الضحك على الذاكرة الوطنية
بقلم: وائل قنديل
في أزمنة التردّي والإسفاف والعبث
بالذاكرة الوطنية، والاتجار بالأحلام والأوجاع، يصبح من المهم، بل من
الواجب، الاستبسال في حماية التاريخ، قبل أن يتلاعب به التجار، ويزيفه
اللاعبون الكبار والصغار، ويبيعونه، مجفّفاً، في عبوات بلاستيكية ضارّة
بالصحة العقلية والنفسية.
تجاهُل أن ما جرى ابتداءً من الثلاثين من يونيو/حزيران 2013 وحتى الثالث من الشهر الذي يليه، انقلاب عسكري، مكتملُ المضمون والشكل، هو منتهى العبث بالتاريخ، والاحتقار للذاكرة الوطنية، واعتبار ما جرى "ثورة مضادة" وفقط، هو نوع من منح جدارة أخلاقيةٍ وسياسيةٍ لجريمة اغتصاب للسلطة بالقوة المسلحة، واعتداءٌ على حق ثابت بالدستور وبالثورة وبالإرادة الشعبية.
هل كان عبد الفتاح السيسي في مطلع العام الجديد هديةً أثمن من أن يقال إنه استلم الحكم بموجب ثورة مضادة؟ وهل هناك أفضل من أن تأتيه التسمية، أو بالأحرى الترقية، من الذين يزعمون أنهم خصومه وأنداده والمناضلون ضده؟
الثورة المضادة هي أيضاً فعل جماهيري، وقد بدأت منذ الشهر الأول لتنصيب الشعب الدكتور محمد مرسي رئيساً، في أول انتخاباتٍ حقيقيةٍ تشهدها مصر، ولم تتوقف فلول هذه الثورة المضادّة عن مسعاها يوماً، هزيلة جداً كانت، حد السخرية، وبائسة ويائسة، حد الهلوسة والتفرغ لإنتاج الأكاذيب، حتى قرّر العسكريون شراءها، وتحويلها إلى انقلاب صريح، بانت ملامحه قبل الموعد المضروب للتنفيذ بشهور عديدة، ومن ثم فإننا "نضحك على بعض" حين نمحو مفردة "الانقلاب" من سردية الجريمة التي لم تكمل عامها الرابع بعد، ونمنح هذه السلطة شرعية ثورية (وإن كانت مضادّة) تتيح لها القدرة على الزهو بأنها اختيار شعبي سليم.
صبيحة الإعلان الرسمي عن نجاح الانقلاب قلت "يبدو أننا فى حاجةٍ لأن ننسف كل ما عرفناه من علوم سياسية، حتى نقرّ بأن ما جرى في مصر ليس انقلاباً، حتى لو كان أبيض. الوضع، بمنتهى الوضوح، أن المؤسسة العسكرية أقدمت على عزل رئيس جمهورية قادم بالانتخاب، بعد إنذار شديد اللهجة أمهله 48 ساعة لحل الموقف السياسى المعقد.. وبعد ذلك، خرج رئيس الجمهورية طارحاً مبادرةً، أو مجموعة أفكار، لم يكن أحد من الذين قرّروا أن يصرمونها مصبحين للتعامل معها أو الاهتمام بها.. ثم بعد انتهاء المهلة، خرج وزير الدفاع بخارطة مستقبل تتطابق تماماً مع ما طرحه الرئيس، مع فارق وحيد، هو إزاحة الرئيس من المشهد".
في ذلك المناخ المقبض، قلت أيضاً "إن القراءة الموضوعية لبيان القوات المسلحة تقول بجلاء إن الجيش صار مصدر السلطات في مصر، يرفع من يشاء ويسقط من يشاء، مكرّساً سيادة منطق القوة المادية على ما عداها، لتتوارى قيم الديمقراطية المستقرة والمبادئ الدستورية والغايات الثورية، ولتعلو قوة السلاح على قوة العقل والعدل، وندخل زمن "الديمقراطية بالأمر المباشر".
في اليوم التالي، جاء فقيهنا الدستوري وحجتنا القانونية، وواحدٌ من أنبغ وأنبل أعلام الوطنية المصرية، المستشار طارق البشري، بالقول الفصل، حين أدلى بتصريحاتٍ، لا لبس فيها ولا تلبيس، أو تدليس، تقول "إن عملية الإطاحة بالرئيس محمد مرسي، وتعطيل العمل بالدستور، هو انقلاب عسكري صريح على دستور ديمقراطي، أفرزته إرادة شعبية حقيقية.. وأن هذا الدستور خرج إلى النور وتم إقراره بإرادة شعبية كاملة، وفي استفتاء نزيه وشريف، وأعدّته مؤسسة مختارة اختيارًا شعبيًّا غير مباشر، هي الجمعية التأسيسية التي نتجت عن تشكيل مجلسي الشعب والشورى، من خلال انتخاباتٍ برلمانية نزيهة، شهد الجميع بإجرائها بشرفٍ وديمقراطية، بناء على الإعلان الدستوري الصادر في 30 مارس 2011".
رفض البشري "الإطاحة برئيس انتخب على أساس انتخابات حرة ونزيهة، وكان انتخابه من ثمار ثورة 25 يناير التي كان مطلبها الأساسي إقامة نظام ديمقراطي في مصر، وبشكل حقيقي وليس صوريًّا"، مؤكدًا أن هذه الثمار "نكثت بها إجراءات الانقلاب العسكري الذي قامت به المؤسسة العسكرية التي تنتكس على الثورة، وتقيم نظامًا استبداديًّا من جديد".
دعني أذكّرك أيضاً بشهادة واحد من الضمائر الوطنية السامقة، الحقوقي الراحل أحمد سيف الإسلام على ما جرى في مصر، ذلك الصيف البائس من عام 2013، حين قال، في تصريح متلفز على موقع مصر العربية، "إن ما جرى، باختصار، أن الرئيس المدني المنتخب تعرّض لمؤامرةٍ من القادة العسكريين، شاركت فيها بعض الأحزاب والقوى السياسية المدنية، استغلت غضباً شعبياً لإطاحته".
مرة أخرى، إن كنت غير قادر على الجهر بالحقيقة، فالصمت أفضل من إعلان غيرها، وإن كنت عاجزاً عن فعل شيء الآن، فلا تحرق الذاكرة، ولا تلوّث الوعي، ولا تصادر حق أجيال قادمة في التمسك بالحلم الكامل، المستحق.
اسمها فلسطين، وليس إسرائيل.. اسمه انقلاب، وليس ثورة مضادّة.
تجاهُل أن ما جرى ابتداءً من الثلاثين من يونيو/حزيران 2013 وحتى الثالث من الشهر الذي يليه، انقلاب عسكري، مكتملُ المضمون والشكل، هو منتهى العبث بالتاريخ، والاحتقار للذاكرة الوطنية، واعتبار ما جرى "ثورة مضادة" وفقط، هو نوع من منح جدارة أخلاقيةٍ وسياسيةٍ لجريمة اغتصاب للسلطة بالقوة المسلحة، واعتداءٌ على حق ثابت بالدستور وبالثورة وبالإرادة الشعبية.
هل كان عبد الفتاح السيسي في مطلع العام الجديد هديةً أثمن من أن يقال إنه استلم الحكم بموجب ثورة مضادة؟ وهل هناك أفضل من أن تأتيه التسمية، أو بالأحرى الترقية، من الذين يزعمون أنهم خصومه وأنداده والمناضلون ضده؟
الثورة المضادة هي أيضاً فعل جماهيري، وقد بدأت منذ الشهر الأول لتنصيب الشعب الدكتور محمد مرسي رئيساً، في أول انتخاباتٍ حقيقيةٍ تشهدها مصر، ولم تتوقف فلول هذه الثورة المضادّة عن مسعاها يوماً، هزيلة جداً كانت، حد السخرية، وبائسة ويائسة، حد الهلوسة والتفرغ لإنتاج الأكاذيب، حتى قرّر العسكريون شراءها، وتحويلها إلى انقلاب صريح، بانت ملامحه قبل الموعد المضروب للتنفيذ بشهور عديدة، ومن ثم فإننا "نضحك على بعض" حين نمحو مفردة "الانقلاب" من سردية الجريمة التي لم تكمل عامها الرابع بعد، ونمنح هذه السلطة شرعية ثورية (وإن كانت مضادّة) تتيح لها القدرة على الزهو بأنها اختيار شعبي سليم.
صبيحة الإعلان الرسمي عن نجاح الانقلاب قلت "يبدو أننا فى حاجةٍ لأن ننسف كل ما عرفناه من علوم سياسية، حتى نقرّ بأن ما جرى في مصر ليس انقلاباً، حتى لو كان أبيض. الوضع، بمنتهى الوضوح، أن المؤسسة العسكرية أقدمت على عزل رئيس جمهورية قادم بالانتخاب، بعد إنذار شديد اللهجة أمهله 48 ساعة لحل الموقف السياسى المعقد.. وبعد ذلك، خرج رئيس الجمهورية طارحاً مبادرةً، أو مجموعة أفكار، لم يكن أحد من الذين قرّروا أن يصرمونها مصبحين للتعامل معها أو الاهتمام بها.. ثم بعد انتهاء المهلة، خرج وزير الدفاع بخارطة مستقبل تتطابق تماماً مع ما طرحه الرئيس، مع فارق وحيد، هو إزاحة الرئيس من المشهد".
في ذلك المناخ المقبض، قلت أيضاً "إن القراءة الموضوعية لبيان القوات المسلحة تقول بجلاء إن الجيش صار مصدر السلطات في مصر، يرفع من يشاء ويسقط من يشاء، مكرّساً سيادة منطق القوة المادية على ما عداها، لتتوارى قيم الديمقراطية المستقرة والمبادئ الدستورية والغايات الثورية، ولتعلو قوة السلاح على قوة العقل والعدل، وندخل زمن "الديمقراطية بالأمر المباشر".
في اليوم التالي، جاء فقيهنا الدستوري وحجتنا القانونية، وواحدٌ من أنبغ وأنبل أعلام الوطنية المصرية، المستشار طارق البشري، بالقول الفصل، حين أدلى بتصريحاتٍ، لا لبس فيها ولا تلبيس، أو تدليس، تقول "إن عملية الإطاحة بالرئيس محمد مرسي، وتعطيل العمل بالدستور، هو انقلاب عسكري صريح على دستور ديمقراطي، أفرزته إرادة شعبية حقيقية.. وأن هذا الدستور خرج إلى النور وتم إقراره بإرادة شعبية كاملة، وفي استفتاء نزيه وشريف، وأعدّته مؤسسة مختارة اختيارًا شعبيًّا غير مباشر، هي الجمعية التأسيسية التي نتجت عن تشكيل مجلسي الشعب والشورى، من خلال انتخاباتٍ برلمانية نزيهة، شهد الجميع بإجرائها بشرفٍ وديمقراطية، بناء على الإعلان الدستوري الصادر في 30 مارس 2011".
رفض البشري "الإطاحة برئيس انتخب على أساس انتخابات حرة ونزيهة، وكان انتخابه من ثمار ثورة 25 يناير التي كان مطلبها الأساسي إقامة نظام ديمقراطي في مصر، وبشكل حقيقي وليس صوريًّا"، مؤكدًا أن هذه الثمار "نكثت بها إجراءات الانقلاب العسكري الذي قامت به المؤسسة العسكرية التي تنتكس على الثورة، وتقيم نظامًا استبداديًّا من جديد".
دعني أذكّرك أيضاً بشهادة واحد من الضمائر الوطنية السامقة، الحقوقي الراحل أحمد سيف الإسلام على ما جرى في مصر، ذلك الصيف البائس من عام 2013، حين قال، في تصريح متلفز على موقع مصر العربية، "إن ما جرى، باختصار، أن الرئيس المدني المنتخب تعرّض لمؤامرةٍ من القادة العسكريين، شاركت فيها بعض الأحزاب والقوى السياسية المدنية، استغلت غضباً شعبياً لإطاحته".
مرة أخرى، إن كنت غير قادر على الجهر بالحقيقة، فالصمت أفضل من إعلان غيرها، وإن كنت عاجزاً عن فعل شيء الآن، فلا تحرق الذاكرة، ولا تلوّث الوعي، ولا تصادر حق أجيال قادمة في التمسك بالحلم الكامل، المستحق.
اسمها فلسطين، وليس إسرائيل.. اسمه انقلاب، وليس ثورة مضادّة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق