلطاتها، بحيث لا تبقى فى البلد مؤسسة لها استقلالها الحقيقى ولا مجتمع له بعض العافية التى تمكنه من أن يصبح ندا معبرا عن الرأى العام فى مختلف القطاعات.

ألفت الانتباه فى هذا الصدد إلى نماذج ثلاثة ماثلة بين أيدينا كاشفة لمحاولات إخضاع مؤسسات المجتمع وإلحاقها بإرادة السلطة السياسية. هذه النماذج تتمثل فيما يلى:

المشروع الذى قدم إلى البرلمان لتعديل قانون السلطة القضائية بحيث يصبح تعيين رؤساء الهيئات القضائية (المستقلة؟!) بقرار جمهورى وليس بقرار من مجلس القضاء الأعلى أو الجمعيات العمومية للقضاة.

صحيح أن المشروع الذى قدم للبرلمان ينص على أن يصدر الرئيس قراره لاختيار واحد من ثلاثة ترشحهم الجمعيات العمومية، إلا أن ذلك يعنى أن الاختيار النهائى سيكون بيد رئيس الجمهورية وليس بيد الجمعيات العمومية للقضاة. فضلا عن أنه يفتح الباب للتنافس على استجلاب رضا الرئاسة للفوز بتلك المناصب. وهو ما يخل باستقلال القضاء ويلحقه عمليا بالسلطة التنفيذية.

التنظيم الجديد للصحافة والإعلام، وقصته طويلة خلاصتها أن دستور عام ٢٠١٤ أنشأ ثلاث كيانات للإعلام كل واحد منها تديره هيئة وطنية "مستقلة"، ولتنزيل هذه النصوص على أرض الواقع، تولى المجلس الأعلى للصحافة بالتعاون مع نقابة الصحفيين المصريين إعداد مشروع قانون موحد للإعلام، اشترك فيه خبراء ومسئولون من الجهات المعنية، وبعد الاتفاق على المشروع مع حكومتين متعاقبتين (للمهندس إبراهيم محلب والمهندس شريف إسماعيل)، حدثت مفاجأتان الأولى أن القانون الموحد أصبح اثنين، والثانية أن أصابع خفية تلاعبت بالنصوص الأصلية، بحيث أدت عمليا إلى إخضاع الكيانات الثلاثة لنفوذ الأجهزة التنفيذية، وقيدت من حرية الإعلاميين إلى الحد الذى أعاد إحياء فكرة الحبس فى قضايا النشر، وثمة ملاحظات كثيرة فى هذا الصدد يهمنا منها أن تعيين رؤساء الكيانات الثلاثة أصبح يتم بقرار من رئيس الجمهورية، الذى يختص فضلا عن ذلك بتعيين ثلاثة آخرين من أعضاء مجلس إدارة كل كيان مستقل(!).

صحيح أن ذلك يفترض أن يتم باختيار كل واحد من بين اثنين يرشحهم الإعلاميون والصحفيون، إلا أن الأهم أن رئيس الجمهورية أصبح حاضرا من خلال قراره على رأس كل كيان. ويثير الانتباه فى هذا الصدد أن تدخل الرئيس لم يكن واردا فى البداية، وأن الأمر كله كان متروكا للجماعة الصحفية، إلا أن ممثل وزير العدل اقترح أن يكون تعيين رئيس كل كيان بقرار من الرئيس، ثم تطور الأمر بحيث أصبح الرئيس يختار واحدا من ثلاثة مرشحين، الأمر الذى انتهى إلى صيغة بسطت سلطة الرئاسة والأجهزة التنفيذية على مصير المؤسسات الصحفية والإعلامية.

النموذج الثالث الذى لا يقل فداحة ويتمثل فى مشروع قانون الجمعيات الأهلية، الذى كان قد أعد بتوافق وتفاهم مع وزارة التضامن الاجتماعى، ولكن الأجهزة الخفية تجاهلته وأعدت مشروعا آخر أجازه مجلس النواب، نزع استقلال المنظمات الأهلية، وأخضعها لسلطة الأجهزة الأمنية، الأمر الذى أدى إلى تأميم المجتمع الأهلى، وألغى أى دور حقيقى لمنظمات المجتمع المدنى، ولن أفصل فى الموضوع، لأنه نال حقه من التشريح والنقد فى وسائل الإعلام المصرية.

(٤)
المشهد الذى نحن بصدده ليس جديدا تماما، ولكن له جذوره فى التاريخ الفرعونى، وقد وفى الدكتور جمال حمدان الموضوع حقه فى الجزء الأول من موسوعته "شخصية مصر" إذ أرجع الأمر إلى طبيعة المجتمع الحقيقى الذى حول الفرعون إلى الملك الإله الذى صار ضابطا للنهر وضابطا للناس، وهو ما ضاعف من قوة السلطة المركزية فى مصر. الأمر الذى دفع رفاعة الطهطاوى إلى القول فى "مناهج الألباب" بأنه: "ليس فى ممالك الدنيا لصاحبها النفوذ الحقيقى الذى لصاحب مصر". واعتبر الدكتور حمدان فى تحليله لأصل الطغيان فى مصر أنها أصبحت منذ تلك العهود السحيقة بمثابة "ضيعة كبرى للحاكم".

المستشار طارق البشرى قدم قراءة معاصرة للظاهرة فى كتابه "مصر بين العصيان والتفكك"، إذ أرجع الأمر إلى ما وصفه بشخصنة الدولة التى هى غير الحاكم المطلق أو المستبد. وفى رأيه أن القائم على الدولة المتشخصنة لا تربطه عائلة أو قبيلة ولا نقابة أو جماعة دينية ولا حزب سياسى أو طبقة اجتماعية. إذ هو يسيطر بذاته على مفاتيح السلطة، وتصير آلة الحكم وأجهزته كلها تحت إمرته. ولا يقيده إلا الإمكانات المادية للدولة وأجهزتها فى الحركة والنفوذ. وهو يتغلب على ضغط عمال الدولة عليه بأن يشخصن الفئة المحيطة به بإبقائهم فى وظائفهم لأطول مدة، بحيث تحل العلاقات الشخصية محل علاقات العمل الموضوعية. الأمر الذى يجعله نظاما منغلقا، لا ينفتح على خارج ذاته، ولا تقوم آلية ما لإجراء أى تعديل فيه أو تجديد. لذلك كان صفة لازمة للدولة المتشخصنة هى أن تسعى دائما إلى تثبيت الأمر الواقع ومقاومة التغيير حتى وإن ادعته.

إذ كانت فكرة الضيعة الكبرى للحاكم قد صارت تاريخا، وأن شخصنة الدولة باتت واقعا، فلا نجاة لمصر إلا فى الدولة الديمقراطية التى تنسخ ما فات وتوفر لشعبها طوق النجاة فى الحاضر والمستقبل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق