وثيقة الثورة الدائمة
بقلم: د. عمرو عادل
استطاعت عدة عوامل - ليس هذا مجال تحليلها- أن تبتعد بنا كثيرا عن الطريق الذى بدأناه من 1400 عام أو يزيد وربما أبعد من ذلك بكثير.
فى
مثل هذا اليوم؛ يوم عاشوراء؛ منذ زمن بعيد، أنقذ الله موسى عليه السلام
وهو خارج بقومه، من الطاغية فرعون، وفى مثل هذا اليوم قتل البغاة سيد
الشهداء الحسين رضى الله عنه. وهو اليوم الذى استوت فيه السفينة على
الجودى، فصامه نوح عليه السلام شكرا، فى رواية الإمام أحمد.
كلهم ثاروا على فساد؛ نبيان مرسلان من الله بوحى، والثالث فهم ما يعنيه كتاب الله وأصر على استكمال ثورته حتى وإن مات دونها.
عاشوراء
ليست يوما لأكل القمح المخبوز باللبن فقط، ولكنه بالأساس يوم لتذكر روح
الثورة التى يمتلئ بها تاريخنا، ولنتذكر أننا أحق بالثورة من جميع الأمم
كما قال النبى محمد صلى الله عليه وسلم: "أنتم أحق بموسى منهم".
مشاهد كثيرة أخرى تتفق مع هذين المشهدين:
عبد
الله بن الزبير الذى تمت بيعته من معظم الأقطار وقاتله بنو أمية على
الخلافة، وقاتل حتى النهاية فى مكة المكرمة، ودك عليه الحجاج بن يوسف البيت
الحرام وصلب جسده حتى تشفعت أمه "أسماء بنت أبى بكر" له عند عبد الملك بن
مروان الخليفة الأموى.
الإمام أحمد بن حنبل ووقوفه أمام الجميع فى مقاومة انحراف فكرى هائل.
والإمام ابن تيمية فى دفاعه عن ثوابت الأمة والدين.
والمشهد الرئيسى هو حياة الرسول عليه السلام منذ البعثة إلى وفاته نجده حالة ثورية مستمرة لا تنقطع.
فكل تفصيلة فى حياته كانت عملا ثوريا، وكان القرآن كلام الله "تلك الوثيقة الثورية الشاملة" هو مرشده وهاديه.
كل سورة وكل صفحة، بل ربما كل آية فى القرآن هى دعوة للثورة؛ ثورة من أجل العدالة وتحرير الإنسان من القيود التى تخرجه من إنسانيته؛ قيود العبودية والمفاهيم المتوارثة التى ما أنزل الله بها من سلطان، التى ترسخ لمصالح طبقية وإثنية على حساب العدالة والمساواة. ثورة لتحرير العقل والخروج من عالم الخرافات والدجل ولتوجيه العقل للبحث عن الحقيقة (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ) [سورة العنكبوت: من الآية 20] .
كل سورة وكل صفحة، بل ربما كل آية فى القرآن هى دعوة للثورة؛ ثورة من أجل العدالة وتحرير الإنسان من القيود التى تخرجه من إنسانيته؛ قيود العبودية والمفاهيم المتوارثة التى ما أنزل الله بها من سلطان، التى ترسخ لمصالح طبقية وإثنية على حساب العدالة والمساواة. ثورة لتحرير العقل والخروج من عالم الخرافات والدجل ولتوجيه العقل للبحث عن الحقيقة (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ) [سورة العنكبوت: من الآية 20] .
لقد فعل موسى ونوح وكل الأنبياء عليهم السلام ذلك، وكانت حياتهم ثورة متصلة على القهر والطغيان. فعل
الحسين وعبد الله بن الزبير ذلك، وأبوا أن يعود الناس إلى العبودية مرة
أخرى ولا يهم نجاحهم من عدمه، فقد نحتوا فى التاريخ نماذج ثورية فى قلب
العقيدة الإسلامية ستظل حية ملهمة مهما مر الزمن عليها.
لم
يكن هؤلاء كـ"دون كيشوت" يحاربون الوهم وطواحين الهواء، ولكنهم كانوا
يعلمون أن تراجعهم سيثبت ما ليس حقا، ولكنهم أكملوا طريقهم الملغوم ليرسخوا
فكرة عميقة داخل الفكر الإسلامى تهافت الكثيرون عليها لينزعوها نزعا، وكان
على الحسين وابن الزبير أن يقتلوا دونها حتى تبقى حية باستشهادهم.
لقد
انهارت الأمة وانهار بناؤها؛ لأنها لم تجد تلك النخبة الحقيقية التى تمتلك
إرادة التحرر وإرادة الثورة، وكانت تستعيد عافيتها مرحليا بأشخاص أفذاذ،
وسرعان ما تعود إلى ما كانت عليه عند غيابهم لغياب الأطر الفكرية الحاكمة
وللتدمير المتتالى لفكرة الثورة داخل البناء الفكرى الإسلامى على مر العصور.
انهارت عندما انحرف المسار وأصبحت الآية الكريمة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ)
[سورة النساء: من الآية 59] والتى تلزم أولى الأمر بطاعة الله والرسول قبل
المحكومين؛ تحولت إلى أطيعوا أولى الأمر وسنضبط النصوص على مبتغاهم على يد
علماء السلطان وكأن الحكام آلهة فى جبال الأوليمب اليونانية.
انهارت عندما تحول عالم الدين إلى رجل دين يتحدث كرجال الأكريلوس ويلبس زيا مختلفا.
انهارت
عندما وجدنا مجلدات لا حصر لها فى فقه الحيض والنفاس وإسباغ الوضوء
والجنابة ولم نجد شيئا عن العدالة والحرية والقيم والأخلاق وعلوم الاجتماع
ومفاهيم الأدب والثقافة.
إنها
حكاية طويلة جدا من الضربات الخفيفة المتتالية، ولكنها مع طول الزمن
أبعدتنا عن الطريق الذى رسمته لنا وثيقة الثورة وأصبحت – ياللعجب – فكرة
الحاكم المتغلب أعلى من كل أفكار التحرر التى يمتلئ بها كتاب الله.
"لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها"،
ولقد صلح أول الأمة عندما امتلكوا إرادة حديدية لم تثنيهم عن تحرير العالم
من الجهل والعبودية؛ عندما تعذبوا وقتلوا وهاجروا وأممت أموالهم ولم
ينكسروا؛ عندما انتصروا وهزموا ولم يفتنهم النصر أو تحبطهم الهزيمة؛ عندما
فهموا روح الثورة الموجودة فى كل مشهد من مشاهد القرآن العظيمة التى تمتلئ
بها آياته. عندما كانوا يدركون ما معنى الأمة وما معنى الجماعة فهى ليست
صفوفا ومراسم ولكنها طريقة لرؤية العالم؛ يقول على عزت بيجوفيتش: "ليست
الصلاة مجرد تعبير عن موقف الإسلام من العالم؛ إنما أيضا انعكاس للطريقة
التى يريد الإسلام بها تنظيم هذا العالم".
استطاعت
تلك الفترة التى لا تزيد عن أربعين عاما أن تدفع الأمة ستة قرون كاملة من
الريادة والتفوق والعلم والتنوير بالرغم من الصراعات الداخلية العنيفة التى
امتلأت بها الأمة.
سينصلح آخر الأمة عندما نمتلك أجيالا كمحمد عليه الصلاة والسلام ورجاله، وموسى والحسين وابن الزبير.
سينصلح
آخرها عندما نتبع الوثيقة الثورية الدائمة التى تدفعنا دفعا إلى تحرير
العالم من طواغيته وظلمه. سينصلح آخرها عندما ندرك أننا أصحاب حلم لإنقاذ
البشرية من تراكم القهر والفساد الذى نما عندما ابتعدنا عن المعانى
الحقيقية لوثيقة الثورة العظمى وانسحبنا إلى فتاوى الحيض والنفاس ومجلدات
الوضوء.
يقول الإمام الشهيد حسن البنا: "لقد نسى الجميع أن الإسلام فى غايته ووسيلته ثورة كبرى؛ تتضاءل دونها نظريا وعمليا وتاريخيا آثار الثورة الفرنسية أو الثورة الروسية".
يقول الإمام الشهيد حسن البنا: "لقد نسى الجميع أن الإسلام فى غايته ووسيلته ثورة كبرى؛ تتضاءل دونها نظريا وعمليا وتاريخيا آثار الثورة الفرنسية أو الثورة الروسية".
فى
العصر الحديث قامت ثورات مادية مؤدلجة كبرى استطاعت السيطرة على العالم،
وينتظر الجميع الموجة القادمة من الثورة الإسلامية، وهى ثورة فكرية كبرى
وثورة دفاع عن العدل والحق وليست كما يروج لها الأفاقون وما يمارسها
الجهلة؛ ثورة تعيد للإنسان إنسانيته وتحرره من طغيان المادة وتعلى من قيمة
العدل والحرية فى إطار إنسانى غير مادى.
فهل نحن مؤهلون لذلك؟ ندعو الله أن نكون.
____________________
عضو الهيئة العليا لحزب الوسط
عضو الهيئة العليا لحزب الوسط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق