مصر واليابان.. كانت تُعلّمها وصارت تتسوّل العلم منها!
بقلم: صلاح عبد المقصود
قديمًا قالوا:
ليس الفتى من قال كان أبي
إنّ الفتى من يقول ها أنا ذا
لكن الإنقلاب دائما يقول "كان أبي.." وليته كان أباه الحقيقي، أو حتّى زوج أمه، بل كان -للأسف- الاحتلال الإنجليزي.
في كلمته أمام المؤتمر
الاقتصادي، الذي عقد العام الماضي بمدينة شرم الشيخ، تحدث قائد الانقلاب
العسكري عبدالفتاح السيسي قائلا: إن اليابان التي يتعلّم منها العالم الآن
التقدم.. تتعلم هي أيضاً من مصر منذ أكثر من 153 سنة.
السيسي قال: "تتعلّم".. بصيغة المضارع المستمر، أي أنها كانت وما زالت منذ 153 عاماً وحتى الآن تنهل من علوم مصر!
قبل زيارته الأخيرة
لليابان، وأثناءها، وبعدها، دأبت صحف ومواقع وقنوات وإذاعات الانقلاب
العسكري في مصر، على تكرار فكرة تعلّم اليابان من مصر.
والقصّة في حقيقتها تعود
إلى عام 1862 عندما أرسلت اليابان بعثة استكشافية إلى عدد من الدول من
بينها مصر؛ للاطلاع على أوجه نهضتها، وعلى الأفكار التي يمكن اقتباسها
وتطبيقها في اليابان.
نزلت هذه البعثة مدينة
السّويس، ومنها استقلوا القطار إلى القاهرة، حيث قاموا بجولة سياحية استمرت
لثلاثة أيام، زاروا فيها عددا من المعالم السياحية، والتقطوا بعض الصور في
منطقة الأهرامات وأبي الهول، ولا تزال هذه الصور محفوظة حتى الآن في متحف
البرلمان الياباني. بعدها سافر أعضاء البعثة إلى الإسكندرية بالقطار أيضاً
ثم عادوا مرة أخرى إلى القاهرة ومنها إلى السويس.
أحد أعضاء البعثة وهو
"يوكو أتشه فوكو زاوا"، وهو بالمناسبة أحد رواد الإصلاح اليابانيين، وصورته
مطبوعة على أكبر فئات العملة اليابانية اليوم، هذا الرجل سجّل في مذكراته
انبهار البعثة بقطار السكة الحديد وسرعته، وهو الاختراع الذي لم تكن
اليابان قد عرفته آنذاك، كذلك أبدوا إعجابهم بنظافة القاهرة وحماماتها،
وباختراع التلغراف الذي كان موجوداً في مصر حينئذ..
إعلام الانقلاب يسوق هذه
الوقائع باعتبارها إنجازاً مصريًّا خالصاً، ولم يذكر أن الذي أدخل القطارات
والسكك الحديدية هم الإنجليز، عندما كانوا يحتلون مصر، وكانت إمبراطوريتهم
لا تغيب عنها الشمس، كذلك أدخلوا كل الوسائل الحديثة التي كانت في
بريطانيا في ذلك العصر، حيث كانت مصر هي أهم المستعمرات البريطانية، وكانت
هي الدولة الثانية التي ينقل إليها الإنجليز كل اختراع يصلون إليه.
لم يكن الإنجليز وحدهم في مصر آنذاك، بل كان الفرنسيون أيضاً الذين أشرفوا على حفر قناة السويس
(1859-1869) كذلك كان الإيطاليون بالإسكندرية..
ولم يكتف إعلام الانقلاب
بذكر إعجاب البعثة اليابانية باختراع القطار والتلغرام على أنه اختراع
مصري، بل ساق العديد من القصص التي تُظهر تقدم مصر الماضي، على بقية دول
العالم الذي كان متخلفاً من قبيل: أن فرنسا لم تكن تعرف الزرافة إلا عندما
قام والي مصر محمد علي باشا بإهداء ملك فرنسا شارل العاشر زرافة أرسلها
إليه عبر البحر المتوسط، وعندما رآها الملك والشعب الفرنسي آنذاك أبدوا
دهشتهم وإعجابهم الشديد لهذا الحيوان صاحب الرقبة الطويلة الذي لم يعرفوه
من قبل!
ولم تتوقف حملة إعلام
الانقلاب في تسويق شعار: تحيا مصر عند هذا الحد، بل ذكر أن مصر الآباء
والأجداد منحت بلجيكا عام 1918 مساعدة مالية قدرها 500 ألف فرنك فرنسي، وأن
ملكة بلجيكا، الملكة إليزابيث كتبت خطاباً بيدها شكرت فيه شعب مصر على
كرمه وسخائه العظيم.
كما قدمت مصر قرضاً لبريطانيا العظمى في أعقاب الحرب العالمية الأولى تقدر قيمته بعملة اليوم بتسعة وثلاثين مليار دولار.
والأكثر من ذلك أن كوريا
الجنوبية أرسلت بعثة إلى مصر في عام 1962 لنقل بعض التجارب الناجحة من مصر
إلى كوريا التي كانت تعاني يومها من الفقر والجهل، وكانت معظم شوارع
العاصمة سيول غير مرصوفة، والمياه النقية غير موجودة إلا في الفنادق وأحياء
الأغنياء، كما أن معظم قراها لا تعرف الكهرباء.
حتى عند الحديث عن انهيار
العملة الوطنية "الجنيه المصري" أمام الدولار ووصول الأخير إلى تسعة
جنيهات ونصف الجنيه في عهد الانقلاب، بعد أن كان في عهد الرئيس مرسي بستة
جنيهات ونصف الجنيه، ورغم ذلك يسحبون الناس إلى الماضي.. إلى بداية
الخمسينيات عندما كان الجنيه الواحد بأربعة دولارات، ولم يقولوا للناس أن
سبب الخراب والانهيار هو حكم العسكر الذي تسلم البلاد منذ أربعة وستين
عاماً، ولم يتركها إلا عاماً واحداً للرئيس المنتخب، الذي لم يُعطَ الفرصة
للحكم وتنفيذ برنامجه، بل انقلبوا عليه، وأودعوه في السجن، ولفقوا له سبع
قضايا جنائية!
وهكذا تستمر أسطوانة
الغناء على الماضي وكيف كنا، ولا نقول للناس أن دخل العامل الياباني اليوم
20 ضعف نظيره المصري، ودخل العامل في كوريا الجنوبية اليوم 15 ضعف نظيره
المصري، بعد أن كان في الستينيات 640 دولاراً. ولا نقول للناس أن راتب
العامل البسيط في كلتا الدولتين آلاف الدولارات شهريًّا.
وأن اقتصاد اليابان اليوم
هو ثالث أقوى اقتصاد على مستوى العالم، وأن كوريا الجنوبية تحتل اليوم
مرتبة عالية في صناعة السيارات والإليكترونيات، وأن ميزانية شركة واحدة من
عشرات الشركات اليابانية أو الكورية الكثيرة.. تفوق أضعاف ميزانية الدولة
المصرية الآن!
لقد سلّم الانقلاب منابر
الإعلام والتوجيه لمجموعة من محترفي الكذب والتضليل، وبث الدعايات
والشائعات، يحاولون تخدير المواطنين بحكايات الماضي، ودغدغة عواطفهم بأحلام
المستقبل، أما الواقع المر الذي يعيشه المواطن فيصرفونه عنه بأخبار
الجريمة، وقصص الجنس، وحكايات أهل الفن، وخناقات برلمان الدم، وشعارات تحيا
مصر، وصبّح على مصر بجنيه.
لم يصارح هذا الإعلام
شعبه بأن سبب البلاء الذي تعيشه مصر منذ أربعة وستين عاماً هو حكم العسكر
الذين يفتقدون أدنى مقومات إدارة البلاد على أسس علمية.
لم يصارح الإعلام شعبه
بأن العسكر لا يعرفون إلا الخداع والتضليل، والحديث عن إنجازات الأجداد،
وتضليل الشعب بأخبار كاذبة لا أساس لها من الصحة.
منذ خمسين عاما بشّروا
الشعب بأننا صنعنا أعظم صاروخين (القاهر والظافر) يستطيع كل منهما أن يدك
تل أبيب، كذلك روجوا لتصنيع طائرة مقاتلة (القاهرة 200) فإذا بإسرائيل تحتل
سيناء ومدن القناة في حرب الست ساعات ولم يعد بينها وبين الوصول إلى
العاصمة إلا 80 كيلومتراً!
نعم بشّروا بهذه الصناعات منذ خمسين عاماً، وما زلنا نستورد التوك توك من الخارج!
وها هو إعلام الإنقلاب
يواصل مسلسل الكذب الذي أدمنه مع سيطرة العسكر على الحكم، بالحديث عن
الإنجازات، تارة بالترويج لجهاز علاج الفيروسات التي تفتك بالمصريين، والذي
أطلق عليه جهاز الكفتة، إلى بناء مليون وحدة سكنية، إلى استصلاح مليون
ونصف المليون فدان، وتارة بالحديث عن إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة التي
ستكون أعظم مدينة، ثم قناة السويس الجديدة التي ستأتي بالرخاء، ثم جني
الاستثمارات التي تقدر بـ200 مليار دولار، والتي جلبها مؤتمر شرم الشيخ
الاقتصادي.
لقد زار قائد الانقلاب
اليابان التي قال إنها تتعلّم من مصر منذ 153 عاماً، وللطرافة فقد ذهب
ليتسوّل منها العلم، ووعدته بتوفير 2500 منحة دراسية للطلاب المصريين على
خمس سنوات..
ونسيت اليابان أو تناست
أن قائد الانقلاب ضد العلم والمتعلمين، فقد انقلب على الرئيس العالِم الذي
جاء لحكم مصر عبر انتخابات حرة نزيهة.
نعم انقلب على الرئيس
مرسي صاحب أول دراسة علمية في مصر عن استخدام الطاقة الشمسية، والتي كانت
موضوع رسالته للماجستير عام 1978، كما أنه صاحب تجارب اختراع نوعية خاصة من
المعادن التي تتحمل السخونة الفائقة الناتجة عن السرعة العالية للصواريخ
العابرة للفضاء! الرجل الذي درس ودرّس في أرقى جامعات أميركا وغيرها.
كما تناست اليابان أن
زائرها يسجن حالياً الآلاف من العلماء، والأطباء، والمهندسين، وأساتذة
الجامعات، والمدرسين، ولم تنتبه إلى قيام 3500 طالب جامعي بأداء امتحانات
نصف العام من داخل السجون. وتهمة كل هؤلاء معارضة الانقلاب العسكري الدموي
الفاشي!
نسيت أن العلم لا يجتمع مع الاستبداد، وأن النهضة لا تتولد عن القمع والقهر.
أنار الله بصيرة الدول الراعية للانقلاب.. وأنقذ مصر وشعبها من الانقلابيين.
---
وزير الإعلام بحكومة د. هشام قنديل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق